هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري..    سوسة/ القبض على منحرف خطير مفتش عنه..    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    وقفة احتجاجية ضد التطبيع الأكاديمي    العاصمة: وقفة احتجاجية لعدد من اصحاب "تاكسي موتور"    بن عروس: انتفاع 57 شخصا ببرنامج التمكين الاقتصادي للأسر محدودة الدخل    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    متابعة/ فاجعة البحارة في المهدية: تفاصيل جديدة وهذا ما كشفه أول الواصلين الى مكان الحادثة..    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    الحكومة الإسبانية تسن قانونا جديدا باسم مبابي!    لاعب الترجي : صن داونز فريق قوي و مواجهته لن تكون سهلة    الوكالة الفنية للنقل البري تصدر بلاغ هام للمواطنين..    صدور قرار يتعلق بتنظيم صيد التن الأحمر    هلاك كهل في حادث مرور مروع بسوسة..    فاجعة المهدية: الحصيلة النهائية للضحايا..#خبر_عاجل    تسجيل 13 حالة وفاة و 354 إصابة في حوادث مختلفة خلال 24 ساعة    600 سائح يزورون تطاوين في ال24 ساعة الأخيرة    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    حريق بشركة لتخزين وتعليب التمور بقبلي..وهذه التفاصيل..    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يواجه صن داونز .. من أجل تحقيق التأهل إلى المونديال    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    جندوبة : اندلاع حريق بمنزل و الحماية المدنية تتدخل    الإعلان عن نتائج بحث علمي حول تيبّس ثمار الدلاع .. التفاصيل    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    "ألفابت" تتجه لتجاوز تريليوني دولار بعد أرباح فاقت التوقعات    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    بطولة انقلترا : مانشستر سيتي يتخطى برايتون برباعية نظيفة    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    البطولة الايطالية : روما يعزز آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الأوروبية    زلزال بقوة 5.5 درجة يضرب هذه المنطقة..    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    تواصل نقص الأدوية في الصيدليات التونسية    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي تتراجع بنسبة 3ر17 بالمائة خلال الثلاثي الأول من سنة 2024    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    سعر "العلّوش" يصل الى 2000 دينار في هذه الولاية!!    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    طقس الخميس: سحب عابرة والحرارة بين 18 و26 درجة    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما هي مقاييس منداس فرانس في اختياره بين الباي وبورقيبة وبن يوسف للتفاوض؟

نواصل اليوم نشر الحلقة الرابعة للدراسة المطولة حول الحركة الوطنية التونسية ومواكب الاستقلال.
وقد كنا نشرنا الحلقات الأولى والثانية والثالثة من ذات الدراسة تباعا بتاريخ 21 و22 و23 أوت الجاري.
إنّ مجموع ما كتب حول هذا المبحث أي الأسطوغرافيا (historiographie) وما توصّلنا من رصد لمصادر أرشيفية وصحفية وإخبارية يفرضان عملية تذكير -وهو المنطلق الذي سنعتمده في تحليلنا- وعملية تعديل وإثراء. وفي هذا السياق، " لا يكون التأويل ممكنا إلاّ إذا كانت المادة المدروسة "وحدة منسّقة"، تتّسم إذن بصفات الكمال والشمولية والانتظام بقيمة جوهرية. إذا قلنا إنّ كلّ واقعة أو كلّ مجموعة وقائع تتحلّى دائما بهذه الصفات لزم أن الباحث يجد نفسه دائما في موقف تأويلي وأنّ إشكالية الفهم هي إشكالية كلّ مؤرّخ. إذا قلنا إن بعض الأحداث فقط تستوفي الشروط المذكورة وجب تحديد شروط استعمال منهج التأويل"82. إنّ تحديد منظوريْ الزعيم الحبيب بورقيبة والأمين العام للحزب صالح بن يوسف للاستقلال قبل إمضاء اتفاقيات 3 جوان 1955 يساهم في استجلاء أسباب الخلاف83. فقد بادر الزعيم الحبيب بورقيبة عن طريق مقالاته الصحفية بجريدة L'Action Tunisienne وتصريحاته وخطبه طوال الثلاثينات من القرن الماضي وتحديدا بين مؤتمر نهج الجبل (1933) ومؤتمر نهج التريبونال (1937) بتوخّي استراتيجية براغماتية مكث وفيا لها تكمن في البحث عن الوسائل والاجراءات العملية (تكوين حزب عصري وجماهيري قادر على العمل المباشر والمفاوضة وقيادة جبهة وطنية مضادة للاستعمار)، لتحقيق هدف الاستقلال بصفة مرحلية وذلك بإرغام الدولة الحامية على التفاوض. وازدادت هذه الاستراتيجية وضوحا إثر الحرب العالمية الثانية بالمراهنة على المعسكر الغربي في إطار الحرب الباردة التي شدّت العالم إلى حدود سنة 1989. وليس بخفيّ أن توظيف هذا الخيار كان الهدف منه الحصول على الدّعم الأمريكي في الضغط على السياسة الاستعمارية الفرنسية وإقناعها بوجوب إدخال إصلاحات جوهرية في مستعمراتها والانخراط تدريجيا في سياسة تصفية الاستعمار. ويمكن القول أنّ الزعيم بورقيبة لم يَحِدْ قيد أنملة عن هذه الاستراتجية84.
