تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدرسة الإسلاميات التونسية.. تنوير السلطان
نشر في الحوار نت يوم 16 - 02 - 2010

مدرسة الإسلاميات التونسية.. تنوير السلطان
هادي يحمد / 15-02-2010
هل يمكن تحقيق عملية مراجعة عقلانية للتراث - باعتبارها حركة تنوير طبيعة غير هجينة - في ظل غياب أحد أهم مرتكزات "التنوير" وهو الحرية في الفكر؟ هذا هو السؤال الأساس الذي يوجه اليوم إلى ما أطلق عليه في الأدبيات الفكرية العربية والإسلامية "بالمدرسة التونسية للإسلاميات" التي تحتضنها الجامعات التونسية.
ففي مجال تصادم الأفكار لا بدّ من وجود حد أدني من ديمقراطية القول في المجالات السياسية والثقافية والأكاديمية في بلد ما.
في البداية نعني ب "المدرسة التونسية للإسلاميات" الأعمال الأكاديمية والأبحاث الجامعية في الإسلاميات التطبيقية L'islamologie appliquée (حيث يعتبر الفرنسي- الجزائري محمد أركون أحد المؤسسين لهذا العلم)، والتي نشأت في أقسام العلوم الإنسانية في دوائر ما يسمى بأبحاث مادة "الحضارة" civilisation في كليات الآداب بمنوبة "الشهيرة"، وكلية "9 أبريل" في العاصمة التونسية، وكذا في العديد من المدن التونسية الأخرى..
هذا فضلا عن الأبحاث التي تصدرها كليات الحقوق والمتعلقة بالخصوص بالموقف من التراث الفقهي والقانوني الإسلامي، والتي تنجز بالخصوص في كلية الحقوق والعلوم السياسية بمنطقة "المنار" بتونس العاصمة، وهي أحد أكبر الأقطاب العلمية التي أنشأتها دولة الاستقلال مع الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة.
وإذا رمنا تحديد بعض الوجوه المؤسسية الهامة لهذه المدرسة يمكننا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر "الشرفيين" أي محمد الشرفي وعبد المجيد الشرفي والمنصف عبد الجليل ومحمد الطالبي (مع الفراق المعرفي الذي قام به هذا الأخير وخروجه على مستوى النتيجة لا المنهج) وعبد الباقي الهرماسي وعبد الجليل بوقرة والعياض بن عاشور وحمادي الرديسي وعبد الرزاق الحمامي وكمال عمران وغيرهم كثير في الاختصاصات الحضارية والتاريخية والاجتماعية والقانونية ممن وضعوا أركان "مدرسة أكاديمية" بقدر ما نقدت الاستشراق نهلت منه، وبقدر ما نقدت النظرة التراثية والأرثوذكسية الدينية أنتجت "فكرا نقديا إسلاميا جديدا" مستعينة بالعلوم الإنسانية من الألسنية، والبنيوية، والتحليل النفسي، وعلم الأديان المقارن، وغيرها من أجل جعل النص - حسب رأيهم - قابلا "للقراءة العلمية الإنسانية".
وربما كان الباحث السوري المقيم بباريس هاشم صالح من أكثر المعجبين بهذه "المدرسة"، وهو يعرفها في لقاء مع موقع مدارك بتاريخ 12- 8 – 2009 قائلا: "هناك جهود كثيرة.. هناك "المدرسة التونسية" للتنوير والتي تعمل على تخفيف الإسلام من كل هذه الأثقال التي ترهق الإنسان المسلم وتشده عن الانخراط في العالم".
ويجب التأكيد أنه ليس من مهام هذا المقال مناقشة أفكار "المدرسة التونسية للإسلاميات"؛ أي إننا لن نبحث في النصف الثاني من قول هاشم صالح، فإنتاج المدرسة يبقى محل نظر وبحث وتقييم علمي للمقاولات والخلاصات التي وصلت إليها، وهي ربما في بعد منها من الأهمية بمكان لكي تخضع إلى الدراسة والتمعن غير أنّ المهم في هذه المقالة هو النظر في السياق التاريخي والسياسي والثقافي الذي أنتج هذه المدرسة، وهو برأينا ما يحتاج إلى وقفة ومساءلة لأصحاب هذه المدرسة ذاتها.
