أوكرانيا 2025 .. فضيحة الفساد التي غيّرت مجرى الصراع    انطلاق عمليّة إيداع ملفّات الترشّح لمناظرة الانتداب في رتبة أستاذ مساعد للتعليم العالي    بنزرت: العثور على جثة لاعب كرة قدم مفقود منذ 20 يوما    2025 ... سنة المواجهة مع تجّار المخدّرات والمهرّبين    نابل: حجز وإتلاف 11طنا و133 كغ من المنتجات الغذائية وغلق 8 محلات لعدم توفر الشروط الصحية منذ بداية شهر ديسمبر    العائدات السياحية تناهز 7.9 مليار دينار    مع الشروق : أولويات ترامب... طموحات نتنياهو: لمن الغلبة؟    في حلق الوادي والمعبرين الحدوديين ببوشبكة وراس الجدير .. إفشال صفقات تهريب مخدرات    تظاهرة «طفل فاعل طفل سليم»    رواية " مواسم الريح " للأمين السعيدي صراع الأيديولوجيات والبحث عن قيم الانسانية    شارع القناص .. فسحة العين والأذن يؤمّنها الهادي السنوسي انفصام فنّي على القياس ..حسين عامر للصوفيات وحسين العفريت للأعراس    "كان" المغرب 2025.. حكم مالي لمباراة تونس ونيجيريا    كاس امم افريقيا 2025: مصر وجنوب إفريقيا في مواجهة حاسمة..    عاجل: انقطاع في توزيع الماء بهذه المناطق بنابل    وزير الدّفاع يؤدي زيارة ميدانية إلى القاعدة البحرية بمنزل بورقيبة    عاجل: جنوح عربة قطار بين سيدي إسماعيل وبوسالم دون تسجيل أضرار    ابدأ رجب بالدعاء...اليك ما تقول    فيليب موريس إنترناشونال تطلق جهاز IQOS ILUMA i في تونس دعماً للانتقال نحو مستقبل خالٍ من الدخان    منع بيع مشروبات الطاقة لمن هم دون 18 عاما..ما القصة..؟    خبير يوّضح: العفو الجبائي على العقارات المبنية مهم للمواطن وللبلديات..هاو علاش    ماذا في اجتماع وزير التجارة برؤساء غرف التجارة والصناعة؟    عاجل/ مقتل عنصرين من حزب الله في غارة صهيونية استهدفت سيارة شرق لبنان..    زغوان: مجمع الصيانة والتصرف بالمنطقة الصناعية جبل الوسط بئر مشارقة يعلن عن إحداث حقل لانتاج الطاقة الفوطوضوئية    شركة الخطوط الجوية التونسية تكشف عن عرضها الترويجي 'سحر نهاية العام'    يتميّز بسرعة الانتشار والعدوى/ رياض دغفوس يحذر من المتحور "k" ويدعو..    وفاة ممرضة أثناء مباشرة عملها بمستشفى الرديف...والأهالي ينفذون مسيرة غضب    تعرّف على عدد ساعات صيام رمضان 2026    عاجل: تهنئة المسيحيين بالكريسماس حلال ام حرام؟...الافتاء المصرية تحسُم    البرلمان ينظم يوم 12 جانفي 2026 يوما دراسيا حول مقترح قانون يتعلق بتسوية الديون الفلاحية المتعثرة    وليد الركراكي: التتويج باللقب القاري سيكون الأصعب في تاريخ المسابقة    زيت الزيتون ب10 دنانير:فلاحو تونس غاضبون    موسكو تدعو مواطنيها إلى الامتناع عن السفر إلى ألمانيا لهذه الأسباب    فضاء لبيع التمور من المنتج إلى المستهلك من 22 إلى 28 ديسمبر بهذه الجهة..#خبر_عاجل    11 مليون عمرة في شهر واحد... أرقام قياسية من الحرمين    ما ترميش قشور الموز: حيلة بسيطة تفوح دارك وتنفع نباتاتك    التمديد في المعرض الفني المقام بالمعلم التاريخي "دار الباي" بسوسة الى غاية منتصف جانفي 2026    اسكندر القصري ينسحب من تدريب مستقبل قابس    افتتاح الدورة 57 للمهرجان الدولي للصحراء بدوز    أنشطة متنوعة خلال الدورة الأولى من تظاهرة "مهرجان الحكاية" بالمركب الثقافي بسيدي علي بن عون    موزّعو قوارير الغاز المنزلي بالجملة يعلّقون نشاطهم يومي 12 و13 جانفي 2026    عاجل: اليوم القرار النهائي بخصوص اثارة الافريقي ضدّ الترجي...