في حين نسجّل أن الأمين العام صالح بن يوسف الذي التزم إلى حدود تعيينه كوزير العدل في حكومة محمّد شنيق التفاوضية (أوت 1950 - مارس 1952) بالخطّ المرحلي لاستراتجية الحزب في مواجهة السياسة الاستعمارية وقبول مبدإ الحوار مع الأوساط السياسية التحرّرية الفرنسية85، سوف يتّخذ موقفا في البداية محترزا من العرض الذي تقدّم به رئيس الحكومة الفرنسية بيار منداس فرانس في خطابه بقرطاج يوم 31 جويلية 1954 ثم معارضا للاتفاقيات التي أبرمت بين حكومة الطاهر بن عمّار التفاوضية وحكومة الراديكالي إدغار فور (Edgar Faure) يوم 3 جوان 1955.
ولئن يبدو كما اختزل ذلك علية عميرة الصغير اختزالا شديدا في خصوص منظوريْ الزعيم الحبيب بورقيبة والأمين العام للحزب صالح بن يوسف للاستقلال قبل إمضاء اتفاقيات 3 جوان 1955 : " وفاء للمبدإ وبراغماتية في المواقف" بالنسبة للأوّل و" ثبات على الموقف واحترام لمقرّرات الحزب" بالنسبة للثاني، فإنّ ما يجب ملاحظته هو غيابهما في أشغال المؤتمر السرّي لنهج قرمطّو يوم 18 جانفي 1952 الذي انعقد تحت إشراف الهادي شاكر86. وعلى أيّة حال فإنّ الحملة القمعية الشرسة التي شنّتها السلطة الاستعمارية ضدّ قيادة الحزب الحرّ الدستوري الجديد ومناضليه واعتقال عناصره الفاعلة ستعطّل إلى حين عملية تبادل الرأي بين القيادة الدستورية الناشطة في الخارج (صالح بن يوسف، الباهي الادغم، الرشيد إدريس، علي البلهوان...) والقيادة الدستورية السرّية في الداخل (المنجي سليم، الطيب المهيري، الهادي نويرة، جلّولي فارس...) والقيادة المعتقلة (الزعيم الحبيب بورقيبة...)87. كذلك كانت لعملية اغتيال الزعيم النقابي الوطني فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر 1952 التأثير المرجوّ من سلطة الحماية وغلاة الاستعمار على موقف لمين باي الرّافض إلى حدّ ذلك التاريخ الاصلاحات المفروضة والمكرّسة لازدواجية السلطة.
ومن ناحية أخرى بالتوازي مع حلقة المقاومة الوطنية والقمع الاستعماري، لم تنفكّ بعض الأوساط الفرنسية التحرّرية صلب الحزب الراديكالي والحزب الاشتراكي من مواصلة مساعيها لإيجاد حلّ عادل للقضية التونسية88. ويكفي هنا أن نشير إلى خطاب وتصريحات الأمين العام صالح بن يوسف أثناء أشغال مؤتمر الأممية الاشتراكية بستوكهولم (16 و18 جويلية 1953) وزيارة النائب الاشتراكي آلان سافري إلى الزعيم بورقيبة المبعد في جزيرة جالطة يوم 3 مارس 1953. ولعلّ ذلك يؤكّد بصفة جلية حقيقة البعد التنافسي وحضوره بين الزعيميْن في كسب تعاطف الحزب الاشتراكي الفرنسي لأحد المنظورين حول مستقبل العلاقات التونسية-الفرنسية89.
وحتى لا نبتعد عن المشهد السياسي الذي سبق مبادرة رئيس الحكومة الفرنسية الراديكالي بيار منداس فرانس يوم 31 جويلية 1954، يمكن إعادة تمثّل القوى المؤثرة على النحو التالي:
- القيادة الوطنية في المهجر (الشرق العربي والآسيوي وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية) : أبرز عناصرها الأمين العام صالح بن يوسف المستقرّ بالقاهرة يضاف إليه الرشيد إدريس والطيب سليم ويوسف الرويسي وعلي البلهوان وأحمد بن صالح والباهي الأدغم...
