بدأت ككلّ يوم جمعة بترتيب لحيتي وإحفاء شاربي... اقترفت بعض الحركات المساعدة على ذلك... خطر ببالي والدي - بارك الله في عمره - وهو يحلق ذقنه... ينظر في مرآته الصغيرة... يستعين بذات الحركات التي قمت ببعضها للاستقواء على قص الشعر الواقع في المنخفضات التي عسّر الدّخول إليها غياب اللحم المحتجّ على سوء التغذية بسبب قلّة ذات اليد... وخطرت ببالي والدي الكريمة رحمها الله وطيّب ثراها، وهي تقوم بحركات عجيبة تحاكي بها حركات الوالد... تداعبه... تتفنّن في التودّد إليه بلغة يتقنها المتحابّون ولا يفهمها إلّا المتحابّون!... كنت تراه يستعمل مرآته الصغيرة الرحبة يلتقط بها صور ذلك الطيف الجميل الحائم وراءه... كان يبالغ في التخفّي واللامبالاة حتّى إذا اطمأنّت الوالدة، نضحها بماء كانت تظنّه موجّها لتنشيط الرّغوة في وجهه!... تتبلّل الوالدة رحمها الله... تسمع منها "شعرا" يعجب الوالد كثيرا ويطرب له... يُضحكه ويملؤنا سعادة... سوف تستعجبه أنت إذا حضرت أوّل مرّة، كيف تسبّ امرأة زوجها... ولكنّا عرفنا أنّه عديم العلاقة بالسبّ أو الشتم، بل هو وسيلة يحلّ بها الضحك بينهما رحمها الله ورحمه... تتعطّل الحلاقة... ثمّ تستمرّ بعد استراحة لله درّ الاستراحات أمثالها!... ثمّ يحكي لي أخواتي عن آخر أيّام والدتي رحمها الله تعالى... كيف نما الحب بينهما وتطوّر حتّى لكأنّه ما حلّ ببيت غير بيتهما... كانا متحابّين حتّى ما قوي أبي على الحياة بعد هروب الحياة من ساحة أمّي لمّا أسلمتها للحياة!... تقول والدتي أنّها ما أكلت في حياتها ألذّ ممّا طبخ لها أبي أيّام عجزها، ويشقى أبي بعدها إذ لم يجد من يذكّره بلذّة أكلة أمّي زمن فقره وفقرها... زمن كان اللحم يقاطعنا... زمن كنّا نعتمد حمية الحاجة... زمن كان غداؤنا ينوب عن عشائنا أو ينوب عشاؤنا عن غدائنا تبعا لأحكام الحاجة!... جميلة تلك الحياة المحتاجة إلى وسائل الحياة... بديع ذلك الاحتياج الملجئ إلى سكن بين أفراد العائلة يساعدهم على الحياة!... فإنّا والله ما شقينا إلّا لمّا شبعنا، وإنّا والله ما انقطعنا إلّا لمّا بكثرة الوسائل اتّصلنا!...
رحم الله فاطمة رحمة واسعة وبارك الله في حمودة وفي عمره، والحمد لله الذي جعل بهما في هذه الدنيا الفانية صنفا من الحياة... نسأل الله حسن الخاتمة...