السبب البوغانمي    البطولة الوطنية المحترفة لكرة السلة: برنامج مباريات الجولة العاشرة    مع Moulin d'Or : قصّ ولصّق وشارك...1000 كادو يستناك!    رياضة : فخر الدين قلبي مدربا جديدا لجندوبة الرياضية    عاجل: هذا ما تقرر في قضية المجمع الكيميائي التونسي..    كأس أمم إفريقيا: برنامج مقابلات يوم غد    عاجل: تقلبات جوية مرتقبة بداية من هذا التاريخ    ينشط بين رواد والسيجومي: محاصرة بارون ترويج المخدرات    عاجل/ تركيا ترسل الصندوق الأسود لطائرة الحداد إلى دولة محايدة..    صحفي قناة الحوار التونسي يوضح للمغاربة حقيقة تصريحاته السابقة    نانسي عجرم ووائل كفوري ونجوى كرم يحضروا سهرية رأس السنة    بداية من من غدوة في اللّيل.. تقلبات جوية وبرد شديد في تونس    النوبة القلبية في الصباح: علامات تحذيرية لازم ما تتجاهلهاش    رئيس الجمهوريّة يؤكد على ضرورة المرور إلى السرعة القصوى في كافّة المجالات    ترامب مهاجما معارضيه في التهنئة: عيد ميلاد سعيد للجميع بما في ذلك حثالة اليسار    كوريا الشمالية تندد بدخول غواصة نووية أمريكية إلى كوريا الجنوبية    مع الشروق : تونس والجزائر، تاريخ يسمو على الفتن    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدرسة الإسلاميات التونسية.. تنوير السلطان
نشر في الحوار نت يوم 16 - 02 - 2010

مدرسة الإسلاميات التونسية.. تنوير السلطان
هادي يحمد / 15-02-2010
هل يمكن تحقيق عملية مراجعة عقلانية للتراث - باعتبارها حركة تنوير طبيعة غير هجينة - في ظل غياب أحد أهم مرتكزات "التنوير" وهو الحرية في الفكر؟ هذا هو السؤال الأساس الذي يوجه اليوم إلى ما أطلق عليه في الأدبيات الفكرية العربية والإسلامية "بالمدرسة التونسية للإسلاميات" التي تحتضنها الجامعات التونسية.
ففي مجال تصادم الأفكار لا بدّ من وجود حد أدني من ديمقراطية القول في المجالات السياسية والثقافية والأكاديمية في بلد ما.
في البداية نعني ب "المدرسة التونسية للإسلاميات" الأعمال الأكاديمية والأبحاث الجامعية في الإسلاميات التطبيقية L'islamologie appliquée (حيث يعتبر الفرنسي- الجزائري محمد أركون أحد المؤسسين لهذا العلم)، والتي نشأت في أقسام العلوم الإنسانية في دوائر ما يسمى بأبحاث مادة "الحضارة" civilisation في كليات الآداب بمنوبة "الشهيرة"، وكلية "9 أبريل" في العاصمة التونسية، وكذا في العديد من المدن التونسية الأخرى..
هذا فضلا عن الأبحاث التي تصدرها كليات الحقوق والمتعلقة بالخصوص بالموقف من التراث الفقهي والقانوني الإسلامي، والتي تنجز بالخصوص في كلية الحقوق والعلوم السياسية بمنطقة "المنار" بتونس العاصمة، وهي أحد أكبر الأقطاب العلمية التي أنشأتها دولة الاستقلال مع الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة.
