قد يبدو من السخيف الحديث عن القراءة في زمن البهتان حيث المجتمع في أوج الهذيان، والمقهى (مقهى الجلوس ومقهى الإنترنيت) أكثر شعبية من الكتاب. ما جدوى الحديث عن القراءة في وقت أصبح فيه الكتاب مجرد سلعة تكدس وتعتقل في المكتبات أو تقام لها المعارض في أحسن الأحوال لكن من دون أن تجد زبناء يتذوقون القراءة؟ أليس من العبث الحديث عن فضائل الكتاب وطرائق القراءة في مجتمع يعج بالأميين؟ كيف يمكن إقناع الجائع الذي يلهث وراء خبزه اليومي بجدوى الغذاء الروحي؟ كل هذه الأسئلة، رغم شرعيتها، لن تكون موضوع هذه الورقة البسيطة التي لا ترقى لتقديم حلول جاهزة لمعضلة من حجم القراءة في المجتمع. حسبنا أن نتطرق لبعض المنطلقات المنهجية التي من شأنها تسهيل القراءة وجعلها عملية ممتعة وطقسا يوميا بعيدا عن الترف الأكاديمي، لا ندري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. القراءة في اللغة تعني الجمع والضم، ومنها القرآن لأنه يجمع السور ويضمها (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه). القراءة مفهوم حي تطور من مجرد التعرف على الرموز المكتوبة والنطق بها إلى ضرورة إعمال العقل بهدف الفهم ثم إلى ضرورة نقد المادة المقروءة عبر التفاعل بين القارئ والكاتب وصولا إلى ضرورة الاستفادة من المقروء في مختلف مناحي الحياة. لماذا نقرأ؟ (إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم...) المتأمل في هذا البيان القرآني البديع، الذي كان أول ما نزل على رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، يقتنع أن العلم نبراس الأمم وأن لا علم بدون قراءة. القراءة مفتاح المعرفة، أمة تقرأ أمة ترقى. تختلف أهداف القراءة باختلاف القراء أنفسهم، في هذا الصدد يمكن رصد بعضها: 1- أهداف تعبدية: القارئ يستحضر مجموعة من الأهداف والمحفزات تشجعه للقراءة، كأن ينال الأجر والثواب عند قراءة القرآن الكريم كون الحرف الواحد يعادل حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. 2- أهداف مهنية: هنا ينصب اهتمام القارئ على صلب تخصصه المهني لأغراض الترقية والنجاح الدراسي. 3- أهداف ترويحية: القراءة بهدف المتعة والتأتيت الفكري والترويح عن النفس (قصص، طرائف، شعر...) 4- أهداف معرفية: القراءة بهدف تعزيز المعارف وبناء الشخصية. 5- أهداف واقعية: القراءة بحسب الواقع الذي يعشه الإنسان (قراءة أحكام الصيام قبل دخول شهر رمضان، قراءة كتب الزواج والتربية الأسرية قبل بناء الأسرة...) لماذا لانقرأ؟ تتعدد أسباب العزوف عن القراءة حسب الأشخاص وكذلك المجتمعات التي يعيشون: 1- أسباب سوسيوتربوية: غياب ثقافة الكتاب والقراءة في مؤسسات مجتمعية مهمة خاصة الأسرة والمدرسة. 2- أسباب إقتصادية: تدني القدرة الشرائية بسبب الفقر وارتفاع أسعار الكتب، فالكثير من الأسر تهتم فقط بالخبز اليومي وتصنف الكتاب في خانة الترف. كما أن الشخص الجائع في المجتمع لا يسلك إلى أذنيه إلا كلام يبشره بالخبز. 3- البنية السوسيوثقافية للمجتمع: عدم وجود مكتبات ومراكز ثقافية ومقاهي أدبية قادرة على احتضان الناس مقابل انتشار المقاهي والملاهي حتى في المناطق النائية. 