البداية يجب أن نعود إلى بداية الثمانينات في تونس إلي فترة "الحبيب بورقيبة" (حكم بين 1956 - 1987) الرئيس الأول لتونس، والذي يوصف في المحافل السياسية والثقافية الغربية ب "رائد الحداثة التونسية"؛ بسبب تحجيمه لمؤسسة جامع الزيتونة ووضعه لمجلة الأحوال الشخصية (قانون الأسرة)، والتي كانت أحد أبرز بصماته في رسم ملامح تونس الحديثة.
غير أنّ حداثة بورقيبة توصف بأنها "حداثة" نظام استبدادي اتخذ القمع والسجون وسيلة وحيدة تجاه خصومه السياسيين؛ حيث بدأ "المجاهد الأكبر" - كما كان يلقب - قمعه السياسي في مواجهة اليسار التونسي منذ بداية الستينيات ممثلا بحركة آفاق (تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التي تأسست بباريس سنة 1963)، ثم توسعت دائرة القمع عبر حملة الاعتقالات التي شملت الحركة النقابية فيما عرف بالمواجهة مع الزعيم النقابي الحبيب عاشور في أواخر السبعينيات، ثم شهدت بداية الثمانينيات مفتتح الحملات الأمنية المتتالية على الإسلاميين، خاصة حركة "الاتجاه الإسلامي بتونس" (تأسست في يونيو 1981)، والتي تحولت فيما بعدت إلى حركة النهضة التونسية.
وفي الفترة نفسها - الثمانينيات - بدأت تخرج إلى العلن أولى الدراسات التي تنتمي إلى "مدرسة الإسلاميات التونسية" في شكل مقالات وبحوث متفرقة على أعمدة مجلة "حوليات الجامعة التونسية" (تأسست سنة 1963)، وهي النشرة التابعة لكلية الآداب، وظهرت هذه الأبحاث الأولى من قبل أساتذة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمنوبة، والتي تعتبر أحد المعاقل الرئيسة التابعة للفصائل الفكرية اليسارية آنذاك مستفيدة من آليتين:
الأولى: "علمية بحتة"، وهي تبني اليسار الطلابي مبدأ الحرية الفكرية، وضرورة ضرب عقلية التحريم الديني وكسر "الثالوث المحرم" على حد تعبير "ياسين الحافظ" في مواجهة خصمها السياسي الذي بدأ يبث ما تعتبره "الدراسات الماضوية" في الجامعة، خاصة الاتجاه الإسلامي بفروعه الطلابية الناشئة آنذاك في الجامعة.
وأما الآلية الثانية: فهي توظيف السياق السياسي للمواجهة الأمنية الواقعة في بدايتها بين الإسلاميين وبورقيبة من أجل توسيع رقعة ضرب ما يسمى في الأدبيات البحثية "بالحفر في التراث".
التحالف مع السلطة
ولئن استفادت الحركة البحثية اليسارية - العلمانية عموما من توظيف المواجهة الأمنية بين الإسلاميين وبورقيبة بقدر معين فإنّ هذا الأخير لم يجار كثيرا كتلة اليسار - العلماني الجامعي في ما كان يبغيه وبقي إلى آخر أيامه في ريبة وخوف سياسي من انفلات الأمور من يديه سياسيا، وبالتالي فإنه لم يذهب بعيدا في الدفع إلى تشجيع أعمال المدرسة التونسية في الإسلاميات إلى أقصاها، وبالأصح لم يتفطن بما فيه الكفاية إلى ضرورة توظيف البعد الأكاديمي والتعليمي في المعركة ضد الإسلاميين. سوف ننتظر إلى عام 1987، والتغيير الذي شهدته تونس بوصول الرئيس زين العابدين بن علي إلى السلطة ليتغير اتجاه الأبحاث بشكل غير مسبوق وتحقق المدرسة التونسية للإسلاميات طفرتها الكبرى في مجال الأبحاث بخروج الرئيس بن علي من المواجهة الأمنية منتصرا على الإسلاميين (20 ألف معتقل وآلاف من المهاجرين خارج البلاد).
في الفترة المفصلية بين سنتي 1990 - 1992 أصبح شعار "لا صوت يعلو فوق صوت دحر الظلامية الدينية"، الشعار الأوحد لا سياسيا فحسب عن طريق تحقيق "الوفاق الوطني" بين كل التيارات اليسارية والوطنية ضد "حركة النهضة المحظورة"، بل وفي المجال البحثي حيث رمي "بالخونجة" (الانتماء إلى الخوانجية) كل طالب يذهب في اتجاه معاكس لرؤساء ومديري ومشرفي الأبحاث الإسلامية في الجامعة التونسية، ولحقت المضايقات الأكاديمية أساتذة من تيارات قريبة من التيار الإسلامي كالتيار العروبي، وأبرز وجوهه أستاذ الفلسفة "أبو يعرب المرزوقي (يُدرس الفلسفة حاليا في الجامعة الإسلامية بماليزيا)، وأستاذ علم الاجتماع محمود الذوادي".