وإذا رمنا تحديد بعض الوجوه المؤسسية الهامة لهذه المدرسة يمكننا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر "الشرفيين" أي محمد الشرفي وعبد المجيد الشرفي والمنصف عبد الجليل ومحمد الطالبي (مع الفراق المعرفي الذي قام به هذا الأخير وخروجه على مستوى النتيجة لا المنهج) وعبد الباقي الهرماسي وعبد الجليل بوقرة والعياض بن عاشور وحمادي الرديسي وعبد الرزاق الحمامي وكمال عمران وغيرهم كثير في الاختصاصات الحضارية والتاريخية والاجتماعية والقانونية ممن وضعوا أركان "مدرسة أكاديمية" بقدر ما نقدت الاستشراق نهلت منه، وبقدر ما نقدت النظرة التراثية والأرثوذكسية الدينية أنتجت "فكرا نقديا إسلاميا جديدا" مستعينة بالعلوم الإنسانية من الألسنية، والبنيوية، والتحليل النفسي، وعلم الأديان المقارن، وغيرها من أجل جعل النص - حسب رأيهم - قابلا "للقراءة العلمية الإنسانية".
وربما كان الباحث السوري المقيم بباريس هاشم صالح من أكثر المعجبين بهذه "المدرسة"، وهو يعرفها في لقاء مع موقع مدارك بتاريخ 12- 8 – 2009 قائلا: "هناك جهود كثيرة.. هناك "المدرسة التونسية" للتنوير والتي تعمل على تخفيف الإسلام من كل هذه الأثقال التي ترهق الإنسان المسلم وتشده عن الانخراط في العالم".
ويجب التأكيد أنه ليس من مهام هذا المقال مناقشة أفكار "المدرسة التونسية للإسلاميات"؛ أي إننا لن نبحث في النصف الثاني من قول هاشم صالح، فإنتاج المدرسة يبقى محل نظر وبحث وتقييم علمي للمقاولات والخلاصات التي وصلت إليها، وهي ربما في بعد منها من الأهمية بمكان لكي تخضع إلى الدراسة والتمعن غير أنّ المهم في هذه المقالة هو النظر في السياق التاريخي والسياسي والثقافي الذي أنتج هذه المدرسة، وهو برأينا ما يحتاج إلى وقفة ومساءلة لأصحاب هذه المدرسة ذاتها.
البداية يجب أن نعود إلى بداية الثمانينات في تونس إلي فترة "الحبيب بورقيبة" (حكم بين 1956 - 1987) الرئيس الأول لتونس، والذي يوصف في المحافل السياسية والثقافية الغربية ب "رائد الحداثة التونسية"؛ بسبب تحجيمه لمؤسسة جامع الزيتونة ووضعه لمجلة الأحوال الشخصية (قانون الأسرة)، والتي كانت أحد أبرز بصماته في رسم ملامح تونس الحديثة.
غير أنّ حداثة بورقيبة توصف بأنها "حداثة" نظام استبدادي اتخذ القمع والسجون وسيلة وحيدة تجاه خصومه السياسيين؛ حيث بدأ "المجاهد الأكبر" - كما كان يلقب - قمعه السياسي في مواجهة اليسار التونسي منذ بداية الستينيات ممثلا بحركة آفاق (تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التي تأسست بباريس سنة 1963)، ثم توسعت دائرة القمع عبر حملة الاعتقالات التي شملت الحركة النقابية فيما عرف بالمواجهة مع الزعيم النقابي الحبيب عاشور في أواخر السبعينيات، ثم شهدت بداية الثمانينيات مفتتح الحملات الأمنية المتتالية على الإسلاميين، خاصة حركة "الاتجاه الإسلامي بتونس" (تأسست في يونيو 1981)، والتي تحولت فيما بعدت إلى حركة النهضة التونسية.