- القيادة الوطنية في الداخل : الهادي نويرة إلى حدود استقالته من خطّة أمين عام مساعد للحزب لأسباب صحية وأمنية (أفريل 1954)90 والمنجي سليم، مدير الحزب والطيب المهيري وجلولي فارس والبشير بوعلي وأحمد التليلي وبقيّة الإطارات الحزبية التي تعمل في نطاق السرّية في المدن والأرياف (المقاومة المسلّحة في الجبال).
- القيادة الوطنية المعتقلة بصفة مستمرّة من 18 جانفي 1952 إلى حدّ وضعها تحت الإقامة الجبرية (جوان 1954) : الزعيم الحبيب بورقيبة. ويضاف إليه المئات من إطارات الحزب الوسطى (الجامعات الدستورية...) المعتقلين في السجون التونسية واللاّجئين بالقطر الليبي.
2- الباي : محمّد لمين وولي العهد الشاذلي اللذان وجّه إليهما الزعيم بورقيبة (موفّى شهر ماي 1954) نقدا لاذعا لموقفهما المتخاذل عقب إصلاحات المقيم العام بيار فوازار التي وافقت على إنجازها حكومة محمّد صالح مزالي وهدّدهما بقيام النظام الجمهوري، رمز سيادة الشّعب91.
وسوف يتأكّد ذلك إثر تشكّل حكومة بيار منداس فرانس -في أعقاب هزيمة ديان بيان فو Dien Bien Phu بالهند الصينية (مارس- ماي 1954) واندلاع حركة المقاومة المسلّحة في المغرب الأقصى- حين قرّر معالجة ملفّ القضية التونسية بصفة جدّية وكان عليه أن يختار بين لمين باي وصالح بن يوسف وبورقيبة92. ولم تكن المسألة هيّنة لا بالنسبة لرئيس الحكومة الفرنسية بيار منداس فرانس فحسب بل أيضا لمخاطبيه الثلاثة. والمصادر التي اعتمدناها لا تعطي أي هامش للحياد فقد كان الطرف الفرنسي يبحث على ما يؤمّن مصالحه قبل كلّ شيء. والسؤال الأوّل الذي يفرض نفسه : ما هي الدوافع التي جعلت بيار منداس فرانس يخيّر الحوار أو التفاوض مع الزعيم الحبيب بورقيبة ويزيح صالح بن يوسف من مجموع المتفاوضين المفترضين رغم خطته كأمين عام للحزب الحرّ الدستوري الجديد؟ وما هو الموقف الذي سيبديه لمين باي من خطاب قرطاج وتشكّل حكومة الطاهر بن عمّار التفاوضية ومن إمضاء الاتفاقيات ؟ وما هو موقف الحكومة التفاوضية من الخلاف اليوسفي-البورقيبي منذ رجوع صالح بن يوسف من المهجر يوم 13 سبتمبر 1955 إلى تاريخ " فراره" إلى القطر الليبي يوم 28 جانفي 1956؟ وإلى أيّ حدّ بلغت مقاومة صالح بن يوسف ونقده للحكومة التفاوضية في إطار معارضته للاتفاقيات؟
لقد استعان رئيس الحكومة الفرنسية بيار منداس فرانس في إحاطته بالملفّ التونسي بمجموعة من الشخصيات السياسية والإعلامية الفرنسية التي كانت لها اتصالات مباشرة بقيادة الحزب الحرّ الدستوري الجديد (محمّد المصمودي ممثّل الحزب الحرّ الدستوري الجديد بباريس والهادي نويرة) نذكر منها النائب الاشتراكي آلان سافري والكاتب العام للفيدرالية الاشتراكية بتونس الحكيم إيلي كوهن حضرية والمؤرّخ شارل أندري جوليان والصحفي روجي ستيفان (Roger Stéphane). ويمكن القول بأن السياسة الفرنسية المعتمدة -في التفاوض سرّا مع الزعيم الحبيب بورقيبة قبل تشكّل الحكومة التونسية- والتي حدّد ملامحها رئيس الحكومة الفرنسية بيار منداس فرانس (جوان 1954 - فيفري 1955) ثم ألان سافري كاتب الدولة المكلّف بالشؤون التونسية والمغربية إلى حدود استقالته يوم 3 نوفمبر 1956 من حكومة الاشتراكي قي مولّي (Guy Mollet) تعكس الهاجس الأمني الذي أصبح يهدّد الحضور الفرنسي بالمغرب العربي.