هذا التحالف السياسي - الأكاديمي بين النظام السياسي التونسي و"مدرسة الإسلاميات" نجده في الكثير من الأحيان ضمنيا، وفي أحيان كثيرة جليا، بل يفاخر المعنيون به أحيانا دون مواربة، ولنترك "عبد الرزاق الحمامي" الأستاذ الجامعي في كلية الآداب بمنوبة يحدثنا عن هذا المنعطف السياسي والأكاديمي الذي شهدته الجامعة التونسية؛ حيث يقول "برز اتجاه أكاديمي حفل بدراسة الإسلام في مجال التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والحضارة، وأسهمت هذه الدراسات إلى جانب ما أنجزه الزيتونيون في بلورة مدرسة تونسية في دراسة الفكر الإسلامي متعددة الاختصاصات تعتمد مناهج العلوم الإنسانية قاطبة، وتنظر إلى الإسلام من زوايا متعددة في ظل الحياد والموضوعية لتحقيق نتائج تبدو فريدة في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر"، ويضيف الحمامي رابطا بين ولادة هذه المدرسة ونظام الرئيس بن علي، داعيا في نفس الوقت إلى مضاعفة الجهود.
وبجانب عمق دراسات المدرسة التونسية في الإسلاميات التي عرفت تطورا هاما في السنوات الأخيرة، وعلى الرغم من عناية دولة التغيير بتجديد الفكر الديني وترشيد خطابه، يظل الخلط بين جوهر الدين وتمثلاته الأسطورية في بعض الأذهان قائما" (المصدر - مجلة أفكار الجامعية التونسية - إلكترونية).
وربما وصل الاتفاق أو التحالف السياسي والأكاديمي غير المعلن بين "بين مدرسة الإسلاميات التونسية" ونظام الرئيس بن علي في التعيين الأكثر دلالة ل "محمد الشرفي" وزيرا للتربية سنة 1989 – 1994، أحد رموز حركة آفاق وصاحب كتاب "الإسلام والحرية: الالتباس التاريخي" (ترجم إلى العربية 2000 عن دار الفنك بالمغرب)، والذي يعد "الإنجيل الأكاديمي" لمدرسة الإسلاميات التونسية".
ولم يكن تعيين محمد الشرفي وزيرا للتربية مؤشرا على انفتاح النظام التونسي على اليسار التونسي فحسب، بل مثل الضوء الأخضر لكي تواكب عملية "اجتثاث حركة النهضة أمنيا" عملية "تجفيف ينابيع" ثقافية لا تمثل عملية "الإصلاح التربوي التي جيشت لها حركة النهضة سنة 1989 (بيان 2 أكتوبر للحركة) إلا ظاهر عملية الإصلاح فقط؛ لأنّ الأهم هو ما يجري في أروقة الجامعات عن طريق إفساح المجال للبحث الجامعي لكي يعيد قراءة التراث بحرية مطلقة ودون قيود سياسية.
وفي أحيان كثيرة بطريقة غير مسبوقة "من حيث الجرأة" في الجامعات العربية (تجاوز الأمر الأبحاث المتعلقة بالحديث النبوي إلى مراجعة كيفية جمع المصحف العثماني أي التساؤل عن مشروعية جمع النص القرآني ذاته - درس مقدمة في تاريخ المصحف - مادة الحضارة - كلية الآداب سوسة 1994)، طبعا تجري مثل هذه الدروس والبحوث في اتجاه واحد خالية من كل عملية نقاش تصطدم فيها الآراء بكل حرية في المجال السياسي والثقافي والأكاديمي.
ومن المفارقات، وهذا جوهر مؤاخذاتنا لمدرسة الإسلاميات التونسية، أنها وظفت السياق السياسي الضاغط على الخصم السياسي الإسلامي "الرجعي والظلامي" -كما تصفه- ومضت إلى استعماله في عملية تحالف ضمنية مع الآلة الأمنية من أجل نقد التراث، ومن أجل تحقيق فكرة المراجعة الشاملة للمسلمات الدينية.
