تباينت المواقف بين الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان يعتبر اتفاقيات الحكم الذاتي «خطوة إلى الأمام»، والزعيم صالح بن يوسف الذي اعتبرها «خطوة الى الوراء» واستفحل الخلاف وسالت دماء الوطنيين والدستوريين عندما تعطلت لغة الحوار وحلت محلها التصفيات الجسدية. ونورد في هذه الحلقة موقف الزعيم صالح بن يوسف مثلما ورد في تصريح صحفي شهير أدلى به في جينيف يوم 1 ديسمبر 1954، بعد انطلاق المفاوضات بين الجانبين التونسي والفرنسي حول مضمون الحكم الذاتي وصيغه. «لقد أعلنت حكومة فرنسا الحكم الذاتي للبلاد التونسية منذ خمسة أشهر وأن الشعب التونسي رضي بالحكم الذاتي كمرحلة نحو الاستقلال التام بعد أن واصل كفاحه المرير طيلة سبعين سنة في سبيل استرجاع حريته واستقلاله منذ أن اغتصبتها فرنسا منه. حكم صوري إلا أن المفاوضات الجارية بين تونسوفرنسا منذ خمسة أشهر تدل على أن حكومة فرنسا لا تنوي البِرّ بوعودها، بل تحاول بجميع أنواع الضغط وحتى بالتهديد بقطع المفاوضات وأن تقتصر على منح تونس حكما ذاتيا صوريا يقر الوضع الحالي ويجعل من التونسيين وكلاء يحافظون على دوام النظام الاستعماري بتونس. لقد دقت الساعة اليوم لرفع كل التباس، لتعلم فرنسا وتعلم جميع البلدان التي منحت ثقتها الى منداس فرانس لينهي بالوسائل السلمية كل المشاكل القائمة بين تونسوفرنسا، إن الشعب التونسي لن يرضى أبدا بحكم ذاتي صوري يحول دون تحقيق الاستقلال التام للوطن التونسي. نريد حكما وطنيا حقيقيا إنما الحكم الذاتي الذي نقبله لا يكون إلا متجسما في حكم وطني صرف يدير وحده شؤون البلاد التونسية. إن مستلزمات الحكم الذاتي الذي نرتضيه لبلادنا تفرض: ٭ أولا: توقيف كل الاتفاقيات التي تحد من سيادتنا اذ دون ذلك التوقيف يصبح الحكم الذاتي حبرا على ورق ولن يكون مرحلة للاستقلال التام. ٭ ثانيا: تونسة الحكومة مع نقل كل سلطات الأمن اليها دون قيد ولا شرط، وبمجرد التوقيع على الاتفاقيات لا يبقى الحق لأية سلطة فرنسية، مدنية كانت أم عسكرية، ان تشارك في تحقيق الأمن والسهر عليه. حق تونس في بعث جيش وطني ولما كانت سلطات الأمن المدنية غير كافية، فلا بد أن تعترف لنا فرنسا بحق بعث جيشنا الوطني حتى تكون الحكومة التونسية قادرة مطلقا على تحقيق الأمن الكامل وبصفة ناجعة لكل القاطنين بالأراضي التونسية. إن وجود جيش وطني تونسي ضروري لقيام حكم ذاتي تونسي، يقر ذلك القانون الدولي ومصلحة الدولة التي تنشد حياة تشييد وبناء. ٭ ثالثا: ارجاع كل الاختصاصات التي هي بأيدي القضاء الفرنسي اليوم الى القضاء التونسي بعد أجل معقول حتى يصبح القضاء التونسي مهيمنا وحده على كل البلاد التونسية دون فرق في الجنسية أو الدين. التعلم والثقاف بأيدي التونسيين ٭ رابعا: تصرف الحكومة في شؤون التعليم والثقافة تصرفا مطلقا وذلك بأن تصبح ادارة التعليم العمومي بما فيها من مصالح ادارية وما يتبعها من مدارس ابتدائية وثانوية وعليا وزارة تونسية يديرها وزير تونسي ولا يكون للفرنسيين إلا ارسالية ثقافية تتسامح في وجودها الحكومة التونسية كما تتسامح لغيرها من الارساليات الأجنبية ويتحتم جعل تلك الارساليات تحت رقابة الحكومة التونسية فضلا عن أنها لن تتدخل في التعليم التونسي مطلقا. سياسة اقتصادية وطنية ٭ خامسا: الاعتراف للحكومة التونسية بأن تكون حرة في اتباع سياسة اقتصادية ونقدية وقمرقية متجانسة مع نظام البلاد التي تتعامل بالفرنك الفرنسي دون أن يكون ذلك التجانس سياسة لإقرار الروابط الاقتصادية بيننا وبين فرنسا في شكلها الحالي، اذ هو شكل استعماري صرف. يجب أن تكون للحكومة التونسية من الحرية ما يجعلها قادرة على نفع البلاد بكل امكانيات المساعدة الفنية والاقتصادية، تلك الامكانيات التي وضعتها المنظمات الدولية لفائدة الناشئة أو المتخلفة للنهوض بها اقتصاديا واجتماعيا. الحد الأدنى إن الحكم الذاتي لن يكون إلا بتوفر ما سبق من الشروط وهي تعتبر الحد الأدنى، فإذا ما نزلنا دونه نكون مغالطين لأنفسنا ولشعبنا. ويبدو أن حكومة فرنسا اليوم تتنكر للعهود التي التزم بها منداس فرانس أمام جلالة الملك العظيم وأمام العالم بأسره من أعلى منبر جمعية الأممالمتحدة. إن الشعب التونسي لن يقبل حكما ذاتيا خاليا من كل مستلزمات السيادة التي سبق ذكرها، وكل تنازل عنها أو عن بعضها يُعدّ غدرا بالوطن وخيانة لدماء شهدائنا الأبرار. المقاومة إن اخواننا المكافحين قد أوقفوا حركة المقاومة منذ 31 جويلية 1954 ظنا منهم ولو بعد تجارب قاسية أن رئيس حكومة فرنسا له موقف يبرّ بوعده واستجاب جيشنا الوطني للتحرر وقوادنا الأبطال الى نداء مولانا جلالة الملك وحكومته فوضعوا السلاح ثقة منهم أيضا بفرنسا... وإنه ليسعدني أن أعبر لجيشنا الوطني وجنوده البواسل عما تكنه لهم الأمة أفرادا وجماعات من محبة وتقدير واعتراف بالجميل. وإني باعث لكم أيها الاخوان المجاهدون برسالة اعجاب وتعظيم أقرهما العالم بأسره. إن العالم يشهد اليوم للشعب التونسي بالتعقل والنية الحسنة، ولكن هيهات أن تتحول النية الحسنة الى استجداء واستسلام. فليشهد العالم إن الشعب التونسي لفي حذر شديد، وإذا نكثت فرنسا وعودها كما يبدو ذلك من تعثر المفاوضات بين الحكومتين، فليشهد العالم أن فرنسا هي المسؤولة وحدها عن العواقب الخطيرة التي سوف تنجم حتما عن تنكر حكومتها للعهود والمواثيق " )جينيف 1 ديسمبر 1954( صالح بن يوسف الأمين العام للحزب الحر الدستوري التونسي