وزير الداخلية: حجز أكثر من 4 كغ من الكوكايين    نائب محلي بعد سقوط سقف قاعة تدريس في فرنانة: "نبهنا مسبقًا إلى وضعية البنية التحتية للمؤسسات التربوية"    وزير الداخلية: برمجة انتداب 2900 خطة جديدة لفائدة الأسلاك الثلاثة    عاجل-فرنانة: تفاصيل حادثة سقوط السقف وسط قاعة التدريس!    وزير السياحة يبحث مع نظيرته الإيطالية سبل تطوير التعاون الثنائي في المجال السياحي    بقرار أمريكي.. سوريا تستعيد حضورها في قلب واشنطن    مجلس الشيوخ الأمريكي يقرّ مشروع قانون لإنهاء الإغلاق الحكومي    الكنيست الإسرائيلي يصادق على مشروع قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين في القراءة الأولى    عاجل: تقديم توقيت المباراتين الوديتين للمنتخب التونسي أمام موريتانيا والأردن    تقديم المباراتين الوديتين للمنتخب التونسي امام موريتانيا والاردن الى الساعة 17 و45 دقيقة عوضا عن الساعة السادسة ونصف مساء    كيف سيكون طقس الثلاثاء 11 نوفمبر؟    ياخي الشتاء بدا يقرّب؟ شوف شنوّة يقول المعهد الوطني للرصد الجوي!    وزير الداخلية: حجز أكثر من 4 كلغ من الكوكايين و"حرب شاملة" ضد شبكات التهريب    العراق ينتخب.. ماذا سيحدث من يوم الاقتراع لإعلان النتائج؟    رئيسة الغرفة الوطنية لمنتجي الزياتين: الأسعار الحالية لا تغطي كلفة الإنتاج والفلاحون في انتظار تنفيذ القرارات الرئاسية    مجدي الكرباعي يكشف عن "مافيا بيئية" تنشط بين تونس وايطاليا من خلال تجارة الملابس المستعملة    ترامب: أنا على وفاق مع الرئيس السوري وسنفعل كل ما بوسعنا لجعل سوريا ناجحة    المحامية دليلة مصدّق تؤكّد أن صحة شقيقها جوهر بن مبارك في خطر رغم زيارة الطبيب له    نواب مجلس الجهات والأقاليم يثيرون استقلالية المجالس المنتخبة وعلاقتها بالسلط الجهوية والمحلية    تونس/الصين: بحث سبل تعزيز التعاون السياحي    افتتاح الوحدة الثالثة في تونس للشركة العالمية في صناعة الأدوية " حكمة" بقيمة استثمارية تقدر ب 50 مليون دينار    4 أطعمة ترفع نسبة السكر في الدم..تعرف عليها..    هذا النجم المصري يعلن انفصاله رسمياً عن زوجته... التفاصيل    ظاهرة طبية مقلقة: عندما تسبّب الأدوية الألم بدلاً من تخفيفه... كيف ذلك؟    الدكتور صالح باجية (نفطة) .. باحث ومفكر حمل مشعل الفكر والمعرفة    مونديال تحت 17 عاما: المنتخب التونسي يترشح إلى الدور السادس عشر    المهرجان العالمي للخبز ..فتح باب الترشّح لمسابقة «أفضل خباز في تونس 2025»    جندوبة: تتويج المدرسة الابتدائية ريغة بالجائزة الوطنية للعمل المتميّز في المقاربة التربوية    عاجل: لبنان: الإفراج عن هانيبال القذافي    صدور العدد الجديد لنشرية "فتاوي تونسية" عن ديوان الإفتاء    بنزرت: إنتشال 5 جثث لفضتها الأمواج في عدد من شواطئ بنزرت الجنوبية    قابس: تنظيم أيام صناعة المحتوى الرقمي من 14 الى 16 نوفمبر    المتلوي: وفاة ستيني بعد إصابته بطلق ناري من سلاحه    مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي: كافية الراجحي تتحصل على جائزة البحث العلمي وعملان تونسيان ضمن المُسابقات الرسمية    الرابطة الثانية: التعادل السلبي يحسم لقاء سبورتينغ بن عروس وسكك الحديد الصفاقسي    يوسف بلايلي يُعلن إصابته ويودّع الجماهير برسالة مؤثرة    عاجل/ وزير التجارة: صابة قياسيّة في زيت الزيتون والتمور والقوارص    بعد 20 يوما من سجنه: هذا ما تقرّر في حق ساركوزي..