فقد ورد في المذكّرة الشخصية التي أعدّها بيار منداس فرانس لمستشاريه في الملفّ التونسي إدغار فور (Edgar Faure) وكريستيون فوشي (Christian Fouchet) وأندري بلابون (André Pélabon) رئيس ديوانه بتاريخ 18 و19 نوفمبر 1954 ما يلي: "(...) يجب علينا توظيف الوضع الذي انجرّ عن هرج حركة الفلاّقة للضغط على المتفاوضين التونسيين. لكن لا نتوهّم كثيرا، هؤلاء لا يملكون في الحقيقة أيّة وسيلة لإيقاف هذا الهرج. إنه جلي بأن قسما كبيرا من حركة الفلاّقة خارج عن نطاقهم. إذا نجحت المفاوضة، من المنتظر أنّ نسبة كبيرة من الفلاّقة ستطلب الأمان. لكن لا ننفي أن أقلية منهم ستواصل أعمالها. في هذه الحال، إنّ الحكومة التونسية ستطلب عوننا أكثر فأكثر. إنّ الفصل بين الوطنيين التونسيين الصوابيين (raisonnables) الذين يتعاونون معنا وبين التونسيين الغير قابلين للمصالحة يمثل التوجّه الذي كنّا دائما نحبّذه (...)"93.
كذلك شدّد كلّ من لويس برييي (Louis Périllier) المقيم العام السابق بتونس (1950 -1951) وبيار منداس فرانس على إبعاد الأمين العام للحزب صالح بن يوسف من طاولة التفاوض لموقفه " المتصلّب والعدائي" منذ أن اتّخذ من الدعم العربي-الآسيوي لحركة مناهضة الاستعمار ركيزة لتصفية الحضور الفرنسي بالمغرب العربي انطلاقا من القاهرة. ففي مذكّرة موجّهة إلى كريستيون فوشي وزير الشؤون التونسية والمغربية بتاريخ 30 ديسمبر 1954، طلب رئيس الحكومة" (...) أن يتجنّب ترخيص أيّ قيادي دستوري موجود حاليا بباريس أن يلتحق بالقاهرة أو أي مكان آخر للهرج الخارجي. يجب حصر حرية تنقّل القيادة الدستورية في الذهاب والإياب بين تونس وفرنسا(...)"94. أمّا لويس برييي فقد أصدر بنشرية "فرنسا-المغرب" (France-Maghreb) في عددها الأوّل (مارس 1954) مقالا حول الوضع التونسي ختمه كما يلي: "البرنامج قبل كلّ شيء" هذا ما تطالب به أغلبية التونسيين النيّرين ويبدو لهم أن اختيار الأسماء مسألة ثانوية. ولكن يمكن الجزم بأنّ أيّة شخصية ممثلة تصل إلى الحكم سوف تجعل من تحقيق الاستقلال الداخلي هدفها الأوّل. هنالك حلول تضمن بصفة ناجعة مشاركة الفرنسيين في المؤسّسات بشروط تتوافق مع السيادة التونسية. وإذا ما توفّرت الخطوط العامة للاتفاق، يمكن للحوار الواثق مع الشخصيات المعيّنة من قبل الباي أن يهيئ ظروف التفاهم المشترك ومتطلّباته. ولا يمكن قبول أيّ مانع تجاه الشخصيات التي حظيت بموافقة الباي وممثّل فرنسا بتونس. ويجب على صالح بن يوسف الذي اتّخذ من ميكروفون إذاعة القاهرة منبرا له أن يتوخّى الحذر. إنّ غيابه لفترة طويلة عن بلاده يجعله لا يقدّر بعض مظاهر تغيّر الوضع. عندما تظهر من طرفي النزاع رغبة اتفاق كنتيجة للأحداث التي جعلت هؤلاء وهؤلاء يعملون الفكر، لا يمكن " للمهاجرين" أن يلعبوا دور الحكم. إنّ صوت المهاجرين -تاريخ فرنسا شاهد على ذلك- لم يكن دائما صوت الحكمة"95.
أمّا ألان سافري كاتب الدولة المكلّف بالشؤون التونسية والمغربية في حكومة غي مولّي (Guy Mollet) والذي لعب دورا أساسيا في إنجاح خطة منداس فرانس التفاوضية -أو ما سمّي باتفاقية قرطاج- مع الزعيم الحبيب بورقيبة، فقد تعرّض إلى مسألة اختيار المفاوض التونسي الأمثل بالنسبة للدولة الفرنسية ملاحظا: "لا يوجد مثال في تاريخ تصفية الاستعمار يؤكّد الظفر بالاستقلال إثر انتخابات حرّة (...) صحيح كان أمامنا الحزب الحرّ الدستوري الجديد، ولكن في وقت معيّن وجب علينا أن نختار مع من نتحاور: بورقيبة أو صالح بن يوسف الذي كان قد قدّم لنا إقتراحات أكثر مرونة. إنّي أعرفها. (...) إنّ مصلحة فرنسا اقتضت أن نتحاور مع الذين لهم سلطة على أتباعهم حتى يتمّ الإيفاء بالعهود الممضاة (...)"96. ماذا يمكن أن نستخلص من مبادرة منداس فرانس والتعليمات التي وجّهها لأعضاده؟ هو الإيفاء بالعهود التي قدّمتها حكومات الجمهورية الرابعة والمتمثّلة في تحقيق الاستقلال الداخلي ولكن دون الخوض في مسألة الاستقلال، وهنا يأتي التباين بين مواقف منداس فرانس (الاستقلال الداخلي فقط) والزعيم الحبيب بورقيبة (الاستقلال الداخلي يفتح الطريق للاستقلال التام) وآلان سافري (الاستقلال في إطار التكافل L'indépendance dans l'interdépendance )97. ولقد أكّدت تطوّرات الأحداث في الايالة التونسية من 31 جويلية 1954 إلى 20 مارس 1956 مدى صحّة الرؤية البورقيبية في عملية التفاوض التونسي- الفرنسي من أجل الاستقلال.