وفي الفترة نفسها - الثمانينيات - بدأت تخرج إلى العلن أولى الدراسات التي تنتمي إلى "مدرسة الإسلاميات التونسية" في شكل مقالات وبحوث متفرقة على أعمدة مجلة "حوليات الجامعة التونسية" (تأسست سنة 1963)، وهي النشرة التابعة لكلية الآداب، وظهرت هذه الأبحاث الأولى من قبل أساتذة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمنوبة، والتي تعتبر أحد المعاقل الرئيسة التابعة للفصائل الفكرية اليسارية آنذاك مستفيدة من آليتين:
الأولى: "علمية بحتة"، وهي تبني اليسار الطلابي مبدأ الحرية الفكرية، وضرورة ضرب عقلية التحريم الديني وكسر "الثالوث المحرم" على حد تعبير "ياسين الحافظ" في مواجهة خصمها السياسي الذي بدأ يبث ما تعتبره "الدراسات الماضوية" في الجامعة، خاصة الاتجاه الإسلامي بفروعه الطلابية الناشئة آنذاك في الجامعة.
وأما الآلية الثانية: فهي توظيف السياق السياسي للمواجهة الأمنية الواقعة في بدايتها بين الإسلاميين وبورقيبة من أجل توسيع رقعة ضرب ما يسمى في الأدبيات البحثية "بالحفر في التراث".
التحالف مع السلطة
ولئن استفادت الحركة البحثية اليسارية - العلمانية عموما من توظيف المواجهة الأمنية بين الإسلاميين وبورقيبة بقدر معين فإنّ هذا الأخير لم يجار كثيرا كتلة اليسار - العلماني الجامعي في ما كان يبغيه وبقي إلى آخر أيامه في ريبة وخوف سياسي من انفلات الأمور من يديه سياسيا، وبالتالي فإنه لم يذهب بعيدا في الدفع إلى تشجيع أعمال المدرسة التونسية في الإسلاميات إلى أقصاها، وبالأصح لم يتفطن بما فيه الكفاية إلى ضرورة توظيف البعد الأكاديمي والتعليمي في المعركة ضد الإسلاميين. سوف ننتظر إلى عام 1987، والتغيير الذي شهدته تونس بوصول الرئيس زين العابدين بن علي إلى السلطة ليتغير اتجاه الأبحاث بشكل غير مسبوق وتحقق المدرسة التونسية للإسلاميات طفرتها الكبرى في مجال الأبحاث بخروج الرئيس بن علي من المواجهة الأمنية منتصرا على الإسلاميين (20 ألف معتقل وآلاف من المهاجرين خارج البلاد).
في الفترة المفصلية بين سنتي 1990 - 1992 أصبح شعار "لا صوت يعلو فوق صوت دحر الظلامية الدينية"، الشعار الأوحد لا سياسيا فحسب عن طريق تحقيق "الوفاق الوطني" بين كل التيارات اليسارية والوطنية ضد "حركة النهضة المحظورة"، بل وفي المجال البحثي حيث رمي "بالخونجة" (الانتماء إلى الخوانجية) كل طالب يذهب في اتجاه معاكس لرؤساء ومديري ومشرفي الأبحاث الإسلامية في الجامعة التونسية، ولحقت المضايقات الأكاديمية أساتذة من تيارات قريبة من التيار الإسلامي كالتيار العروبي، وأبرز وجوهه أستاذ الفلسفة "أبو يعرب المرزوقي (يُدرس الفلسفة حاليا في الجامعة الإسلامية بماليزيا)، وأستاذ علم الاجتماع محمود الذوادي".
هذا التحالف السياسي - الأكاديمي بين النظام السياسي التونسي و"مدرسة الإسلاميات" نجده في الكثير من الأحيان ضمنيا، وفي أحيان كثيرة جليا، بل يفاخر المعنيون به أحيانا دون مواربة، ولنترك "عبد الرزاق الحمامي" الأستاذ الجامعي في كلية الآداب بمنوبة يحدثنا عن هذا المنعطف السياسي والأكاديمي الذي شهدته الجامعة التونسية؛ حيث يقول "برز اتجاه أكاديمي حفل بدراسة الإسلام في مجال التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والحضارة، وأسهمت هذه الدراسات إلى جانب ما أنجزه الزيتونيون في بلورة مدرسة تونسية في دراسة الفكر الإسلامي متعددة الاختصاصات تعتمد مناهج العلوم الإنسانية قاطبة، وتنظر إلى الإسلام من زوايا متعددة في ظل الحياد والموضوعية لتحقيق نتائج تبدو فريدة في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر"، ويضيف الحمامي رابطا بين ولادة هذه المدرسة ونظام الرئيس بن علي، داعيا في نفس الوقت إلى مضاعفة الجهود.
