من رشيد خشانة - شدد الباحث الفرنسي لوي مارتيناز، وهو مدير دراسات في مركز "سيري" CERI وباحث مشارك في معهد الدراسات الأوروبية، في دراسة حديثة تحمل عنوان "المغرب العربي: كيف نقضي على الخوف من الديموقراطية؟"، على أن الديموقراطية أداة فعالة من أجل درء خطر الإرهاب لأنها تنتزع من أصابع التنظيمات المتطرفة الذرائع التي تمكنها من تجنيد العناصر التي تتعرض للتهميش والإقصاء. كما أنها تمكن من استيعاب الحركات المعتدلة التي تشكل أفضل سياج أمام التطرف والعنف، وهي أيضا الأقدر على التصدي لتحريف تعاليم الإسلام "فمن أجل إفشال الإرهاب لابد أن تقنع الحكومات شعوبها بشرعية ما تفعله وهي تحتاج في الوقت نفسه إلى ثقة مواطنيها فيها". ومن هذه الزاوية اعتبر مارتيناز أن مشاركة "حزب العدالة والتنمية" في المسار السياسي المغربي أنعشت آمالا كثيرة في المغرب العربي بأسره. لكنه أبدى أسفه لأن الوضع لم يسر في الإتجاه نفسه في بلدان أخرى، مشيرا إلى أنها أقنعت الإتحاد الأوروبي باسم مكافحة الإرهاب بأن الإنفتاح الديمقراطي ينطوي على مخاطر جمة مُعتمدة في ذلك على الفوز المحقق للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الإنتخابات التي أجريت في الجزائر سنة 1991. لكن مارتيناز نبه إلى أن الجزائر لم تعرف قبل تلك التجربة مسارا ديمقراطيا متدرجا قائما على توافق بين القوى السياسية. وحاول أيضا ترسيخ الفكرة القائلة بأن الديموقراطية هي الشرط الضروري لمواجهة التحديات الإجتماعية وبخاصة البطالة والمعضلات الإجتماعية المرتبطة بها. ولاحظ في هذا السياق أن هناك أخبارا مُفرحة في المنطقة، فمن جهة حافظت الإقتصادات على نسبة مرتفعة من النمو منذ سنة 2003، بينما تراجعت نسبة الولادات مُحدثة نوعا من الثورة السكانية. غير أن نسبة العاطلين وخصوصا بين الشباب ظلت مرتفعة، فإحصاءات البنك الدولي أظهرت أن على البلدان المغاربية أن تُوجد 16 مليون فرصة عمل بين سنتي 2000 و2020 لاستيعاب المقبلين الجدد على سوق العمل. كما أكد مارتيناز استنادا دوما إلى توقعات البنك الدولي أن على تلك البلدان أن تؤمن 22 مليون فرصة عمل خلال العقدين المقبلين لامتصاص البطالة التي تتجاوز نسبتها 20 في المائة من حجم القوى العاملة، وتشغيل العاطلين الحاليين وكذلك الذين سيفدون إلى سوق العمل. أما التحدي الثالث فهو المتمثل في مكافحة الجريمة وهو عمل يحتاج إلى تحقيق تقدم في تكريس دولة القانون، التي هي روح الديمقراطية. فصلابة الأنظمة تُقاس بطريقة تعاطيها مع المجرمين بمن فيهم الإرهابيون لأن السير الجيد لدواليب دولة القانون هو الذي يُعطي الثقة للعناصر الإجتماعية المؤثرة ويُطمئن المستثمرين. وفي السياق نفسه اعتبر مارتيناز أن تعزيز التعاون الإقليمي بات مسألة جوهرية لتحقيق التنمية الإقتصادية ومجابهة الجريمة المنظمة إن كانت إرهابية أم لا. كما أن صغر حجم السوق المغاربية يجعل منها أسواقا مقطعة الأوصال لا تستقطب المستثمرين الأجانب سوى لقطاع الطاقة. ورأى أنه بإقامة سوق مغاربية عند أبواب أوروبا يصل حجمها حسب تقديره إلى 75 مليون مستهلك، سيصبح التعاون الإقتصادي الإقليمي عنصر دفع هاما للتنمية والإستثمار. وكما أثبتت تجارب عديدة، بما فيها التجربة المغاربية، لا يمكن للتعاون الإقليمي أن يُفضي إلى التكامل ما لم يكن هناك التقاء سياسي على قاعدة الديمقراطية. ويجب التصحيح هنا أن عدد سكان المغرب العربي ببلدانه الخمسة تجاوز 90 مليون ساكن، وحتى لو اختزلناه في البلدان الوسطى الثلاثة (الجزائر والمغرب وتونس) فإن عدد السكان لا يقل عن 80 مليون ساكن. وربما جاز التساؤل هنا أيضا عن مُبرر اعتماد مارتيناز على التجربة المغاربية للتدليل على الترابط العضوي بين التكامل الإقتصادي من جهة وضرورة الإلتقاء حول المرجعية الديمقراطية من جهة ثانية، فلديه تجربة أقوى وأنصع لا ندري لماذا غفل عنها هي مسار الوحدة الأوروبية، وخاصة في أعقاب انهيار الأنظمة الإستبدادية في كل من اسبانيا واليونان والبرتغال في سبعينات القرن الماضي، ثم الأنظمة الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية والوسطى في العقد الأخير منه. هدف ذو أولوية وبالإعتماد على معاينة التفاوت في مستويات تطور الأنظمة السياسية المغاربية، نصح مارتيناز بلدان الإتحاد الأوروبي بجعل تعزيز الجهود الرامية إلى إحلال الديمقراطية في المغرب العربي هدفا ذا أولوية في سياسة الجوار الأوروبي. وشدد على ضرورة اقتناع الأوروبيين بأن