#خبر_عاجل    ميزانية 2026: تطور بأكثر من 8٪ في ميزانية وزارة التربية المقترحة    تقلبات جديدة ..كيف سيكون الطقس طيلة هذا الأسبوع؟..    تحوير جزئي لمسلك خطي الحافلة رقم 104 و 30    الترجي الرياضي: نهاية موسم "يوسف بلايلي"    الأهلي بطل للسوبر المصري للمرة ال16 في تاريخه    كميات الأمطار المسجّلة خلال ال24 ساعة الماضية    سليانة: تقدم موسم البذر بنسبة 30 بالمائة في ما يتعلق بالحبوب و79 بالمائة في الأعلاف    عاجل: الزّبدة مفقودة في تونس...الأسباب    عاجل: هذه الدول العربية تحت تأثير الكتلة الحارة    علاش فضل شاكر غايب في مهرجانات تونس الصيفية؟    عاجل: غلق 3 مطاعم بالقيروان...والسبب صادم    دواء كثيرون يستخدمونه لتحسين النوم.. فهل يرتبط تناوله لفترات طويلة بزيادة خطر فشل القلب؟    أفضل 10 طرق طبيعية لتجاوز خمول فصل الخريف    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    عاجل/ فاجعة تهز هذه المعتمدية..    محمد صبحي يتعرض لوعكة صحية مفاجئة ويُنقل للمستشفى    رواج لافت للمسلسلات المنتجة بالذكاء الاصطناعي في الصين    الشرع أول رئيس سوري يزور البيت الأبيض    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما وراء الحصار الثاني
نشر في الحوار نت يوم 29 - 06 - 2017

من بين كل المطالب السريالية التي تقدّم بها الجيران الجائرون لرفع الحصار عن قطر؛ المطلب "المنطقي" الوحيد هو المتعلّق بالقضاء على قناة الجزيرة، لماذا؟ لأنه لا أحد يستطيع تصوّر انطلاق الربيع العربي -الذي شكّل أخطر وآخر تهديد للأنظمة الاستبدادية العربية- دون "الجزيرة".
هذا الربيع ليس له سبب واحد أو أب واحد، وإنما أسباب عدة وآباء كُثر. لكن من الثابت أن من بين الأسباب دور القناة، ومن بين الآباء رجل سيضعه المؤرخون في مقدمة القائمة، وهو الذي أسّسها عام 1996 وحماها منذئذ، متحملا ضغوطا تهدّ الجبال الرواسي.
إنه الأمير حمد بن خليفة آل ثاني. ويا لرمزية أن يكون من بين آباء الربيع العربي محمد البوعزيزي، بائع الخضر الذي انتحر لأنه لا يجد عشاء ليلة، إلى جانب أمير إحدى أغنى دول العالم.
سؤال نادرا ما يُطرح: لماذا لعب الرجل دورا بمثل خطورة إعمال المعول في الأنظمة الاستبدادية الفاسدة السائدة آنذاك في كل أرجاء الوطن العربي، وكل العوامل الموضوعية تؤهل النظام القطري ليكون واحدا منها؟
الظاهرة غير مفهومة بالتحليل التاريخي الكلاسيكي، كما يحبّه المؤرخون الماركسيون خاصة. فبنية قطر الثقافية والاجتماعية والاقتصادية منتصف التسعينيات لم تكن تختلف في شيء عن بنية السعودية والإمارات والبحرين.