وبجانب عمق دراسات المدرسة التونسية في الإسلاميات التي عرفت تطورا هاما في السنوات الأخيرة، وعلى الرغم من عناية دولة التغيير بتجديد الفكر الديني وترشيد خطابه، يظل الخلط بين جوهر الدين وتمثلاته الأسطورية في بعض الأذهان قائما" (المصدر - مجلة أفكار الجامعية التونسية - إلكترونية).
وربما وصل الاتفاق أو التحالف السياسي والأكاديمي غير المعلن بين "بين مدرسة الإسلاميات التونسية" ونظام الرئيس بن علي في التعيين الأكثر دلالة ل "محمد الشرفي" وزيرا للتربية سنة 1989 – 1994، أحد رموز حركة آفاق وصاحب كتاب "الإسلام والحرية: الالتباس التاريخي" (ترجم إلى العربية 2000 عن دار الفنك بالمغرب)، والذي يعد "الإنجيل الأكاديمي" لمدرسة الإسلاميات التونسية".
ولم يكن تعيين محمد الشرفي وزيرا للتربية مؤشرا على انفتاح النظام التونسي على اليسار التونسي فحسب، بل مثل الضوء الأخضر لكي تواكب عملية "اجتثاث حركة النهضة أمنيا" عملية "تجفيف ينابيع" ثقافية لا تمثل عملية "الإصلاح التربوي التي جيشت لها حركة النهضة سنة 1989 (بيان 2 أكتوبر للحركة) إلا ظاهر عملية الإصلاح فقط؛ لأنّ الأهم هو ما يجري في أروقة الجامعات عن طريق إفساح المجال للبحث الجامعي لكي يعيد قراءة التراث بحرية مطلقة ودون قيود سياسية.
وفي أحيان كثيرة بطريقة غير مسبوقة "من حيث الجرأة" في الجامعات العربية (تجاوز الأمر الأبحاث المتعلقة بالحديث النبوي إلى مراجعة كيفية جمع المصحف العثماني أي التساؤل عن مشروعية جمع النص القرآني ذاته - درس مقدمة في تاريخ المصحف - مادة الحضارة - كلية الآداب سوسة 1994)، طبعا تجري مثل هذه الدروس والبحوث في اتجاه واحد خالية من كل عملية نقاش تصطدم فيها الآراء بكل حرية في المجال السياسي والثقافي والأكاديمي.
ومن المفارقات، وهذا جوهر مؤاخذاتنا لمدرسة الإسلاميات التونسية، أنها وظفت السياق السياسي الضاغط على الخصم السياسي الإسلامي "الرجعي والظلامي" -كما تصفه- ومضت إلى استعماله في عملية تحالف ضمنية مع الآلة الأمنية من أجل نقد التراث، ومن أجل تحقيق فكرة المراجعة الشاملة للمسلمات الدينية.
والمفارقة العجيبة في هذه العملية أنّ أساتذة مدرسات الإسلاميات التونسية كثيرا ما انتقدوا في كتاباتهم "التحالف بين المحافظة الدينية في الشرق الأوسط مع النظم التقليدية الاستبدادية من أجل الانتشار وتحقيق الذات دون أن ينسوا أنهم تواطئوا ضمنيا مع نظام ليس هو بالتأكيد محافظا دينيا، ولكنه لا يختلف كثيرا عن الأنظمة الشرقية المحافظة سياسيا؛ حيث نجد "محمد حمزة" وهو أحد تلاميذ "عبد المجيد الشرفي"، - على سبيل المثال - يقول في كتابه "إسلام المجددين" (دار الطليعة مارس 2007 ص 20) ما نصه الآتي: "هذا الإسلام الجديد (إسلام شيخه عبد المجيد الشرفي) الذي يخط لنفسه طريقا شاقا وسط الهيمنة المطبقة التي يفرضها الفكر المحافظ والأصولي بفضل التعاضد بين المؤسسات الدينية وعديد الأنظمة السياسية المحافظة والرجعية المتناثرة في العالمين العربي والإسلامي".