ويبقى السؤال الأخير في خصوص خيار منداس فرانس التفاوض مع الزعيم بورقيبة بالرغم من أنّ هذا الأخير كان دائما يصرّح ويؤكّد أنّ هدفه الاستقلال بالتعاون مع الدولة الفرنسية وقد أجاب عنه النائب منداس فرانس في مداخلته أثناء مداولات الجمعية الوطنية يوم 8 جويلية 1955 المخصّصة للمصادقة على الاتفاقيات التونسية-الفرنسية مبيّنا الدوافع والمنطلقات: "(...) لقد نقد الكثير مساهمة الحزب الحرّ الدستوري في الحكومة التفاوضية. كذلك تمّ نقد الدّور الذي لعبته شخصية من الطراز الأول، السيد الحبيب بورقيبة. أعترف عن طواعية أن المفاوض المثالي، الذي نكون متيقنين من التفاهم معه بسهولة هو الذي نصنعه نحن حسب ميولاتنا الخاصة. ويمكن أن نعطيه الملامح التي نريدها (تصفيق على اليسار). (...) الحقيقة التي يجب إقرارها هي أن الحزب الحرّ الدستوري الجديد -دون احتكار نيابة الرغائب الوطنية- هو الذي يمثلها لأنه له تأثير على الجماهير التونسية. وأحببنا ذلك أم كرهنا فهو الذي قاد المعارضة الوطنية ضدّنا طوال سنوات عديدة. بالرغم من كلّ العراقيل، هو يكوّن الحزب الأكثر أهمية والأحسن تنظيما. وتجسيما لهذه الحقيقة -دعوناه سنة 1950 للمشاركة في الحكومة التفاوضية التونسية (حكومة محمّد شنيق) في شخص أمينه العام- للقيام بتلك التجربة. إنّ الالتزام السياسي المناط بعهدة الحكومة التونسية دون موافقة الحزب الحرّ الدستوري الجديد وزعيمه هو التزام ليس له قيمة، لأنّه قابل في أيّ وقت للإنكار من قبل الحزب الأكثر حيوية، الحزب الذي يرمز في عيون الشعب التونسي إلى النضال من أجل الاستقلال الذاتي والحرية (...)"98.
ما من شكّ أنّ المبادرة التي أقدم عليها رئيس الحكومة الفرنسية في الاتصال سرّا بالزعيم بورقيبة والاتفاق معه أزعجت لمين باي الذي خشي على عرشه. وأصبح لمين باي لأسباب مختلفة محلّ نقد لاذع من قِبَل غلاة الاستعمار الفرنسي بتونس والزعيم الحبيب بورقيبة. فقد كشف النائب الراديكالي بيار منداس فرانس بعد سقوط حكومته (5 فيفري 1955) في تدخّله أمام الجمعية الوطنية يوم 8 جويلية 1955 بأن " بعض الفرنسيين (فرنسيو تونس) طلبوا خلع الباي"99. وعلى أيّة حال، فإنّ جاك باردو (Jacques Bardoux) رئيس اللجنة المتوسّطية راسل على جناح السّرعة رئيس الحكومة الفرنسية إثر خطابه بقرطاج (31 جويلية 1954) مبيّنا أنّه " تعرّض إلى تهديد من قِبَل شخص مسلّح كان مطلبه الأساسي : تحقيق رغبة الباي في الحصول على لقب ملك"100. وكان نصّ الرسالة وجيزا وواضحا : " إنّ معالي الباي بالاتفاق مع أبنائه يطلب منكم أن يكون تخلّيه عن لقب باي وإبدال الإيالة بمملكة دعامة لسلطته الضرورية ويضعه في نفس الدّرجة التي تحصّل عليها ملك ليبيا(...) ويُثبّت قرار منح الاستقلال الذاتي. إنّ الباي مستعدّ لإمضاء توّا الإضافات الضرورية إلى معاهدة باردو لتأمين التعاون التونسي-الفرنسي والحضور الفرنسي بتونس"101. واعتبارا لأهمّية المقترح الذي تقدّم به لمين باي، بادر رئيس الحكومة الفرنسية باستشارة المقيم العام الجنرال بويي دو لاتور (Boyer de La Tour) الذي أجابه بأنّ العرض مهمّ ولكن مع الإشارة إلى أن مبادرة الاصلاحات ترجع إلى السلطة الحامية أي فرنسا وبالتالي هي نتيجة لمفاوضات هدفها تعريف النظام الدستوري الجديد102.