4- أسباب شخصية: • عدم الوعي بأهمية القراءة. • انعدام الرغبة والحافز الذاتي للقراءة. • عدم/سوء تنظيم الوقت. • كثرة وسائل اللهو. • طبيعة الشخصية الفوضوية غير الجدية وهي أضعف من أن تقرأ الكتب. • عدم اقتحام العقبة النفسية التي تحول بين القارئ والكتاب كأن تتصور مثلا أن قراءة الكتاب تتطلب مجهودا خارق وأن ذلك خاص بنخبة المجتمع. كيف نقرأ؟ القراءة عبارة عن حوار بين الكاتب والقارئ، فالكاتب يعرض أفكاره وآراءه على القارئ الذي بدوره يبذل جهدا ليرقى بمستوى تفاعله مع ما يقرأه وذلك لفهم النسق الذي اعتمده الكاتب في عرض وربط أفكاره. بالتالي فسؤال 'كيف نقرأ' مهم جدا ذلك أنه ليس كل من يقرأ يعتبر بالضرورة قارئا جيدا ما لم يكن ملما بطرق القراءة الفعالة لأن الاستفادة الفعلية من المقروء تأتي أساسا من الكيف لا الكم. يقول توماس هوبز في هذا الصدد: إن قرأت كتبا عديدة كما يفعل أكثر الناس فإني سأكون قليل الذكاء مثلهم. إن عظماء الكتاب كانوا دائما قراء عظاما، ولكن ذلك لا يعني أنهم قرؤوا كل الكتب التي كانت مدرجة في أيامهم كشيء لا غنى عنه. وهم في حالات عديدة قد قرأوا كتبا أقل مما نتطلبه نحن في معظم كلياتنا، ولكن ما قرأوه قرأوه بشكل جيد. ولأنهم أتقنوا قراءة هذه الكتب أصبحوا أندادا لكتابها. وقد تأهلوا لأن يصبحوا ذوي سلطات على قدراتهم الشخصية. وفي مجرى الأحداث الطبيعي غالبا ما يصبح الطالب الجيد أستاذا ويصبح القارئ الجيد كاتبا. هناك مجموعة من الأمور التي ينبغي مراعاتها في القراءة لتحصل الفائدة: 1- الاستعراض: هذه المرحلة تسبق القراءة، أهمتها أنها يجعل القارئ يستعد نفسيا وعقليا للقراءة وذلك بإلقاء نظرة عامة وسريعة على الكتاب بدل الهجوم عليه: يستحسن قراءة العنوان، اسم الكاتب، الغلاف، فهرس المحتويات، عدد الصفحات، المقدمة، الخاتمة، بداية ونهاية الفصول... كل هذا من أجل استكشاف منظومة الكتاب وتحديد النقط الهامة التي تستحق التركيز. 2- السؤال: قد تتبادر إلى ذهن القارئ، وهو يتصفح الكتاب، مجموعة من الأسئلة التي تستفزه وتشجعه للقراءة. يستحسن كتابة هذه الأسئلة لتسهيل البحث عن أجوبة لها في النص، كلما تسلح القارئ بمزيد من الأسئلة كلما زادت قدرته على التفاعل مع النص. 3- القراءة: تأتي مرحلة القراءة، التفاعل المباشر مع النص، تتويجا للمرحلتين السابقتين. لا يمكن قراءة كتاب واحد بإيقاع واحد نظرا لاختلاف درجة الصعوبة والأهمية بين فصول الكتاب. 4- التلخيص: يحرص القارئ كل الحرص على تدوين الفوائد التي جناها من الكتاب، فالعلم صيد وصيده كتابته. لذلك فالقلم والسجل من الأدوات المهمة جدا والمصاحبة لعملية القراءة ليتمكن القارئ من تدوين ملاحظات موجزة ومركزة وبأسلوب شخصي. هذه الملاحظات تصلح لتكون المادة الأساسية لملخص الكتاب الذي يغني عن قراءة الكتاب مرة أخرى. 5- القراءة البحثية/الهادفة: لتحصيل الفائدة أكثر ينبغي أن تكون القراءة هادفة، فالقراءة العشوائية تجعل القارئ ينسى 50 بالمائة مما قرأه خلال نصف ساعة و80 بالمائة خلال 24 ساعة. كما أن القارئ يضيع الكثير من الوقت والجهد للحصول على قدر ضئيل من المعلومات. هناك أمور أخرى بسيطة لكنها مهمة في الحفاظ على وتيرة القراءة: على سبيل المثال ينبغي استخدام جميع الحواس في عملية القراءة خاصة العين واليد، كلما كان التنسيق بينها وبين العقل جيدا زاد الاستيعاب. كما يستحسن اتخاذ كتابين للقراءة في