علاقات العمل السياسي المشترك هي من أعقد أنواع الارتباط حتى وإن كان المنتظمون تحت عنوان حزبي ذوي فلسفة ثورية أو عقيدة دينية. العمل السياسي بتقاليده السائدة هو "فن" المناورة والمخاتلة وتحصيل أكبر قدر من "المكتسبات" بأقل قدر من الأثمان... تقتضي السياسة جرأة على الكتمان أحيانا وشجاعة على قول ما لا يُقصدُ، ليس في الأمر نيلٌ من سلامةٍ أخلاقيةٍ ولا تشكيك في صدقيةٍ.
حين يحقق حزبٌ أو حركة أو جماعة مكتسباتٍ معتبرة سياسيا فإنّ الشركاء كلهم يعبرون عن افتخارهم وسعادتهم ويُذكرون بأهمية دورهم في تحقيق تلك الإنجازات... المكتسباتُ الهامة مغرية ٌومُحفزة للحسابات الفردية والمصالح الشخصية... كم لحظاتِ انتصار انقلبت إلى هزيمة متناسلةٍ حين لم يُحسن المنتصرون استثمارها وحين استعجلوا تصريفها بأكثر من قيمتها وقبل ميقاتها. كثيرا ما تكون الانتصاراتُ الموهومة أو الحقيقية مدخلا للتآكل الداخلي بما يُذهبُ ريحَ أحزاب وحركات وجماعات. وفي حالة مقابلة كثيرا ما تدفع الخيبات إلى تبرئ عديد الشركاء وعدم تحمل قدر من المسؤولية في ما انتهت إليه الرحلة الجماعية من فشل أو هزيمة كما لو أنهم يستحضرون المثل الشعبي التونسي "داخل في الربح خارج من الخسارة" وهو ما يمكن اعتباره ضربا من "الاستثمار الرّبَوي" في الحقل السياسي. الأخطاءُ والخيباتُ والخسرانُ في العمل السياسي حالات بشرية لا تنال من قيمة أصحابها ولا تشرعُ إقصاءهم أو تجريمهم ما لم يُجْرموا بمقاييس الشرع والقانون المتعاقد عليه كل ما تستدعيه الخيبات السياسية هو مراجعات جريئة صادقة ووقوف شجاع على الأخطاء وعزم واثق على التدارك. وتلك مسؤولية شركاء التجربة مجتمعين فلا يسارع نفرٌ إلى التبرئ من المسار كله وقد كانوا شركاءَ فيه لعقد أو عقدين! إلّا أن يُعلنوا تعبهُم بتواضع ثم يعتذرون بأدب الأوفياء عن عدم القدرة على مواصلة الطريق.
2: الأخطاء والخطايا
إذا سلمنا ببشرية العمل السياسي وباحتمالات الخطإ فإنه يكون من المنتظر أن يتحمل كل فرد مسؤوليته في التقويم والتقييم دون تحرج من تحمل نصيب من المسؤولية التاريخية والقانونية والشرعية. بعضُ الذين يخجلون من إعلان التعب والانسحاب يقفزون إلى الضفة الأخرى يُقدمُون أنفسهم عقلاء وبالغين سياسيا وأبرياء مما فعل "القاصرون" منهم. قد لا تكون مثل تلك المواقف مستساغة بمقاييس عدة حتى وإن سلمنا بحسن نيةٍ. نوايا "المصلحة الوطنية" ومقتضيات المرحلة وواقعية السياسة وحكمة التعاطي كلها لا تبرر التنكر لتجارب طويلة ولتعاهد مع أناس على أفكار ومناهج ومآلات. البرّ بالوطن يقتضي "اتهام" النفس أحيانا ويقتضي القطع مع مسارات تبينت آثارُها السلبية على السيادة الوطنية والأمن المدني والأمان النفسي، المصلحة الوطنية بتقديرات المواطنة لا بتقديرات التوازنات الحزبية والإيديولوجية.
"البر الوطني" يدفع صاحبه إلى التجرد من الأهواء والنرجسية ويدفعه إلى وقفات تأمل وإلى مراجعات دورية تستفيد من التغيرات الدائمة في المشهد الوطني والدولي وتعتبر من تجارب قريبة وبعيدة بمسافات المكان والزمان.