في ضوء هذه المواقف المتداخلة والمتتالية، يعسر على الدّارس أن يتحدّث عن مشهد ساكن. فالسلطة الفرنسية تبحث عن المفاوض الذي يؤمّن نجاح تدرّج البلاد التونسية إلى الاستقلال مع المحافظة على المصالح المشتركة، والباي يحاول إنقاذ عرشه وضمان حضوره إثر قطيعته مع الحزب الحرّ الدستوري الجديد نتيجة الموقف المتخاذل الذي توخّاه من إصلاحات دي هوتكلوك (De Hautecloque) و بيار فوازار (Pierre Voizard) (1953-1954)، والتنافس على أشدّه بين الزعيم الحبيب بورقيبة والأمين العام صالح بن يوسف الذي يعتمد أكثر فأكثر على الدّعم العربي-الآسيوي لنقد الاتفاقيات التونسية-الفرنسية ويرفع شعار التضامن المغاربي لتحقيق الاستقلال التام. وليس من قبيل الصدفة أن تتوازى عملية التفاوض الفرنسي-التونسي مع أشغال مؤتمر باندونغ (Bandung) (18-24أفريل 1955)103.
فقد ورد في التقرير الأسبوعي للاستعلامات الفرنسية حول الوضع السياسي بتونس للفترة المتراوحة بين 21 و27 جوان 1954 ما يلي: "(...) وفي خصوص الحاشية بالرغم من موقفها اللائق ظاهريا، فهي تسعى إلى التصالح حتى تحافظ على مصداقيتها لدى الشعب التونسي. ويبدو أن الأمير الشاذلي -بعد أن دفع والده الجراية إلى عائلة صالح بن يوسف- سلّم أخيرا بموافقة الباي مبلغ 3 ملايين لمساعدة مجموعات الفلاّقة (...)"104. ولئن باتت من المؤكّد حالة الانقسام على مستوى القيادة الدستورية إثر عملية إنجاز الاتفاقيات التونسية-الفرنسية (21 أفريل-3 جوان 1955)105، فإنّ انعكاساتها على سيْر نشاط الحكومة التفاوضية وعدم استتباب الأمن في الايالة ستتزامن مع عودة الزعيمين الحبيب بورقيبة (1 جوان 1955) وصالح بن يوسف (13 سبتمبر 1955). وتميّز المصادر الفرنسية الديبلوماسية والعسكرية بين عودة الزعيم بورقيبة التي " خلقت في الايالة وحدة تونسية مبتكرة ومقدّسة وحالة من الفرحة العارمة"106 وعودة الزعيم صالح بن يوسف الذي " نظّم ضدّ الحكومة التونسية حركة معارضة تحوّلت تدريجيا إلى تمرّد حقيقي ضدّ السلطة"107.
وفي هذا الإطار، بادر الزعيم الحبيب بورقيبة بزيارة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة يوم الاربعاء 6 جويلية 1955 وتدخّل لتبديد التوتّر بينها وقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل وطمأنتها على مآل الاتفاقيات التونسية-الفرنسية مؤكّدا على أنّ الهدف الأسمى هو الاستقلال التام108. ويبدو أنّ خيار المقيم العام روجي سيْدو (Roger Seydoux) -الذي أصبح المندوب السامي لفرنسا بتونس منذ تاريخ عودة صالح بن يوسف (13 سبتمبر 1955)- بدأ يتّضح في سياق تقييمه للوضع الداخلي والقوى المتنازعة عندما بيّن " أنّ غايته هو البقاء خارج دائرة هذا الهرج وملازمة الحذر في التعهّدات التي يمكن له اتخاذها" وأنّه يرغب إثبات التيار المعتدل للحزب الحرّ الدستوري التونسي لأنّ العكس يُفرز فوضى مؤكّدة " لا يمكن لنا مواجهتها إلاّ بالتشبّث ببقايا تلك القوّة التقليدية الضعيفة التي تمثلها الملكية. إنّي أريد دعم مكانتها حتى نختبرها في أداء دور الحَكَم بين مختلف التيّارات"109.