"الربيع العربي ليس له سبب واحد أو أب واحد، وإنما أسباب عدة وآباء كُثر. لكن من الثابت أن من بين الأسباب دور قناة الجزيرة، ومن بين الآباء رجل سيضعه المؤرخون في مقدمة القائمة، وهو الذي أسّسها عام 1996 وحماها منذئذ، متحملا ضغوطا تهدّ الجبال الرواسي، إنه الأمير حمد بن خليفة آل ثاني"
ما الذي جعل قطر تخرج إذن -منذ تلك الفترة- على محيطها، و"الجزيرة" رمز هذا الخروج وأداته الأخطر؟
هنا يتدخل عامل الشخص الذي لا تعيره النظريات البنيوية للتاريخ الأهمية التي يستحقها، رغم أن أول من اكتشف النار والبخار ونواة الذرة لم يكن جمعا أو قوة عمياء، وإنما هو شخص عرف استغلال ظروف موضوعية، وغيّر بمفرده مجرى التاريخ.
هذا العامل الذاتي المؤثر على ديناميكية العوامل الموضوعية، هو -في قضية الحال- الذكاء غير العادي لشخص غير عادي.
فالأمير حمد، فهِم ما لم يفهمه من يحاصرون اليوم بلده. هو فهم أن النظام السياسي القديم انتهى، وأن النخب الفاسدة المكروهة من شعوبها ستنقرض مثلما انقرضت في أوروبا وأميركا، وأنه لم يعد هنالك مجال للوصول للعقول والقلوب إلا بالاصطفاف إلى جانب الشعوب، والتجاوب مع آلامها وآمالها.
بطبيعة الحال لا مجال لتفسير الأمر بالقومية كما يفهمها ويمارسها بشار بن أبيه.
ماذا وراء الخيار إذن؟ محرّك الخيار لم يكن لا الديمقراطية ولا الثورية (أو الثورجية كما يسميها أعداء الربيع العربي)، وإنما ما يمكن تسميته الوطنية العربية، أي الشعور بالغيرة على مصلحة العرب أينما كانوا، والوقوف مع شعوب الأمة بدعمها معنويا وماديا.
فإذا أرادت الشعوب الثورة، فالوطنية العربية مع الثورة. وإن هي أرادت الديمقراطية، فالوطنية العربية مع حق هذه الشعوب في الديمقراطية. في كل الحالات هي دوما في صفّ المقاومة، التي تمثلها اليوم حركة حماس
التي قبِلت دول النظام القديم أن تصنّفها في خانة الإرهاب، وأن تضرب عليها الحصار الأول عندما استولى السيسي على الحكم ليمسح ثورة 25 يناير المجيدة.
باعتمادها هذه الوطنية العربية التي كانت "الجزيرة" لسانها، استطاعت قطر أن تضرب ألف عصفور بحجر واحد.
حين لم يستقطب الاستبدادُ الخليجي وغير الخليجي إلا سقط المتاع من مرتزقة السياسة والثقافة وسلاحه الوحيد "الرز"؛ استطاعت قطر أن تستقطب -بما وفرته من حرية- خيرة العقول وأنظف السياسيين، وأن تجعل من الدوحة أهم عاصمة عربية إعلاميا وثقافيا.
كما استطاعت أن تبني لها قوة سياسية تفوق حجمها السكاني بكثير، وأن تلعب دورا رئيسا في أحداث الربيع العربي الذي يظن الأغبياء أنه انتهى، والحال أنه في بداياته.
لا غرابة في هذه الحالة أن تصبح قطر العدوّ الأول لأنظمة الاستبداد، خاصة أن الابن من منظورها أضاف "خيانة" جديدة ل"خيانة" الأب. فالأمير تميم لم يكتف بمواصلة مسيرة والده، بل زاد من الشعر بيتا وهو يؤسس جائزة دولية لمحاربة الفساد، والكل يعلم كم الفساد هو النواة والركيزة الأساسية لهذه الأنظمة.
***
هنا لا بدّ من وقف التحديق في الشجرة التي تحجب الغابة، وأخذ نظرة شاملة تضع الحصار الثاني والأول في أوسع سياق، ألا وهو تاريخ النظام السياسي العربي ككل.
مغزى الصراع حول قطر اليوم أكبرُ بكثير من غضبة مزمنة من أول قناة عربية، أو تنافس بين أنظمة خليجية، أو بالطبع من حسد وغيرة فاشلين تجاه ناجحين.
