أصبح عمره الآن 10 سنوات، سألني منذ عام عن غزة وأهلها، كانت مشاهد الدمار والقتل والبكاء التي واكبت الهجوم البربري على غزة مطية لولدي الصغير للبحث عن أجوبة طافت بفكره الصغير فكانت تساؤلاته الحرجة تعبيرا عن حب وولاء لهذه القطعة الصغيرة من جسم الأمة المتعب والمتداعية عليه الأمم، سألني لماذا يقتلون الأطفال لماذا يدمرون المنازل لماذا يحطمون المدارس...؟ وكانت أجوبتي المؤلمة والحزينة التي حبّرتها ونشرتها منذ عام... وتوالت الأيام وكبر ابني وبقيت غزة على حالها، حصار من الجنوب وآخر من البحر وحصار من الشمال إلا من أنفاق يرتادها أصحابها لدرء المجاعة والموت عن أهل غزة، والعالم من حولهم أموات غير أحياء...كانت الحياة تسير ببطء في غزة، أطفال يجوعون وأمهات يرمقونهم وما في اليد حيلة، وآباء يسعون دون سعي ويحيون دون حياة، في ظل صمت رهيب من قبل كل العالم، ومن قبل الإخوة والأهل والجيران. مأساة غزة ستبقى وصمة العار التي لن تمحى في جبين العرب والمسلمين أولا ثم في جبين كل العالم، فمن هنا تمر أكبر مظلمة في التاريخ، حصار وتجويع وشماتة وقتل حضاري دون بندقية أو رصاص، حتى لا يسمع أحد ولا يرى الفضيحة الكبرى أحد... لقد اجتمع العالم يوما بعدما شاهد العدوان ولمس تدمير غزة، وأعلن إعادة بنائها وسخّر لذلك المليارات أغلبها من بيوت العرب، فبني صهيون يهدمون والعالم يتفرج، ثم يأتي العرب لإصلاح ما تهدم حتى لا تسقط ورقة التوت كاملة عنهم، وإذا بالمعتدي يرفض الإصلاح لكي يعيش ساديته ومازوشيته في مشاهدة مقابر غزة تمتلئ ومستشفياتها تنعدم، وحتى يتلذذ بالعويل والصراخ المنبعث ألما وجوعا وحسرة من أفئدة أطفال غزة ونساء غزة وأيتام غزة... أصبح عمر ولدي الآن 10 سنوات كما ذكرت، كنت أمام التلفاز وهو يعلن أن جدارا جديدا من فولاذ يبلغ مداه تحت الأرض 30 مترا سيقع بنائه على الحدود بين غزة ومصر بأيد عربية نكاية في أهل غزة وأطفالها! جدار هذه المرة ليس إسرائيليا خالصا! ليس من قبل أعداء التاريخ والحاضر، ولكنه من قبل الأهل والعشيرة، من قبل الجار ذي الجنب، من قبل مصر الحكم والسلطة، من قبل عرش مشروخ وتوريث على الأبواب! غابت مصر العظيمة تاريخا وشعبها الطيب الأبي، غابت مصر العظيمة حاضرا وشعبها المناضل المحب لفلسطين وأهل فلسطين، حيث اختلطت أنسابهم كما اختلطت دمائهم أحياء وشهداء... وبُني الجدار بين الأهل ليزيد الفرقة ألما، والجوعى صياحا، والدموع أنهارا...ودمعت عيناي...، واقترب مني، لم ألحظه، قال لماذا تبكي يا أبي... وقد سمع ما سمع، ولعله لم يفهم، وهذا ما كنت أظنه... قلت وقد ضمدت جراحي ودفنت أنفاسي : لا شيء يا بني، ولكن أهل غزة لا يزالون في حصار وعلينا مزيد العون والدعاء لهم متى استطعنا. قال مستغربا : ولكن لماذا الحصار وغزة كما أفهمتني تحدها مصر وهي بلاد عربية ومسلمة... قلت : يابني إن أهل مصر طيبون ولكن هناك من لا يحب الخير لأهل غزة فلندعوا لهم بعودة الضمير.. قال مستغربا: ولكنهم مسلمون ولهم أطفال فكيف يرضون لأطفال إخوانهم بالجوع، ألم تعلمني يا أبي بأن المسلم أخ المسلم يعينه ماستطاع... قلت : نعم يا ولدي ولكن في مصر هناك من مات ضميره فأصبح لا يسمع ولا يرى ولا يشعر ولا يتألم... نظر إلي وكأنه لم يفهم أو لعلي لم أفهم، ثم قال : سمعت يا أبي أن أهل غزة بنوا أنفاقا تحت الأرض حتى لا يموتوا جوعا... قلت : نعم يا ولدي فأهل غزة شجعان لا يأبهون الموت، ومن أجل أطفالهم وكرامتهم حفروا الأنفاق.. قال : ولكن لماذا تبني مصر جدارا تحت الأرض...لم أفهم يا أبي؟ أليسوا اخوتنا أليسوا أهلنا لم أفهم لم أفهم... كانت المفاجأة التي لم أرقبها، ظننته لم يفهم ما قيل في نشرة الأخبار..قلت وقد علاني بعض التردد : صبرا يابني ليست مصر التي تبني الجدار ولا التي تحطم الأنفاق ولكن أناسا من غير أهلنا دخلوا خلسة بيننا وأرادوا أن يبنوا الجدار بأيدينا ويحطموا الأنفاق بفؤوسنا ولكن لا تحزن فمصر حبيبة القلب والروح وأهلها لن يتركوا غزة تموت... قال : أريد زيارة غزة يا أبي ورؤية أطفالها! قلت لم يحن الوقت بعد ولكن ثق ياحبيبي أننا، أنا وأنت، أو أحفادي أو أحفادك، سيطأون تلك الأرض الطيبة وسيزورون أهلنا هناك، ولن يكون هناك جدار لا على اليمين ولا على الشمال، بل أبشرك يابني وثقتي في الله وفيك كبيرة، أننا أنا وأنت أو الأجيال القادمة التي ستخرج من صلبك سنؤدي الصلاة في القدس الشريفة معززين مكرمين... قال مستعجلا متى ذلك ياأبي؟ قلت لن يطول كثيرا فلا تحزن واصبر ولا تنسى أهل غزة من دعائك! قال مستبشرا : لن أنساها ياأبي ما حيييت، وسأعلّم أبنائي حب غزة وأهل غزة. قلت الحمد لله الرسالة وصلت، أعانك الله يابني.
د.خالد الطراولي ملاحظة: كتبت الجزء الأول منذ عام على إثر العدوان الغادر والمدمر لغزة والمنشور على هذا الموقع. ديسمبر 2009