وتوازيا مع هذه المخاوف، شكّل اندلاع الثورة الجزائرية في غرّة نوفمبر 1954 الحجّة التي سيوظّفها الأمين العام للحزب صالح بن يوسف في الضغط على الحكومة التفاوضية ونقد الاتفاقيات التونسية-الفرنسية التي ما فتئ الزعيم بورقيبة يؤكّد صبغتها الظرفية وكانت نداءات صالح بن يوسف لمواصلة المقاومة المسلّحة واتصالاته تدفع مجموعات من المقاومين التونسيين والجزائريين للتحرّك في المناطق الحدودية. وتحسّبا لتدهور الوضع الأمني الداخلي واحتداد التصادم بين التياريْن البورقيبي واليوسفي، استقبل المندوب السامي لفرنسا بتونس، روجي سيدو (Roger Seydoux) الزعيم بورقيبة يوم 5 أكتوبر 1955. وهو أوّل استقبال رسمي يحظى به الزعيم من قبل سلطة الحماية بتونس. وكانت قناعة روجي سيدو عقب هذا اللّقاء أنّ " الاعتقاد بأنّ الحبيب بورقيبة هو صديق كبير لفرنسا وتمرير هذه الفكرة لدى الرأي العام وكذلك اتخاذ موقف صريح لمساندة رئيس الحزب ومعارضة الأمين العام يمثّلان الوسيلة المؤكّدة لإلحاق الضّرر بنشاط الزعيم (...) يجب ألّا نجعل مهمّته أكثر عسرا (...)"110.
ويتّضح من خلال هذا التقرير أنّ استراتيجية الدولة الفرنسية قد تغيّرت بين سنة 1948 و1954. فبعد أن كانت تعمل على إظهار الزعيم بورقيبة بكونه حليف الفرنسيين لإزالة حظوته وتشويه سمعته، أصبحت الآن تعمل على إخفاء المساندة له حتى لا تعرقل نشاطه111. وتأكّدت مخاوف المندوب الفرنسي روجي سيدو " حين استمرّ الأمين العام للحزب (منذ عودته من القاهرة يوم 13 سبتمبر 1955) في نقده العنيف للاتفاقيات التونسية الفرنسية والمفاوضين الذين أمضوها. وناشد الشعب التونسي الرجوع إلى الكفاح من جديد وهاجم بشدّة الحكومة وقيادة الحزب الحرّ الدستوري الجديد.
ففي الاجتماع الكبير الذي عقده بجامع الزيتونة يوم 7 أكتوبر 1955 صرّح: "يجب الرجوع إلى الكفاح من جديد لمقاومة الاتفاقيات". وفي يوم 17 أكتوبر 1955 بملعب جيو أندري (الشاذلي زويتن حاليا) بيّن ما يلي: " لقد تمّت مخادعة الشعب في خصوص الاتفاقيات وأن تطبيقها يعدّ خيانة كبرى". وواصل دعايته ضدّ الاتفاقيات مكرّرا نداءاته للمقاومة حيث صرّح في القيروان يوم 27 أكتوبر: "يجب على الشعب أن يرفض الاتفاقيات. إنّي مقتنع أنّ موقفكم منها سيكون سلبيا. إن قضيتنا ستنتصر". وفي تونس، يوم 17 نوفمبر 1955 بملعب جيو أندري وبحضور الوزير المصري الباقوري " أعيد ما قلته يوم 30 أكتوبر بمناسبة تدشين مقرّ الأمانة العامة، لكي نبلغ هدفنا الأسمى، يجب الرّجوع إلى الكفاح من جديد". ويضيف بحذر : " الكفاح السياسي وليس الكفاح المسلّح". وفي فوشانة يوم 27 نوفمبر، يكرّر نفس القول ولكن بأكثر حدّة.
"ثمّ يهاجم بصفة مباشرة الحكومة التونسية التي يطالب برحيلها. وفي يوم 29 نوفمبر، خلال اجتماع عقده بمنزله، صرّح بما يلي : "إنّ الحكومة الحالية عاجزة على جعل البلاد تستفيد من المنافع التافهة التي منحتها إيّاها الاتفاقيات. وتبعا لذلك يجب التحريض على الإطاحة بها وإسناد السلطة إلى أشخاص أكفّاء وغير منحازين". وفي يوم 6 ديسمبر أمام وفد من أنصاره بالمرسى الذين قدموا لزيارته، طلب تكثيف التعبئة مصرّحا: "لا تبحثوا على الجوْدة. إنّ الثورات لا تنجز بالإعتماد على أصحاب الطرابيش. ما أبحث عنه، هم عامة القوم في الشارع الّذين لا يخشون مجابهة الوزراء أو الذين يعتبرون أنفسهم قادة الشعب. اختاروا الذين لا يخشون عن مستقبلهم أو وضعيتهم".
"وفي يوم 13 ديسمبر 1955، كان موقفه أكثر تأكيدا أمام مجموعة من شباب الوطن القبلي : "إن الشعب سيطالب، في الموعد المناسب، بطرد الحكومة وإعادة فتح مفاوضات مع فرنسا للحصول على الاستقلال التام. وإن استحال ذلك، فإنّنا سنبادر بوضع خطّتنا حيّز التنفيذ". وفي اليوم الموالي، خلال ندوة صحفية، نادى بطرد الحكومة التونسية.