للإيجاز والولوج مباشرة إلى لبّ الموضوع؛ هذه ملاحظات تضع الأمر في نطاقه الأوسع، أي في إطار الصراع الجبار والمصيري للأمة بين النظام السياسي القديم الذي لم يمت بعدُ، والنظام الجديد الذي ما زال في طور الولادة، حسب التعبير الشهير للفيلسوفة الألمانية هنّا أرندت:
1- النظام السياسي العربي الحالي -خلافا لما يتصوره البعض- ليس جديدا إلا في مظهره وإخراجه. هو في جوهره -سواء أكان ملكيا أو"جمهوريا"، "حداثيا" أو"إسلاميا"، "مدنيا" أو عسكريا- ذلك النظام الذي وصفه (ولم يدعُ إليه) عبد الرحمن بن خلدون منذ ستة قرون.
إنه نظام العصبية المبني على تصوّر السلطة -بما هي نفوذ وثروة واعتبار- غنيمةَ حرب توزَّع بين المنتصرين، وهم دوما طائفة أو قبيلة أو مؤسسة عسكرية، يجمعها أقصى قدر ممكن من التضامن للحفاظ جماعيا على ما سلبوه بالثورة أو بالحيلة من الآخرين.
2- مثل هذا النظام -بتقسيمه المجتمع إلى سادة ورعايا- لا يفرز إلا الظلم والتمرّد، وتوجّسا مزمنا لكل الأطراف من بعضها. إنه وضع خطير متقلّب، الحاكم فيه مثل راكب حصان جامح، يمكن أن يلقي به في كل لحظة على الأرض فتتكسّر فقرات عنقه.
لا يوجد بيد الحاكم "الخلدوني" لترويض الحصان الخطير إلا نفس الأدوات منذ بداية انتصاب مثل هذا النظام:
- شراء الضمائر، وهذا ما يجعل الفساد والإفساد ركنا أساسيا لديمومته.
- السيطرة على العقول بالسيطرة على منابر المساجد، واليوم على منابر وسائل الإعلام.
- العنف بكل مظاهره وخاصة التعذيب، لزرع الخوف والثني عن كل مطلب محاسبة، وبالطبع بحجة محاربة الإرهاب. وبخصوص هذا الأخير، لم أعد أصدّق أن أصحاب القرار في الغرب يجهلون أنه من المنتوجات الإجبارية للنظام السياسي العربي القديم.
هو بداهة نتاج ظلمه وفساده. هو نتاج التعذيب الوحشي في سجونه، وهو نتاج تلفزيوناته في الثمانينيات التي كانت تدعي محاربة اليسار بالخطاب الديني. وهو نتاج مخابراته التي تخترق وتستعمل المجموعات الإرهابية لحشد دعم الغرب والطبقات الوسطى.
الإرهاب إذن ملتصق بالنظام العربي القديم التصاق الظل بالماشي في الشمس، والانتهاء منه لا يكون إلا بنهاية النظام الذي ولّده.
لكن أصحاب القرار في الغرب بحاجة لهذا الإرهاب حاجة النظام القديم إليه، فهو يكفل لهم السيطرة على الأنظمة وعبرها على الشعوب العربية وحتى على شعوبهم. وفي آخر المطاف، ما التكلفة بالنسبة لهم؟ 1% ضحايا من الغربيين و99% من العرب والمسلمين، مما يعني أن اتهام قطر بالإرهاب قمة المكر وسوء النية وقلب الحقائق.
"أصحاب القرار في الغرب بحاجة للإرهاب حاجة النظام العربي القديم إليه، فهو يكفل لهم السيطرة على الأنظمة وعبرها على الشعوب العربية وحتى على شعوبهم. وفي آخر المطاف، ما التكلفة بالنسبة لهم؟ 1% ضحايا من الغربيين و99% من العرب والمسلمين، مما يعني أن اتهام قطر بالإرهاب قمة المكر وسوء النية وقلب الحقائق"
3- ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي التي شهد فيها العالم اكتساح الموجة الإسلامية والموجة الديمقراطية تقريبا في نفس الوقت، دخل النظام القروسطي مرحلة النزع الأخير.
فالمجتمعات العربية شهدت نقلة نوعية لم تعرفها من قبل؛ فتزايد الطلب على الحريات، وأصبح الفساد مرفوضا من قطاعات متزايدة، وولّد القمع حركات مقاومة سلمية أو عنيفة تزداد تجذرا وقوة.
