بعد الجدل الذي اثاره موضوع إفطار رمضان، واصل الرئيس بورقيبة محاولة ايجاد غطاء ديني والزج بالمشائخ والفقهاء في صفه «ولا يسعني الا أن أنوه بكل اكبار وتقدير بالمواقف النزيهة التي وقفها كثير من المشائخ والفقهاء»..
وفي المقابل فقد تعرّض بعض رموز جامع الزيتونة الى وابل من التهجمات الى حد اتهام بعضهم «بالتساهل عندما أفتوا بإباحة الفطر للجنود الذين يحاربون لفائدة فرنسا المستعمرة أثناء الحرب العالمية الثانية». واستظهر بورقة قال انها نسخة من وثيقة الفتوى، كما استظهر بورقة أخرى قال ايضا أنها نسخة من وثيقة لفتوى في «إباحة الفطر للعملة الذين يعملون لفائدة فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى». «قدوة» لغيره من القادة ويظهر واضحا من خلال السياق الذي استظهر فيه الرئيس بورقيبة بتلك الوثائق، أنه كان في حالة قصوى من الحنق لادراكه، بلا شك، أنه استحال عليه فرض ما كان يريد فرضه وانتزاع ما كان يريد انتزاعه من فتاو، وهو الذي كان في ذهنه أن يقتدي به قادة آخرون «وقد علمت أن المسؤولين في الباكستان والصين وغيرهما يتطلعون الى ما أنجزته تونس في هذا الميدان، وقد أبلغني سفرائي في الخارج أن الأغلبية الساحقة من المفكرين لدى تلك الشعوب تتفق معنا في الرأي، ولكنهم يحجمون عن قطع الخطوات الايجابية قائلين "إن ما يستطيعه بورقيبة في تونس لا يستطيعونه في بلدانهم" (...) إننا لم نفرض الافطار على الناس، ومن استطاع الصيام فإن الله يجزيه خيرا اذا شاء أن يجمع بين العمل وبين الصوم، أما من لم يستطع ذلك ومال الى الافطار فإنه لا يجب أن يتعرض الى أذى يجعله يركن الى الافطار في معزل عن الانظار ويسلك مسالك النفاق مما يحط من قدر الدين ومقامه (...). رؤية الهلال بقي أن أتحدث اليكم عن الأمر الذي أصدرناه في ضبط رؤية الهلال بطرق علمية، حيث أن الله لم يمنعنا من استثمار العلوم الصحيحة، وقد اعتمدنا في ذلك على أساس حسابي مضبوط، وكان الأمر متوقفا في الحجاز أيام الاسلام الأولى على رؤية الهلال بالعين المجردة لانعدام كل وسيلة أخرى. أما اليوم فلنا أن نضبط ساعة ظهور الهلال بدقة نتيجة لضبطنا سير القمر في دورانه لا سيما بعد أن اهتدى العلماء الى توجيه الصواريخ الى القمر دون أن تحيد عن طريقها الممتد آلافا من الكيلومترات (...). وقد ذكر لي بعض الاخوان أن البايات كانوا يتشاءمون من وقوع العيد في يوم الجمعة ويتطيرون منه ويعتقدون أن الحول لا يحول حتى يلقوا حتفهم(...) هذا ما وصلنا اليه وهذا هو الحضيض الذي بلغناه، لذلك قررنا الأخذ بالوسائل العلمية وأصدرنا قانونا وأصبحت الأشهر معروفة البدء والنهاية، اعتمادا على ضبط ميقات ظهور الهلال ضبطا دقيقا وضبط امكانية رؤيته بالعين المجردة وذلك ممكن عادة في اليوم الثاني من ولادته...». التأثر بأتاتورك تتفق مختلف المصادر على أن الزعيم الحبيب بورقيبة كان ربما يراهن على ما كان لديه من تأثير