"وفي يوم 20 ديسمبر، أثناء اجتماع نظّم أمام منزله، صرّح: "في وقت سابق، كنّا نقاوم فقط الاستعمار، الآن يجب علينا أيضا مقاومة الحكومة التونسية والخونة الذين يعملون في دائرتها". وإثر منع عقد مؤتمر حزبه الذي أعلن عن نشأته إثر قرار رفته من الديوان السياسي، عقد الأستاذ صالح بن يوسف ندوة صحفية يوم 11 جانفي 1956 تخلّلتها تصريحات متوعّدة : "فليعلم الأستاذ بورقيبة والحكومة التي تعمل بهديه، بأنّ الحزب ومن ورائه الشعب سوف لا يستسلمان بسهولة تحت تأثير ديكتاتورية فاشستية ومشينة. هذه الديكتاتورية -التي سيكون مآلها الفشل- سوف ترمي بلدنا في دوّامة التشنّجات التي تتحمّل الحكومة مسؤوليتها أمام التاريخ". ثم يختم : "أمّا في خصوص الجديد، سوف تلاحظونه عمّا قريب. لا يمكن كشف كافة أوراقنا. الآن الحرب معلنة ضدّ "مجرمي" الديوان السياسي. وفي كلّ حرب، المتنازعون لا يكشفون عن أسرارهم"112.
هذا السّرد الكرونولوجي المتعلّق بتطوّر التصادم بين الديوان السياسي بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة وبين الأمين العام للحزب سوف يأخذ منعرجا جديدا وخطيرا عندما يتمّ الكشف يوم 16 ديسمبر 1955 عن منظمة سرية يوسفية كانت تستعدّ للقيام بأعمال تخريب وشغب في كافة أنحاء الإيالة، إذ حجزت مصالح الأمن في منزل المدعو علي بن صالح الخنقي حقيبتين محمّلتين بالأسلحة ووثائق عدّة " تكشف عن وجود منظّمة إرهابية متكوّنة من لجنة عليا متكوّنة من 5 أعضاء ولجنة نيابة وعدد من مجموعات صغيرة تتركّب كلّ واحدة منها من 6 أفراد. وقد بيّن التحقيق أنّ الحارس الشملي هو المنسّق الأوّل لهذه المنظّمة. وقد ساعده في مهمّته المقاوم السابق طيّب غرسة ومحمّد عبد الكافي، ابن أخ علي الزليطني، الذي كان همزة الوصل بين صالح بن يوسف والشملي، وكذلك المقاوم السابق حسن بلعيد المكلّف بشراء الأسلحة والذخيرة. وقد صرف بموجب ذلك المبلغ الذي تسلّمه من صالح بن يوسف البالغ 500.000 فرنك. وقد أعدّ الشملي قائمة إسمية في كافة العناصر المنخرطة في المنظّمة واستعدّت مصالح الأمن لاعتقال 40 منهم.
"كان من ضمنهم المدعو عبد العزيز بن عبد الرحمان العياري الذي اعترف بأنّ مهمّة انتدابه من قبل المجموعة اليوسفية تمثّلت في مقاومة الاتفاقيات وذلك عن طريق القيام بأعمال تخريبية. وبيّن أنّ هذه الأعمال ستدخل حيّز الإنجاز بعد انعقاد مؤتمر الأمانة العامة. أمّا الشملي الذي تمسّك في البداية بأنّ الهدف من بعث المنظمة هو حماية صالح بن يوسف، اعترف في الأخير بأنها كانت أيضا مهيّئة للقيام بعمل إرهابي أو ضدّ الإرهاب للردّ على الاستفزازات (...)"113.
كما يشير نفس التقرير المؤرّخ في 3 فيفري 1956 إلى عمليات المداهمة التي قامت بها مصالح الأمن يوم 28 جانفي 1956 بمنزل صالح بن يوسف ومقرّ الأمانة العامة وما أسفرت عنه من حجز كمّيات كبيرة من الأسلحة والمتفجّرات والمبالغ المالية. كما تؤكّد مختلف عمليات الحجز التي تمّت داخل الايالة (قفصة، صفاقس، الكاف وسوسة) " الخطوط الكبرى لوجود مؤامرة ضدّ الحكومة التونسية تهدف إلى إسقاطها وذلك بشنّ حركة تمرّد مسلّح والقيام بأعمال إرهابية في المدن. كما بينت مختلف الوثائق المحتجزة اتصالات المنظمة اليوسفية بأطراف أجنبية (الوزير الأول الباكستاني وقيادة حزب الاستقلال والحزب الاصلاحي بالمغرب الأقصى) دون العثور على ردّ منهم"114.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.