أما معركة القلوب والعقول فقد خُسرت تماما، إذ أفلتت منابر المساجد لتكون صوت التمرّد الإسلامي وولّد بعضها حركات إرهابية، وأفلتت المنابر الإعلامية البالغة التعدد والتنوع لتكون صوت الرفض الديمقراطي.
وقضى الإنترنت مجددا على آخر وهم بالسيطرة على فكر ومخيلة الشعوب. ثم تدفقت الأجيال الجديدة التي لا تربطها أي صلة بالعقليات القديمة والأساليب البالية، والتي أسميها ال e-generations.
4- قامت الثورات العربية في سياق هذه التغييرات المجتمعية العميقة، لكي يتم التلاؤم بين الواقع الجديد ونظام سياسي يكفل كل الممكن من المساواة والكرامة والفعالية، لإدارة دواليب دولة يجب أن تخدم الجميع وليس فئة واحدة فقط.
إلا أن النظام القديم -عن غباء وخوف- رفض كل تأقلم إلا في قَطر والمغرب، بينما جنّد في جل بلدان المشرق ما بقي له من طاقات للتعرّض لظاهرة ظنها عابرة يمكن القضاء عليها، وهي تحوّل تاريخي بحجم تحرك الصفائح الجيولوجية الحاملة للقارات والبحار.
5- بعد الموجة الأولى للثورات العربية تجنّد النظام السياسي القديم، وربح معركة مصر وتونس وليبيا بوضع العراقيل لكسر هذه الموجة. ثم انطلق بكل ما يملك من مال وسلاح لربح الحرب، بعزل غزّة وأساسا بضرب مراكز الدعم للربيع، أي تركيا وقطر. لكن شوكته تكسرت ببسالة المقاومة في غزة وبفشل الانقلاب في تركيا، واليوم بفشل حصار قطر.
فالتعاطف الكبير الذي أظهرته شعوب الأمة دوما مع قضية الشعب الفلسطيني، وأظهرته البارحة مع رجب طيب أردوغان، وتظهره اليوم تجاه قطر؛ هذا التعاطف -إضافة إلى عزل أبواق النظام السياسي القديم الفاسد في كل بلداننا- هو أسطع دليل على صحّة الرهان الذي اتخذه الأمير حمد في منتصف التسعينيات، وعلى غباء رهان مَن يحاصرون بلده اليوم.
هم في الحقيقة الذين يوجَدون في أصعب وضع، ولا أحد يعلم كيف سيخرجون منه... و"الصيفَ ضيّعتِ اللبن".
المضحك المبكي في هذه التراجيديا -التي أصبحت العائلات الخليجية الممزقة تعيش على عبثها وإجرامها- أن المحاصرين لقطر يتصورون أن بداخلها بعبعا مخيفا يمكن خنقه بالحصار. والحال أن البعبع يتمطى داخل بلدانهم في شكل الأجيال ''الإلكترونية''.
"للأسف ما زالت في الأفق معارك ضارية بعد معركة قطر، ولا أحد يعلم أي حصار ثالث ورابع سيضرب ضدّ كل دولة ينتصب فيها النظام السياسي العربي الجديد. فالنظام القديم مستعدّ للتحالف مع الشيطان وليس فقط مع إسرائيل، التي لا ترى في الحرب الأهلية العربية إلا فرصة ذهبية لمزيد من تدمير أمتنا، ووضع أشلائها تحت وصايتها"
إنها كل هذه الأجيال الجديدة الغاضبة وراء حواسيبها، التي تحررت من إعلام الزيف، والتي تمارس حرية التقييم طول اليوم، وتصل إلى كل المعلومات خاصة تلك المتعلقة بالفساد، ولن تقبل أن يتواصل التعامل معها كرعايا من قِبل مجموعات فاسدة فاقدة للهيبة والشرعية والمصداقية.
6- جوهر الموضوع اليوم إذن هو وصول الصراع بين نظام سياسي عربي قديم لم يلفظ -إلى حدّ الآن- آخر أنفاسه، ونظام سياسي عربي جديد يُطلق أولى صرخات الولادة؛ وصول هذا الصراع إلى ذروته.