المراجعات لا تبدأ بإعلان البراءة من التجربة إنما تبدأ بإعلان تحمل جانب من المسؤولية في عيوب الأداء ثم إعلان التقدم نحو النقد والتقييم والتقويم سواء في مجهود ذهني مشترك مع شركاء التجربة أو في جهد فردي توجه نتائجه بالدرجة الأولى إلى شركاء التجربة لكونهم هم المعنيين قبل إيّ كان بنتائج المراجعة. وحتى إذا حصل إطلاع المجتمع على تلك المراجعات فمن باب الصراحة والجرأة والشجاعة في تحمل المسؤولية وأيضا من باب إطلاع عموم الناس على حقائق ما حصل حتى لا تستمر معلومة خاطئة أو فكرة متآمرة أو صورة مشوهة.
التجارب السياسية وإن كانت خاصة بأصحابها فإنها في الواقع ملك المجتمع كله إذ نشأت في بيئته وثقافته وبين أفراده ونتائجُها عائدة بالتأكيد بدرجة ما على عموم الناس وخاصة ما تعلق منها بالجانب الأمني أوالتمويل العمومي.
المراجعات الجريئة والتحمل الشجاع للمسؤولية والتأكيد على بشرية الخطإ والاستماتة في ردّ التهم الباطلة كلها تجلبُ لأصحابها الاحترام ولا تنال من مكانتهم شيئا.
السياسة ليست نشاطا خيريا ولا صداقة حميمية... المعتذرون والمتبرئون من أصحابهم يُخشى عليهم إضاعة مسارب التراجع وإرخاء حبال المودة... يُخشى عليهم الوقوع في "العقوق السياسي" بمعناه المبدئي والأخلاقي حين يُبدون خروج التبرئ والنكاية على قيادات تاريخية يُحملونها منفردة مسؤولية الأخطاء المجتمعة ويتركون لها "الوعاء" إما تستميتُ في احتضانه وإما تكسره حين تسقط عليه.
الذين صاغوا والذين عبروا والذين استمعوا والذين صفقوا أو أومأوا أو أمضوا والذين حضروا البدايات كلهم شركاء في المآلات ومسؤولون بأقدار مختلفة حيث نجاحاتٌ وحيث عثراتٌ. بين الاختلاف والتبرئ مسافة ذهنية ونفسية مؤلمة. وللاختلافات مواقيتها حتى لا تكون مؤذية وحتى لا تستعمل في المشاريع الالتفافية.
3: المراجعات والتراجعات
أن يُجري سياسيون مراجعاتٍ دورية يُقيّمون مسيرتهم يُحصون خطواتهم الثابتة ويتأملون مواطن زللهم فذاك أمر مطلوب ومحمود ولا يترتب عنه إلّا خيرٌ على أن تتم المراجعات تلك بآدابها وآلياتها بحيث لا تنتهي إلى حالة تآكل داخلي ولا إلى ذهاب ريح شركاء التجربة. المراجعات المجدية يذهب إليها أصحاب التجربة مجتمعين متدافعين ومتناقدين وحتى متعاتبين سرا وجهرا وعلى الصفحات المقروءة دون أدنى استعداد لخصام أو صدام أو تبرئ من ذاكرة وتاريخ ومسافات مشتركة.
يمكن الاختلافُ في المراجعات وتلك علامة صحية ودلالة حرية وتنوع بشرط القدرة على تحمل ذاك الاختلاف فلا ينتهي إلى حالة "انشطار" أو تشظي يتسلل منه خصوم السياسة والإيديولوجيا. لا يليق الوقوع في حالة التراشق مهما اتسعت مساحة التباين في تقييم حصاد السفر.
ربما اختار بعض شركاء التجربة التراجع الجذري عن تجربتهم تلك وربما اقتنعوا فعلا بأنهم كانوا "خاطئين" فلا يمكن تحميلهم ما لا طاقة لهم به. ولا يمكن الانشغال بالتنقيب في النوايا وبالاحتمالات السيئة "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" حتى لا يخسر السياسيون أولئك تجربتهم وشخصيتهم في آن حين تجردهم السياسة من القيم.