والمفارقة العجيبة في هذه العملية أنّ أساتذة مدرسات الإسلاميات التونسية كثيرا ما انتقدوا في كتاباتهم "التحالف بين المحافظة الدينية في الشرق الأوسط مع النظم التقليدية الاستبدادية من أجل الانتشار وتحقيق الذات دون أن ينسوا أنهم تواطئوا ضمنيا مع نظام ليس هو بالتأكيد محافظا دينيا، ولكنه لا يختلف كثيرا عن الأنظمة الشرقية المحافظة سياسيا؛ حيث نجد "محمد حمزة" وهو أحد تلاميذ "عبد المجيد الشرفي"، - على سبيل المثال - يقول في كتابه "إسلام المجددين" (دار الطليعة مارس 2007 ص 20) ما نصه الآتي: "هذا الإسلام الجديد (إسلام شيخه عبد المجيد الشرفي) الذي يخط لنفسه طريقا شاقا وسط الهيمنة المطبقة التي يفرضها الفكر المحافظ والأصولي بفضل التعاضد بين المؤسسات الدينية وعديد الأنظمة السياسية المحافظة والرجعية المتناثرة في العالمين العربي والإسلامي".
دوجما التنوير!!
والذي يغفله محمد حمزة وغيره، ممن ينتمون إلى نفس المدرسة، أو الذين لا يستطيعون الجهر به، أنّ التحالف مع نظام رجعي ديني محافظ استبدادي ينكل بالعلمانيين، أو مع نظام شبه علماني يستعمل الآلة الأمنية في مواجهة خصومه السياسيين الإسلاميين لا ينتج بالنسبة للأكاديمي في الحالتين إلا معرفة مشوهة، وتنويرا ولد ولادة قيصرية هجينة، وهو في النهاية ليس إلّا وليد ثقافة مهيمنة بقوة العصا الأمنية أشبه ما يكون "بالتنوير السوفيتي"، فهو بالتالي ليس نتيجة جدل فكري، وحوار عقلاني ورأي ورأي مخالف.
فما الفرق بين ما قام به الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين عندما كتب تقريرا علميا عن أعمال الدكتور نصر حامد أبو زيد، واستند البعض إلى التقرير في محاكمة أبو زيد، وانتهى الأمر بتطليقه من زوجته، وبين ما يقوم به بعض رموز مدرسة الإسلاميات التونسية من تكفير معاكس برمي طلبتهم بتهمة "التأخون" (الانتماء إلى الإخوان المسلمين)، ومن ثم رفض توجه أطروحاتهم، والوصول إلى حد تسريب أسمائهم إلى الجهات الأمنية، هذا دون أن ننسى رفض الترقية، وتعطيل بعض الأساتذة لعدم انتمائهم إلى مدرسة الإسلاميات التونسية!!.
لا شك أنّ الإطار السياسي الضاغط وحده كاف للعديد من الباحثين في الجامعة التونسية لكي يسيروا في اتجاه رياح التوجه العام لضرب البنى التحتية للتراث الديني بكل حرية فكرية وبقدر من الاستقلالية نعم، ولكن بغطاء أمني - سياسي, فاتجاه الرياح الأكاديمية في مدرسة الإسلاميات التونسية يجعل أي عمل بحثي في الاتجاه المعاكس عملا مشوبا بالمخاطر حتى بالنسبة للجامعيين الذين لا يشك في "إيمانهم العلماني العميق" ذاتهم, فكتاب الباحثة سلوى الشرفي الذي عنوانه "الإسلاميون والديمقراطية" (صدر سنة 2008) بقي سبع سنوات ممنوعا من النشر على الرغم من أنها أكدت في أطروحتها أنّ الإسلاميين غير مقتنعين بالديمقراطية!، كما أنّ كتاب علية العلاني "الحركات الإسلامية بالوطن العربي: تونس نموذجا" (صدر عن سلسلة دفتر وجهة نظر - المغرب سنة 2007 ) لم يجد له من طريق للنشر إلا دور النشر خارج البلاد.
أما عن السياق السياسي والثقافي الجامعي الضاغط فيحاول رموز مدرسة الإسلاميات التونسية تقديم وجهة مستقلة في أعمالهم الأكاديمية، ولا يحاولون استعداء المؤسسة السياسية لأنّ "معركة الحداثة" تقتضي بالنسبة للبعض الاختيار بين نظام يبقى حداثيا في نظرهم على الرغم من قصوره الديمقراطي وبين عدو (الإسلاميين) يجب مقاومتهم بكل السبل "لأنّهم لم ولن يكونوا ديمقراطيين يوما ما".
