دفقات قلبي كانت غزارا, وانا أتجول بين جبال قبائل آيت باعمران وواحات صحراء بلدي الحبيب, وشعرت بالتاريخ يعيدني القهقرى إلى ميعة الصبا, حيث خفر صبايا قرى الجنوب وحياؤهن, وتخفيهن حين يظهر الغريب, وميولهن لمن يغزو قلوبهن عفة , ثم حفاوة الناس بالضيف أيا كان عصبته وقبيلته, وكيف كان الغريب يدخل بمفتاح كلمة: طالب ضيافة الله, فتفتح له الأبواب وينال خيرا وإن ضاقت بأصحاب الدنيا فهي تتسع للضيف, لكم أن تستوعبوا حجم الزبدة البلدية وزيت الأركان وعسل الدغموس والحساء الصباحي الممزوج بحليب الماعز, وكانت الأسر تحتفي بيوم يسمونه المعروف , تخرج النساء خلاله فيطبخن خارج البيت ويرغم كل عابري السبيل على تناول الطعام , فإن أبى كانت إهانة لا يمحوها تهرب أو حجج مهما قويت. وكانت الأسر تتبادل أنواع الطعام , ولم أشعر في صباي بالغربة وسط حينا بالصحراء فكل الخيام والبيوت مساكني, ولو نلت صفعة من أحد الجيران شيخا أم عجوزا فعليم كظم غيظي وكتمان دموعي وإلا نلت ضعفها إن شكوت الأمر لأهلي , فكلهم آبائي وكلهن أمهاتي , لم أقابل من يتسول من حينا ولو بلغت به الفاقة مبلغها, فمحرم في عرفنا أن يتسول أحد من فقرائنا فهو مؤشر أننا قوم سوء وبخل, فتجد الناس يوفرون مأكله وملبسه وينال حصته من هدايا الحج وغيرها وطعام الولائم, والأعياد. صور شتى ومؤثرة تعكس روح التكافل وكرما حاتميا جبل عليه الناس واعتبروه مفخرة يتوارثونها, لقد أصابني هم وغم شديدان حين عدت بعد تسع سنوات لبلدي, لأجد الإسمنت قد زحف على أزقة حينا وسكن غرباء كالحوا الوجوه ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت, إن سلموا فغمغات لا تكاد تبين, ووجدت أهل الخير قد غيب أغلبهم الثرى, لقد زحف وحش الرأسمال الغربي على حدائق الود في حينا, عشت ومازلت بين الأعاجم وأرى كيف يرمي الأبناء – وأغلبهم ولدوا من سفاح – آباءهم أو من يكفلهم إلى صقيع دور الرعاية , فيصابون بحزن وكآبة تعجل بوفاتهم, وهي ثمن باهض يدفعونه جزاء وفاقا لتلك المسلكيات الأنانية وهم شباب فالحسناء ترافق صاحبها وتترك الإبن مع خاله التلفزيون يشكل عقله وقلبه وتتباعد المسافات, ثم تجهز على أرواحهم عوامل التصحر والصقيع المادي فكل تواصلهم محسوب , وحلت بدل الزيارة الرسائل الهاتفية والأ لكترونية, وإن زارهم أحد برموا به, أو أوقدوا التلفاز فيصمتون كأن على رؤوسهم الطير, وتحولت الأحياء إلى مستعمرات وسجون إسمنيتة وناطحات سحاب, وكلما خرجت صباح يومك , تقابل وجوها قد لفحتها نيران جهنم, علتها العبوس القمطرير, ولو لمست أحدهم يصاب بسعار كلبي يكاد من فرطه يلتهمك, وظهرت فئة من السكارى والحشاشين صرعى كأعجاز نخل خاوية يتغنون بجمل غير مترابطة سموها شعرا حرا, وقد صدقوا فهو حر بلا عقال عربدة وكلام مخشب وملاعب فكريه عشبها اصطناعي وزينة تحسبها وردا فتجدها مصنوعة من البلاستيك, اختلطت أنفاس بدخان المصانع وعودام السيارات , وأصبحت وجوه النساء مسرحا لمعركة غير متكافئة تشنها جيوش المساحيق على يناعة الفطرة ورونقها وحين تصوم أكثرهن ويتركن المساحيق كرها لا اختيارا , تراهن كساحة معركة عبثت فيها سنابك الخيول,كنت أمتع ناظري بحدائق مدينتي وواحاتها, فوجدت الإسمنت علا في الأرض واتخذ فطرتها شيعا يستبيح نقاءها ويذبح قيمها. شعر الأعاجم أن الإسمنت سيقتل الإنسان فيهم فبدأت ردة نحو الفطرة عبر تكثير الحدائق, والتذكير بقيم الجوار كما حدث في واشنطن فلأول مرة أرغمت عاصفة الثلج بها ,الناس على التعاون والتواد والسؤال عن بعضهم البعض, وتشاركوا لقيمات وأطعمة محفظة , في سلوك شبه منقرض. فهل سننتظر عاصفة واشنطنية لتعود حياتنا لسابق عهدها وتعود أرواحنا للتعارف والتآلف,ونجد في قلوب جيراننا موئلا . أيها الرائعون رددوا معي ليسقط الإسمنت و لاتنسوا: أقدامنا في الأرض وقلوبنا في السماء مع خالص التحيات وأدعكم مع بديع قول المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري { من كان له فضل زاد فليعد به على من لازاد له ومن كان له فضل ظهر فليعد به على من لاظهر له} صدق الرحيم بالناس وسلام عليه في الخالدين.
الأستاذ. عبد الحق محمد الحبيب إكوديان ناشط في حقل الدعوة والعمل الخيري بين صبويا و كلميم باب الصحراء المغربية 21-02-2010م