أدبي على جموع التونسيين والتونسيات غداة الاستقلال، وأنه كان متأثرا الى أبعد حدود التأثر والاعجاب بكمال أتاتورك ومواقفه اللائكية، وأنه كان ميالا الى اتخاذ مواقف من وقت الى آخر تباغت وتفاجئ وتصدم وتثير الدهشة والاندهاش.. ولا يختلف اثنان في أن الرئيس الحبيب بورقيبة كان مدفوعا بفكر تحديثي واضح، لكن ومثلما سبقت الاشارة الى ذلك فإن ما تتفق حوله مختلف المصادر، أنه ذهب بعيدا أكثر من اللزوم في مسألة الصوم والأفطار.. وقد عاد الى هذه المسألة وغيرها من المسائل الشرعية التي لا تحتمل التأويل والاجتهادات البشرية، ومنها الحج والاضحى وذلك بعد أربع سنوات من بيانات فيفري 1960 الشهيرة. نصف أو ربع خروف سنة 1964 كانت البلاد تعاني من قلة الموارد، والدولة تسعى إلى استحثاث أصحاب رؤوس الأموال على الاستثمار. وفي خطاب ألقاه بمدينة صفاقس يوم 29 أفريل 1964 تمادى الرئيس الحبيب بورقيبة في السماح لنفسه بإصدار الفتوى تلو الأخرى، ملاحظا في مستهل بيانه «ما بالُ الاستهلاك نما في شهر رمضان الأخير عمّا كان عليه في السنين الخوالي؟ ولماذا ذلك التهافت على اللحم والبيض والمواد الدسمة من دون أن يزيد استهلاكها أيّة قوّة في الإنتاج لأنّ معظم الصّائمين إذا أتخموا بالليل قضوا جلّ نهارهم وهم نيام... ومن هنا جاهرت بفكرتي التي أرى فيها تحقيق صالح المسلمين... وإنّي كمسلم مجتهد يجوز لي أن أدعوك يا ولدي للعمل والزيادة في الانتاج والتقليل من الإخلاد إلى الكسل والرّقاد، وإذا لزم أن تفطر في رمضان وتعوّض إفطارك ببذل المزيد من الجهد في العمل(...)، ولنتعوّد الإقلاع عن الأمور التي لا تليق من نوع الأمعان في اتّباع الشهوات من لحم وبيض للبريك وغير ذلك ممّا يعود استيراده علينا بنضوب مواردنا الحيويّة. ولنَقْتَدِ في هذا المجال بما دعت إليه شقيقتنا الجزائر من وجوب الاقتصار في الأضاحي على أقلّ عدد ممكن(...)، فما المانع يا سيّدي إن أنت أردت أن تجمع من حولك «ذرَارِيك» في يوم العيد أن تكتفي بنصف خروف أو بربع خروف(...)؟ الحج.. الى القيروان! وإذ قد حلّلت لكم هذا الموضوع، وأحسب أنّكم فهمتموه، فإنّي أريد أن أنتقل بكم إلى موضوع آخر له به شيء من الصلة. ونعني به مسألة الحج التي يبالغ بعض الناس في الوفاء بها لا مرّة واحدة بل أحيانا أربع مرّات حتى تبلغ عدد الحجّات عند بعضهم ست عشرة حجّة. لماذا هذا يا ولدي؟ فهلاّ تكفي حجّة واحدة؟ وأنا في وسعي أن أفتيك يا سيّدي بصفتي إمام المسلمين في هذه البلاد بأنّ نصف المليون الذي ستنفقه في حجّتك إذا أنت رصدته في صندوق التضامن الاجتماعي أو أقرضت به دولتك التي هي بصدد تصنيع بلادك بما من شأنه أن يزيد في ثروتها، لقمت بواجبك نحو هذه الأمة، وفي مقدورك أن تذهب إذا شئت التبرك، لزيارة قبر أحد أصحاب رسول الله ممّن تضمّ رفاتهم الطاهرة تربة بلادك كأبي زمعة البلوي دفين القيروان أو تقتصر مثلا على حجّة واحدة في العمر(...).