ينصّ الدستور في فاتحة بنوده على ان تونس دولة لغتها العربية ودينها الإسلام. هذا النص يحدد بشكل قاطع الإطار المرجعي لكل القوانين والممارسات المتعلقة بسياسة الدولة وبرامجها التنموية في كل مناحي الحياة العامة كما يفرض على سلطة الحكم التزامات دستورية- فضلا عن كونها التزامات وطنية وحضارية – بان تخضع جميع أجهزتها ومؤسساتها وبرامجها لمبادئ وقواعد العروبة والإسلام لغة و نظم حياة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية و تعليمية. وعندما نخص أجهزة الحكم بهذه الالتزامات فلأنها هي المسؤولة الأولى عن تطبيق الدستور وسن القوانين وصياغة البرامج و إذا تقاعست عن تحمل مسؤولية هذا الدور الدستوري فإنه لا يمكن محاسبة الأفراد من ورائها كما لا يمكن الحديث بعدها عن سيادة القانون ودولة المؤسسات وسيادة البلاد ومناعتها. ما يدعونا للتذكير بهذه المبادئ الدستورية ومسؤولية الحكم المباشرة عن صيانتها وتفعيلها في واقع التنمية الوطنية هو أننا نرى ونلاحظ كما يرى غيرنا ويلاحظ أن عددا كبيرا من المؤسسات الوطنية العمومية والخاصة تضرب عرض الحائط باللغة العربية وبجميع القوانين والمناشير الصادرة في الغرض وتدير نشاطها وعملها بشكل يخالف إرادة الدولة وخياراتها الوطنية المنصوص عليها في بنود الدستور الذي لا نعتقد انه وجد عبثا ولغوا من المشرّعين الذين صاغوه. هذه المؤسسات الوطنية العمومية والخاصة تفرض بسلوكها هذا على المواطن لغة ليست لغة البلاد ولا لغة التاريخ الوطني ولا لغة الخيار الدستوري بل هي اللغة الفرنسية تركة زمن الاستعمار الفرنسي المباشر امتدت وتغلغلت في دواليب الدولة الوطنية وفي نسيجها التربوي والتعليمي والثقافي والاقتصادي والإعلامي و في فكر نخبة عريضة من انصارها وصارت لغة الأمر الواقع في أهم المجالات والقطاعات ذات الصلة بالاقتصاد والتعليم والثقافة وتفرض بذلك تحديا حقيقيا على الدستور وعلى التاريخ وعلى هوية البلاد ومستقبلها. هذا الوضع المنافي للدستور وللتاريخ وللوطنية الذي صارت تتربع عليه اللغة الفرنسية في هياكل التربية والتعليم والثقافة والبحث العلمي وفي إدارة عديد الوزارات والمؤسسات العمومية وفي هياكل المؤسسات الاقتصادية من بنوك ومؤسسات مالية وشركات تامين ومكاتب هندسة وشركات استثمار وغيرها مما يطول ذكره لا يمكن بأية حال من الأحوال فهمه بعيدا عن النزيف الاستعماري التاريخي في شرايين البلاد والدعم الخارجي الذي يلقاه تيار الفرنكوفونية السياسية والثقافية وتواطؤ نخب عديدة فقدت بوصلة الهوية والانتماء وربطت مصالحها بمصالح الخارج ومارست فعلها الثقافي داخل هياكل الدولة الحديثة وخلقت وضعا سياسيا وثقافيا همّش عناصر الهوية كما ينص عليها الدستور و فتح لغة الفرنسية مجالات واسعة للنفاذ والاختراق تجاوزت حدود التواصل اللغوي إلى مستويات أعمق في الفكر ومنظومة القيم الثقافية والأخلاقية والسياسية. لم يعد ثمة مجال اليوم وبعد أكثر من نصف قرن على إصدار الدستور ورغم المناشير العديدة الصادرة عن الوزارة الأولى والداعية للتعريب أن نفهم تخاذل عديد المسؤولين في الوزارات وفي مؤسسات القطاع العام والخاص عن تعريب العمل في إداراتهم والسكوت عن الإهمال والتبخيس الذي تتعرض له اللغة العربية يوميا في الفضاءات العامة والخاصة. كما لم يعد ممكنا الفصل بين هذا التخاذل و التعدي وبين موجات الغزو والاستهداف الحضاري وبرامج التطبيع مع الصهيونية والاستعمار الجديد التي صار لها جيش من الأحزاب والمنظمات والنخب من أبناء جلدتنا" الوطنيين" يمارسونه تحت غطاءات وشعارات شتى ظاهرها التعاون وجوهرها العمالة والتبعية والتطبيع. وبالنظر لما صارت تمثله قضايا الهوية من تحد حقيقي على حاضر البلاد ومستقبلها أصبح من الخطورة البالغة استمرار هذا النزيف اللغوي والثقافي والسياسي خاصة وقد صار رافعة وجسرا لاستراتيجيات التدخل والتفكيك والتمكين للمصالح الاستعمارية و محاولات تعطيل وإجهاض تجارب البناء والتنمية المستقلة. وفي سبيل رد خطورة هذا النزيف وانصاف ذاكرة الشعب والوفاء لشهدائه وتضحيات مناضليه وحماية مستقبله الوطني لا بدّ على الحكومة من اتخاذ كل الإجراءات التي من شأنها تسييد مبادئ الدستور في التعريب الكامل والشامل للإدارة العمومية والخاصة في كل المعاملات والمراسلات الداخلية ومع المواطن والتقدم العملي في توفير كل العناصر والشروط اللازمة لتعريب التعليم في الشعب والاختصاصات العلمية والتقنية وبرامج البحث العلمي وما يصاحب ذلك من مراجعات لعقود الشراكة والتعاون الخارجي و تجريم العدوان على اللغة العربية عبر استصدار القوانين الرادعة وملزمة النفاذ. إن التعريب هو عنوان من عناوين استقلال الدولة وسيادتها ومدخل حضاري و وطني لنجاح كل برامج التنمية وعقد سياسي واجتماعي بين حاضر الشعب وماضيه للتقدم نحو المستقبل ويعد العدوان على اللغة العربية عدوانا حقيقيا على الاستقلال والسيادة والتنمية المستدامة وخدمة لمشاريع التفكيك والتفتيت الاستعماري . وإذا كان طابور العدوان على العروبة من تيار الفرنكوفونية السياسية والثقافية أحزابا ومنظمات وأفراد يتمترس في هوياته المشوهة وخياراته المحمولة على شبهة التبعية والعمالة فانه لا يقبل منه ولا من غيره أن يختطف مؤسسات الدولة ويعطل نصوص الدستور للدفاع عن وقائع الاختراق الاستعماري الثقافي واللغوي وحقيقة المصالح الخاصة التي راكمها حلفاؤه انتقاصا من هوية الشعب وتاريخ كفاحه ودماء شهدائه ومستقبل أجياله. كما لم يعد ممكنا استمرار العروبة نصا دستوريا صريحا و واقعا ميدانيا قبيحا.