للأسف ما زالت في الأفق معارك ضارية بعد معركة قطر، ولا أحد يعلم أي حصار ثالث ورابع سيضرب ضدّ كل دولة ينتصب فيها النظام السياسي العربي الجديد. فالنظام القديم مستعدّ للتحالف مع الشيطان وليس فقط مع إسرائيل، التي لا ترى في الحرب الأهلية العربية إلا فرصة ذهبية لمزيد من تدمير أمتنا، ووضع أشلائها تحت وصايتها.
7- يجب ألا نغالي في التفاؤل بخصوص المستقبل، لأن الدمار الذي نراه في كامل الوطن العربي -والذي يستشري كالنار في الهشيم- ليس إلا في بدايته.
على الناس هنا أن يتذكّروا الثمن الذي دفعته أوروبا لتجدُّدها ما بين 1914 و1945 (أكثر من ستين مليون قتيل وتدمير شبه كامل لأغلب مدن القارة العجوز)، أو الثمن الذي دفعته الصين بين 1849 و1949 (مئات الحروب والمجاعات والتدخلات الأجنبية وعشرات الملايين من الموتى بالجوع والحروب).
لا أعتقد أننا سنتفادى دفع مثل هذا الثمن الباهظ لتدمير كل ما يجب تدميره من دول قُطرية مصطنعة الحدود، وأنظمة فاسدة، وأيديولوجيات غبية، وعادات وتقاليد بالية.
يجب أيضا ألا نغالي في التشاؤم. من المؤكد أن البدائل تتبلور ببطء لكن بثبات، حتى داخل الأنظمة الاستبدادية نفسها، وبعضُ عقلائها يفهمون أنه بوسع سياسات متهوّرة -كالتي تُمارَس اليوم ضد قطر ودول الربيع العربي- أن تعجّل بالانهيار، وإنه من الممكن أن يكون المسؤولون عن هذه السياسات آخر ممثلي سلالاتهم، يحفرون قبورهم بأظافرهم وهم لا يعلمون.
لكن الأهم هو التطور داخل المجتمعات المتزايدة وعيا وقوة وجسارة. إن الأنظمة عادة تموت في العقول والقلوب بضعة عقود قبل موتها في الواقع؛ فالنظام السوفياتي لم ينهر في التسعينيات وإنما بدأ قبل ذلك بكثير. وما انهياره في التسعينيات إلا نهاية عملية صامتة أخذت وقتها قبل أن تترجم إلى أفعال.
كذلك القول عن بدائلنا نحن؛ فبعضها على السطح كما هو الحال في تونس، والبقية مثل الجزء المخفي من جبل الجليد: أحلام ومشاريع كلها تدور حول شعوب من المواطنين لا من الرعايا، سلطة وظيفية لا سلطة غنيمة، شفافية تنهي الفساد، حريات وحقوق.
ودولة قانون ومؤسسات، احترام للتعددية، تعايش سلمي مبني على مواطنة جديدة، واتحاد بين دول ديمقراطية وشعوب حرة، تتعاون بينها لمواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين.
نحن لا نرى القوى التي تتجمع في الخفاء تأهبا لإعادة البناء فوق الخراب، مثلما لا نرى ما يعتمل داخل العقول والقلوب. لكنك تسمع أحيانا بقصة تؤكد لك صحة الآمال التي تمكننا من مواصلة المشي بثقة في طريق الآلام.
آخر ما سمعته عن هذه القوى التي بدأت من الآن تتهيّأ بصمت للأخذ بزمام الأمور عندما تنتهي فترة التدمير: مجموعة مهندسين سوريين وألمان يحضّرون -والحرب لم تنته بعدُ- خطط إعمار حلب.
سنعيد إعمار حلب وتعز والموصل وبنغازي. وسنعيد خاصة إعمار العقل العربي وسنبني على أنقاض النظام ''الخلدوني'' نظاما سياسيا عربيا، يصبح جزءا من الحل لا أكبر جزء من المشكلة. المسألة مسألة وقت؛ فلا ترضخوا للإحباط... "ولا بدّ لليل أن ينجلي".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.