دوجما التنوير!!
والذي يغفله محمد حمزة وغيره، ممن ينتمون إلى نفس المدرسة، أو الذين لا يستطيعون الجهر به، أنّ التحالف مع نظام رجعي ديني محافظ استبدادي ينكل بالعلمانيين، أو مع نظام شبه علماني يستعمل الآلة الأمنية في مواجهة خصومه السياسيين الإسلاميين لا ينتج بالنسبة للأكاديمي في الحالتين إلا معرفة مشوهة، وتنويرا ولد ولادة قيصرية هجينة، وهو في النهاية ليس إلّا وليد ثقافة مهيمنة بقوة العصا الأمنية أشبه ما يكون "بالتنوير السوفيتي"، فهو بالتالي ليس نتيجة جدل فكري، وحوار عقلاني ورأي ورأي مخالف.
فما الفرق بين ما قام به الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين عندما كتب تقريرا علميا عن أعمال الدكتور نصر حامد أبو زيد، واستند البعض إلى التقرير في محاكمة أبو زيد، وانتهى الأمر بتطليقه من زوجته، وبين ما يقوم به بعض رموز مدرسة الإسلاميات التونسية من تكفير معاكس برمي طلبتهم بتهمة "التأخون" (الانتماء إلى الإخوان المسلمين)، ومن ثم رفض توجه أطروحاتهم، والوصول إلى حد تسريب أسمائهم إلى الجهات الأمنية، هذا دون أن ننسى رفض الترقية، وتعطيل بعض الأساتذة لعدم انتمائهم إلى مدرسة الإسلاميات التونسية!!.
لا شك أنّ الإطار السياسي الضاغط وحده كاف للعديد من الباحثين في الجامعة التونسية لكي يسيروا في اتجاه رياح التوجه العام لضرب البنى التحتية للتراث الديني بكل حرية فكرية وبقدر من الاستقلالية نعم، ولكن بغطاء أمني - سياسي, فاتجاه الرياح الأكاديمية في مدرسة الإسلاميات التونسية يجعل أي عمل بحثي في الاتجاه المعاكس عملا مشوبا بالمخاطر حتى بالنسبة للجامعيين الذين لا يشك في "إيمانهم العلماني العميق" ذاتهم, فكتاب الباحثة سلوى الشرفي الذي عنوانه "الإسلاميون والديمقراطية" (صدر سنة 2008) بقي سبع سنوات ممنوعا من النشر على الرغم من أنها أكدت في أطروحتها أنّ الإسلاميين غير مقتنعين بالديمقراطية!، كما أنّ كتاب علية العلاني "الحركات الإسلامية بالوطن العربي: تونس نموذجا" (صدر عن سلسلة دفتر وجهة نظر - المغرب سنة 2007 ) لم يجد له من طريق للنشر إلا دور النشر خارج البلاد.
أما عن السياق السياسي والثقافي الجامعي الضاغط فيحاول رموز مدرسة الإسلاميات التونسية تقديم وجهة مستقلة في أعمالهم الأكاديمية، ولا يحاولون استعداء المؤسسة السياسية لأنّ "معركة الحداثة" تقتضي بالنسبة للبعض الاختيار بين نظام يبقى حداثيا في نظرهم على الرغم من قصوره الديمقراطي وبين عدو (الإسلاميين) يجب مقاومتهم بكل السبل "لأنّهم لم ولن يكونوا ديمقراطيين يوما ما".