الكتابة مسؤولية أمام الله وأمام التاريخ ويتحمل صاحب كل كلمة ما يترتب عنها من ممارسات ومواقف وعواطف وقرارات، وإذا كانت التقاليد السياسية الرديئة تبرر ممارسات غير سوية فإنّ إيماننا يأبى علينا سوء القول وسوء الظن وسوء الاصطفاف كما يأبى علينا إضعاف جانب أهلنا وتمكين الأذى من مسّهم.
وفي الجانب الآخر لا يليق استعمال مفرداتٍ من مشتقات "العداوة" و"الخيانة"، إذ الخصومة الكبرى كما الخصومة الصغرى واقعتان داخل الدائرة الإيمانية وهو ما يُيسرُ خوضهما دون حاجة لأدوات احتراب أو مفردات إقصاء من مقدس.
ولستُ مؤهلا للإفتاء ولكنني أسأل إن كان مُحرما تمديدُ قاماتنا بالنيل من قامات أصدقاءٍ اطمأنوا إلينا فوقفوا طويلا إلى جوارنا وفي الحديث "والله ما آمن من لم يأمَنْ جارُهُ بوائقهُ"
4: على قلب رجل
وبوضوح تاريخي وشجاعة ثقافية إذ كتب صاحبُ هذا النص: "معنيون بما يكون" و"الارتماء في أحضان الخصم" و"الفاهمون والواهمون" و"يا تونس الأنس" إنما كان يتجه بالخطاب إلى "مدرسة سياسية" بكل أهلها يتمنى لها مكانا يتسع لاتساعها ويشتاق رؤية أفرادها مجتمعين يجوبون خارطة الوطن مستقيمي القامة آمنين آملين في مستقبلهم ومستقبل صغارهم ممن أنجبوهم في الغربة أو تركوهم سنواتِ الدخان... كانت تلك رغبة جائشة تنتظر أن يجترح السياسيون طرائق الذهاب إليها من غير كلفة مؤذية ومن غير تدافع الأيدي على مقود السير!
كانت دعوة إلى قراءة المشهد بالنظر وليس بالمنظار وإلى إعادة تأمل النصوص البديعة إن كانت الجماهير مازالت تقيم فيها! وإن كانت السياسة فعل ما نريد أم فعل ما نقدر؟
الذين نعنيهم بالخطاب نعرف أنهم يصدرون عن ماء واحد وأنهم اجترعوا مجتمعين لبنا استصفوه من بين "فَرْثٍ" و"دم"وأنهم ظلوا على قلب رجل واحد بشرايين متعددة حتى عصفت بهم ريحٌ شردتهم في كل فج عميق وألبستهم سنين ألم وشوق وصداع، لكم ظلوا على قلب رجل واحد، ولكم تنفسوا في نفق واحد، ولكم تواسوا كلما استبد بهم شوق أو طوحت بهم الوحشة... هل تفعل السياسة فيهم كما تفعل في غيرهم ممن نظنهم يشربون من غير ماء معين؟ هل ينقلب بعض على بعض وهل يقبل أحدهم بالجلوس مكان أخيه وقد أجبر على ترك مقعده وفي الحديث نهي قاطع عن مثل ذاك الفعل؟
لا ضرر من إخصاب ساحات الكتابة ولا خوف من تفجر الاختلاف فذاك مؤشر وعي ورحابة صدر ونشاط عقول وتحرر إرادة وتقاسم مسؤولية... لا خوف من الكلمات ما لم تشحن بالديناميت وما لم يقعد منها أصحابها لأهلهم مقاعد للطعن وما لم تكن شهادة ولو صادقة تُصرف في تصفية حساب في غير مواقيت المحاسبة حين تتوفر ضماناتُ حماية المخطئين من الانتقام وضماناتُ تمتيع الأبرياء بالبراءة.
وذا قولٌ في الأداء السياسي كما نرى وليس في التنظيمات الحزبية لا تشملنا .