فالجامعي حمادي الرديسي صاحب كتاب "الاستثناء الإسلامي" (صدر سنة 2004 بالفرنسية) هو أحد هؤلاء الجامعيين الذين يقدمون ضرورة مقاومة الظاهرة الإسلامية على واقع الاستبداد السياسي الكامن؛ حيث يقول في أحد حواراته "إنّ أصل الداء يعود لسببين: الديكتاتورية في الدول العربية والإسلامية التي تعود إلى التصور الديني التقليدي والمحافظة الدينية" (حوار هند العرفاوي - رابطة أدباء الشام)؛ أي إنّ المشكلة ليست في الحاكم المستبد، ولكن في الثقافة العربية الإسلامية التي أنتجته.
"شجاعة" الرديسي الفكرية ونقده الجذري "للاستثناء الإسلامي" ليست حقيقة؛ لأنه إزاء خصم وهمي على الأقل في الواقع التونسي، والأفكار التي يطرحها في كتابه ليس لها من مزية تحمله دفع ثمن ما، فضلا عن كونها تجاري السياق المحلي التونسي والعالمي في مقاومة "الإرهاب" بنظرة أكاديمية تلقي كثيرا من الحفاوة في مراكز البحث الغربية.
وربما كان حمادي الرديسي الأكثر تعبيرا عن نموذج "مدرسة الإسلاميات التونسية" التي تريد تحقيق التنوير الفكري والثقافي بأقل الأضرار الشخصية، وباستغلال السياق السياسي للبلاد في الخط العام المتواطئ والمداهن الخفي، وهو ما جعله في الكثير من الأحيان في معركة فكرية وسجالية مستمرة مع محمد الطالبي الذي مثل الاستثناء داخل "مدرسة الإسلاميات التونسية"، لا لكونه انقلب على المدرسة التي أسسها على مستوى النتائج، وبتسمية أفراد "المدرسة التونسية للإسلاميات" (خاصة حمادي الرديسي وعبد المجيد الشرفي) بمصطلحه الشهير "بالانسلاخسلاميين" (المنسلخون عن الإسلام) (انظر كتابه ليطمئن قلبي - صدر عن دار سراس - تونس سنة 2005)، ولكن أيضا باتخاذه موقفا إيمانيا عقائديا بالإقرار أنه "باحث مسلم" وموقفه السياسي الرافض للتوظيف السياسي بانضمامه إلى أكثر المؤسسات الحقوقية الناقدة للنظام السياسي بتونس، وهو المجلس الوطني للحريات غير المعترف به.
وإذا استثنينا المفكر محمد الطالبي (89 سنة)، الذي يعد عميد الجامعة التونسية تاريخيا، والمؤرخ هشام جعيط اللذين اتخذا مسافة من كل التوظيفات السياسية مع تأكيد الأول (الطالبي) على الروح الإيمانية في إطار عملية التنوير على خلاف التعاطي العام لمدرسة الإسلاميات التونسية، فإننا نستطيع القول بأنّ أكبر تحد يواجه هذه المدرسة هو أنها لم تسطع أن تثبت براءة ذمتها وتمايزها عن التوظيف السياسي، بل إنها تواطأت معه - تحت غاية علمية تنويرية في الظاهر - في معركته السياسية، وكانت أحد أدوات الأجندة الرسمية في المواجهة بين النظام التونسي والإسلاميين.
وإذا استعملنا أحد مناهج القراءة "للمدرسة التونسية للإسلاميات"، وهو وضع النصوص الدينية والمصنفات الفقهية المؤسسة للفكر الإسلامي تحت طائلة القراء التاريخية، والبحث في الأسباب الثقافية والسياسية والصراعات بين التيارات الفقهية (معتزلة, وحنابلة وغيرهما) في إنشاء فكر ما، وسيادة نص على نص آخر و"مأسسته" - على حد تعبير عبد المجيد الشرفي (كتاب الإسلام بين الرسالة والتاريخ) - فإنّ إنتاج المدرسة التونسية للإسلاميات هو بالتأكيد يخضع لنفس المنهج الانتقائي - الإقصائي في تاريخنا العربي الإسلامي لا بالحجة والحوار، ولكن بالاستعانة بغلبة السلطان.
------------------------------------------------------------------------
مراسل شبكة إسلام أون لاين في فرنسا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.