الديمقراطية هي طريق الإستقرار في المغرب العربي أسوة بتجربة أوروبا الشرقية والوسطى. على أنه أوضح أن الديمقراطية ليست منظومة جاهزة ومكتملة وإنما "هي سلسلة متواصلة من الإصلاحات السياسية والإنفتاح التدريجي الذي تكون العناصر الداخلية هي المؤثرة فيه وينخرط فيه الأفراد والمؤسسات والدولة والمجتمع". غير أن كثيرين في العالم العربي يُشككون في قدرة الأوروبيين على مراجعة موقفهم من الديمقراطية في الجنوب انطلاقا من المكانة الضئيلة التي منحوها للديمقراطية في "الإتحاد من أجل المتوسط". ويحق التساؤل هنا عن مدى تجاوب صناع القرار الأوروبيين مع التوجهات التي يُرجحها الباحثون والمخططون، وكذلك عن وسائل الضغط المتاحة لدى الإتحاد الأوروبي لحمل شركائه في الدول المغاربية على انتهاج الخيارات نفسها، انطلاقا من أن الحوار مع التيارات الإسلامية المعتدلة هو مصلحة أوروبية قبل أن يكون مصلحة مغاربية؟ وما يترك السؤال عالقا أنه لم تُعرف ردود الفعل الأوروبية على ورقة مارتيناز. في هذا الإطار أشار الدكتور بوبكري إلى أن "دعم الديمقراطية لم يحظ في مشروع الإتحاد من أجل المتوسط بالمكانة التي يستحقها على عكس ما تطلعت إليه عديد القوى السياسية في ضفتي المتوسط". وعزا ذلك إلى عدة أسباب مرتبطة بظروف إنشاء الإتحاد والأطراف التي كانت وراء نشأته، إذ جاء مشروع الإتحاد في ظرف اتسم بتزايد المشاكل المرتبطة بالهجرة من جنوب المتوسط نحو أوروبا، إضافة إلى التحديات الأمنية التي تطرحها "الحرب على الإرهاب". لذلك توخت دول شمال المتوسط نهج البراغماتية السياسية لتحقيق نتائج ملموسة في هذه الملفات الحساسة والحاسمة في المحطات الانتخابية، وفضلت بناء على ذلك تدعيم الأنظمة القائمة جنوب المتوسط مقابل التزام هذه الأخيرة بالتعاون في موضوعي مقاومة الهجرة ومحاربة "الإرهاب". واعتبر أن هذا التوجه ساعد على فوز عدد هام من الأحزاب اليمينية في أوروبا بالإنتخابات في السنوات الأخيرة و خاصة فرنسا، وهي أحزاب تعطي الأولية لتحقيق المصالح القومية على حساب الالتزام بالديموقراطية وحقوق الإنسان كما قال. ورأى أن ذلك هو ما هيأ المجال لتوافق أوروبي حول مشروع الإتحاد بصيغته الحالية. تصدير الديمقراطية؟ غير أن مارتيناز أقر في دراسته بأن فرض الديموقراطية من الخارج غير مُجد فضلا عن كونه مستحيلا. ورأى في المقابل أن الأجدى هو دعم الخطوات التي تُنجز على طريق الإنفتاح والإصلاح، وجعل المكاسب التي تتحقق في البلدان المنطلقة على درب الديموقراطية "نوعا من العدوى التي تنتشر في الجسم المغاربي بأسره". واعتبر اتفاق الإتحاد الأوروبي والمغرب على منح الأخير منزلة الشريك المُميز أول اختبار لهذه الطريقة، التي تتمثل في إدماج داخلي في الإتحاد لكن من دون الوصول إلى مرتبة العضوية. إلا أنه اشترط التخلي عن الخوف الأوروبي من تكريس الديموقراطية في بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط، أي الذعر من احتمال أن تُسفر صناديق الإقتراع عن بروز قوى إسلامية، مثلما كان الشأن في الإنتخابات البرلمانية الفلسطينية الأخيرة التي أفضت إلى فوز حركة "حماس" الإسلامية بالأكثرية في المجلس التشريعي الفلسطيني. لكن التخلص من ذلك الذعر يبدو غير ممكن في الأمد المنظور، فلا يمكن تصور زعماء مثل شيراك أو خليفته ساركوزي يتبنون هذه الرؤية على رأي مارتيناز. كما أن النخب الحاكمة في إيطاليا أو اسبانيا لا يمكن أن تؤمن بهذا الخيار المحفوف بالمزالق حسب رأيها، سواء أكان حكامها من اليمين أم من اليسار، علما أن الإسبان تولوا رئاسة الإتحاد مطلع السنة الجارية. ونلاحظ هنا تباعدا في المواقف من هذه المسألة بين دول جنوب أوروبا (المطلة على المتوسط) ودول الشمال مثل السويد وبريطانيا وهولندا وألمانيا التي تتطرق علنا لمسألة الديموقراطية في المغرب العربي ولا تكتفي بالحديث عنها بصوت خفيض من وراء الستار. وما من شك بأن دول الجنوب وضعت بصمتها على مسار الشراكة بين أوروبا والبلدان المتوسطية الذي همش قضية الإصلاحات الديموقراطية في بلدان الضفة الجنوبية. وفيما كان كثيرون يتطلعون إلى أن يشكل الإتحاد من أجل المتوسط فرصة لإبراز الإلتزام الجماعي الأوروبي بالدفاع عن الخيار الديموقراطي، ظل الإتحاد يسبح في خلافات صغيرة أبعد ما تكون عن تلك الأهداف الكبرى. واستطرادا يمكن القول إن الإتحاد ساهم في تأبيد الأوضاع السياسية الحالية في بلدان الجنوب عوض المساعدة على دفع التنمية السياسية في جنوب المتوسط.