فالجامعي حمادي الرديسي صاحب كتاب "الاستثناء الإسلامي" (صدر سنة 2004 بالفرنسية) هو أحد هؤلاء الجامعيين الذين يقدمون ضرورة مقاومة الظاهرة الإسلامية على واقع الاستبداد السياسي الكامن؛ حيث يقول في أحد حواراته "إنّ أصل الداء يعود لسببين: الديكتاتورية في الدول العربية والإسلامية التي تعود إلى التصور الديني التقليدي والمحافظة الدينية" (حوار هند العرفاوي - رابطة أدباء الشام)؛ أي إنّ المشكلة ليست في الحاكم المستبد، ولكن في الثقافة العربية الإسلامية التي أنتجته.
"شجاعة" الرديسي الفكرية ونقده الجذري "للاستثناء الإسلامي" ليست حقيقة؛ لأنه إزاء خصم وهمي على الأقل في الواقع التونسي، والأفكار التي يطرحها في كتابه ليس لها من مزية تحمله دفع ثمن ما، فضلا عن كونها تجاري السياق المحلي التونسي والعالمي في مقاومة "الإرهاب" بنظرة أكاديمية تلقي كثيرا من الحفاوة في مراكز البحث الغربية.
وربما كان حمادي الرديسي الأكثر تعبيرا عن نموذج "مدرسة الإسلاميات التونسية" التي تريد تحقيق التنوير الفكري والثقافي بأقل الأضرار الشخصية، وباستغلال السياق السياسي للبلاد في الخط العام المتواطئ والمداهن الخفي، وهو ما جعله في الكثير من الأحيان في معركة فكرية وسجالية مستمرة مع محمد الطالبي الذي مثل الاستثناء داخل "مدرسة الإسلاميات التونسية"، لا لكونه انقلب على المدرسة التي أسسها على مستوى النتائج، وبتسمية أفراد "المدرسة التونسية للإسلاميات" (خاصة حمادي الرديسي وعبد المجيد الشرفي) بمصطلحه الشهير "بالانسلاخسلاميين" (المنسلخون عن الإسلام) (انظر كتابه ليطمئن قلبي - صدر عن دار سراس - تونس سنة 2005)، ولكن أيضا باتخاذه موقفا إيمانيا عقائديا بالإقرار أنه "باحث مسلم" وموقفه السياسي الرافض للتوظيف السياسي بانضمامه إلى أكثر المؤسسات الحقوقية الناقدة للنظام السياسي بتونس، وهو المجلس الوطني للحريات غير المعترف به.
وإذا استثنينا المفكر محمد الطالبي (89 سنة)، الذي يعد عميد الجامعة التونسية تاريخيا، والمؤرخ هشام جعيط اللذين اتخذا مسافة من كل التوظيفات السياسية مع تأكيد الأول (الطالبي) على الروح الإيمانية في إطار عملية التنوير على خلاف التعاطي العام لمدرسة الإسلاميات التونسية، فإننا نستطيع القول بأنّ أكبر تحد يواجه هذه المدرسة هو أنها لم تسطع أن تثبت براءة ذمتها وتمايزها عن التوظيف السياسي، بل إنها تواطأت معه - تحت غاية علمية تنويرية في الظاهر - في معركته السياسية، وكانت أحد أدوات الأجندة الرسمية في المواجهة بين النظام التونسي والإسلاميين.
وإذا استعملنا أحد مناهج القراءة "للمدرسة التونسية للإسلاميات"، وهو وضع النصوص الدينية والمصنفات الفقهية المؤسسة للفكر الإسلامي تحت طائلة القراء التاريخية، والبحث في الأسباب الثقافية والسياسية والصراعات بين التيارات الفقهية (معتزلة, وحنابلة وغيرهما) في إنشاء فكر ما، وسيادة نص على نص آخر و"مأسسته" - على حد تعبير عبد المجيد الشرفي (كتاب الإسلام بين الرسالة والتاريخ) - فإنّ إنتاج المدرسة التونسية للإسلاميات هو بالتأكيد يخضع لنفس المنهج الانتقائي - الإقصائي في تاريخنا العربي الإسلامي لا بالحجة والحوار، ولكن بالاستعانة بغلبة السلطان.
------------------------------------------------------------------------
مراسل شبكة إسلام أون لاين في فرنسا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.