وقت واحد دفعا للملل: أحد الكتابين أصل والآخر فرع، الكتاب الأصل هو الهدف الأساس للقراءة أما الكتاب الفرع فله دوره في الترويح وتجديد التركيز والرغبة مع الحرص على تجنب القراءة بأسلوب الفراشة وهو الانتقال المفاجئ والعشوائي بين الكتب من غير إتمام قراءتها وتحصيل شيء منها. القراءة السريعة: القراءة في عصر السرعة يجب أن تكون سريعة وفعالة. نحن نعيش في عصر يعرف تطورا معلوماتيا هائلا مما يفرض علينا أن نتعلم المهارات التي تساعدنا على تسريع وتيرة قراءتنا لمواكبة المعلومات الجديدة المتدفقة كل يوم. تسريع القراءة فن يمكن التدرب عليه وإتقانه، مثلا الفرق بين القارئ البطء والسريع كالفرق بين المبتدئ في الكتابة على الحاسوب حيث يتطلب منه كتابة نص وقتا طويلا لأنه لم يتعود بعد على أزرار الحروف في حين أن المحترف الذي تدرب على ذلك فيمكنه أن يكتب صفحات بسرعة وسهولة أيضا. إذن فتسريع وتيرة القراءة مع الحفاظ على التركيز أمر ممكن، إنها مسألة تدريب خاصة إذا علمنا أن الله تعالى حبانا بطاقة فكرية هائلة جدا إذ أن الشخص المتوسط يفكر بسرعة 50000 كلمة في الدقيقة بينما لا تتجاوز سرعة قراءته 250 كلمة في الدقيقة الواحدة. يتفاوت القراء في وتيرة قراءتهم واستيعابهم، من القراء من تجاوز مرحلة القراءة كلمة كلمة وسطرا سطرا، تجاوزه إلى مجال أوسع حيث يقرأ جزءا كبيرا من الصفحة أو الصفحة كلها دفعة واحدة. بمعنى آخر، يقرأ مجموعة من الكلمات في وقت وجيز جدا ويراها ضمن علاقات مترابطة. فعندما نريد قراءة كلمة ما فإننا نقرأها كاملة وليس حرفا حرفا، نفس الشيء تماما بالنسبة للقراءة السريعة تقرأ فقرة كلها عوض قراءتها سطرا سطرا. هذه المهارة تعتمد على توسيع مجال البصر كما في الأنشطة اليومية، فعندما يقود شخص سيارة فإن بصره لا يكون حبيس بعد واحد فقط (السياقة) بل يوسعه ليتسع المجال أكثر: النظر يمينا وشمالا، التحدث مع راكب، التحدث في الهاتف، الاستماع إلى الموسيقى... كل ذلك إلى جانب السياقة. تبقى الممارسة هي المفتاح، تعلمنا في المستوى الابتدائي النظر إلى الكلمة الواحدة حرفا حرفا، بعدها تعلمنا النطق بالكلمة دفعة واحدة، تم الجملة كاملة...وهكذا. إن القراءة السريعة ليست بدعة جديدة للقراءة، بل هي معروفة منذ القدم كممارسة وإن كانت جديدة كتقنية لتحسين مستوى القراءة. يكون توسيع مجال العين من خلال النظر إلى السطر على أنه مجموعة مترابطة. في القراءة السريعة ينصح بعدم تحريك الرأس كثيرا لأن ذلك متعب جدا، فلو كنت تقرأ كتابا من 500 صفحة، كل صفحة تحتوي على 30 سطرا فهذا يعني أنك ستحرك رأسك أكثر من 15000 مرة وهذا كاف ليجرك لتعب شديد أو نوم عميق. الوضع المثالي للرأس هو أن يستقر إلى منتصف الصفحة وتستخدم العين (بمساعدة العين) في القراءة أفقيا وعموديا. لعل هذه الورقة لامست بعضا من جوانب هذا الموضوع والأمل معقود أن نعمق النقاش أكثر وأن يكون الجميع في مستوى خطورة المعضلة ومن ثم العمل على إيجاد حلول ناجعة. فكم كانت خيبتنا كبيرة جدا عندما عرفنا أن نصينا من القراءة بين الأمم هو نصيب الفيل من ولوج ثقب الإبرة، وكم كانت هذه الخيبة أكبر عندما ننعت أنفسنا بأمة إقرأ وبيننا وبين القراءة ما الله به أعلم. أفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.