حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    غدا نزول كميات هامة من الأمطار بهذه الجهات    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    سينعقد بالرياض: وزيرة الأسرة تشارك في أشغال الدورة 24 لمجلس أمناء مركز'كوثر'    دولة الاحتلال تلوح بإمكانية الانسحاب من الأمم المتحدة    السعودية: تحذير من طقس اليوم    السعودية: انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي ولا وجود لإصابات    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    بطولة المانيا : ليفركوزن يتعادل مع شتوتغارت ويحافظ على سجله خاليا من الهزائم    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقاه عبد الجليل المسعودي وخالد الحداد : عالم الاجتماع محمود الذوادي في «منتدى الاثنين»
نشر في الشروق يوم 24 - 09 - 2012

لا معنى لثورة حقيقية في المجتمع التونسي دون ثورة ثقافية.
المنتدى : «المنتدى» فضاء للتواصل مع قرائها بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكادميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر، تبتعد عن ذلك الى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة اثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي 2011.

اليوم يستضيف «المنتدى» الباحث التونسي الأستاذ الدكتور محمود الذوادي عالم الاجتماع الّذي له العديد من البحوث والدراسات وهو صاحب نظرية الرموز الثقافية المشهورة عربيا ودوليا.

وقد سبق للمنتدى أن استضاف كلا من السادة حمادي بن جاب الله وحمادي صمّود والمنصف بن عبد الجليل ورضوان المصمودي والعجمي الوريمي ولطفي بن عيسى ومحمّد العزيز ابن عاشور ومحمد صالح بن عيسى وتوفيق المديني ومحسن التليلي الّذين قدموا قراءات فكريّة وفلسفيّة وسياسيّة معمّقة للأوضاع في بلادنا والمنطقة وما شهدته العلاقات الدولية والمجتمعات من تغيّرات وتحوّلات.

وبامكان السادة القراء العودة الى هذه الحوارات عبر الموقع الالكتروني لصحيفتنا «www. alchourouk. com» والتفاعل مع مختلف المضامين والأفكار الواردة بها.

انّ «المنتدى» هو فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا الى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الاعلاميّة اليوم، انّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و»صراع النخب» و»جدل المفكرين» و»تباين قراءات الجامعيين والأكادميين - من مختلف الاختصاصات- ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والانسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.

وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة – في حدود 400 كلمة ) وبامكان السادة القراء موافاتنا بنصوصهم التفاعليّة مع ما يُنشر في المنتدى من حوارات على البريد الالكتروني التالي
:news_khaled@yahoo. fr.

أصبحت نظريتك للرموز الثقافية مشهورة عربيا وعالميا، فلو تفضلت بشرحها للقارئ الكريم؟
تقول نظريتنا للرموز الثقافية ان الانسان كائن ثقافي بالطبع. فالشرح الوافي لهذه النظرية قد يحتاج الى آلاف الكلمات في مقال أو دراسة أو كتاب أو حتى الى عديد المجلدات. ويمكن للمرء أن يتبنى، مثلا، منظور الفلسفة أو العلوم الاجتماعية أوهما معا لكي يكتب أطروحة متماسكة في هذا الموضوع. فنحن نعرف كم سال حبر أقلام الفلاسفة والمفكرين الاجتماعيين على الخصوص من كل الحضارات وفي كل العصور حول مقولة مشابهة ينادي شعارها: أن الانسان مدني/اجتماعي بالطبع.

ومن جهتنا، فنحن نرى أنه ليس من الضروري الاطناب في النقاش والجدال في جوهر الحجج المؤكدة للطبيعة الثقافية للانسان. فالمسألة يمكن حسمها في كلام مختصر. فخير الكلام ما قل ودل أو البلاغة الايجاز. ولبلوغ الهدف نعتمد على الجمع بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية. اذ يصعب التعمق في فهم طبيعة الانسان مع غياب أي من هذين الصنفين من العلوم. فلا يجوز علميا تحليل ذات الانسان وعمق كينونته بدون الحديث عن العوامل البيولوجية والفيزيولوجية / الجسمية عند الانسان. كما لا تقبل محاولة فهم هذا الأخير بتهميش أو الترك جانبا أهم ما يميز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن بقية الأجناس الحية الأخرى، وهي المنظومة الثقافية أو ما نسميه نحن بالرموز الثقافية: اللغة والفكر والدين والمعرفة/العلم والأسطورة والقوانين والقيم والأعراف الثقافية. ويمكن صياغة فكرتنا هذه بشيء من التصرف في تعبير الفيلسوف الفرنسي الشهبر ديكارت القائل» أفكر، اذن فأنا موجود «ليصبح في مقولة طرحنا الفكري هنا:» أستعمل رموزا ثقافية، اذن فأنا انسان». وهكذا فالانسان عندنا هو فعلا كائن ثقافي بالطبع قبل أن يكون اجتماعيا بالطبع. يستند هذا القول على ملاحظات رئيسية حول خمسة معالم ينفرد بها الجنس البشري عن غيره من الأجناس الحية الأخرى. انها ملاحظات دقيقة تؤكد في نهاية المطاف مركزية الرموز الثقافية في هوية الانسان. وحسب علمنا، فهي ملاحظات جديدة لا نعرف اذا كان قد اهتدى اليها كلها أو الى البعض منها علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع المعاصرين في دراساتهم للثقافة/الرموز الثقافية. ومن ثم، فهي ملاحظات مستحدثة الصنعة غريبة النزعة، كما وصف ابن خلدون ابتكاره لعلمه الجديد: علم العمران البشري في مقدمته المعروفة.
نوجز هذه الملاحظات والتعليقات عليها في ما يلي:
1 يتصف النمو الجسمي (البيولوجي الفيزيولوجي) لأفراد الجنس البشري ببطء شديد مقارنة بسرعة النمو الجسدي الذي نجده عند بقية الكائنات. ويصلح هذا لتفسير،مثلا، ظاهرة عجز الأطفال عن المشي المبكر أو البلوغ الجنسي المبكر أيضا كما هو الأمر عند صغار الحيوانات.
2 يتمتع أفراد الجنس البشري عموما بأمد حياة (سن) أطول من عمر معظم الحيوانات.
3 ينفرد الجنس البشري بلعب دور السيادة/الخلافة في هذا العالم بدون منافسة حقيقية له من طرف باقي الأجناس الأخرى على وجه الأرض.
4 وكما ذ كرنا من قبل، يتميّز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن الأجناس الأخرى بمنظومة ما الرموز الثقافية: اللغة، الفكر، الدين، المعرفة/العلم، القوانين، الأساطير، القيم والمعايير الثقافية. . .
5 يختص أفراد الجنس البشري بهوية مزدوجة تتكوّن من الجانب الجسدي، من ناحية، والجانب الرموزي الثقافي (المشار اليه أعلاه في 4 )، من ناحية ثانية. يسمح هذا التصور الجديد لتغيير التصور التقليدي لهوية الانسان والمنادي بأن الانسان جسد وروح لتصبح هوية الانسان عندنا جسدا ورموزا ثقافية. فيضفي ذلك شفافية أكبر على القرب أكثر من فهم وتفسير السلوكات البشرية الفردية والجماعية المتأثرة في العمق بمنظومة الرموز الثقافية ذات الصدارة المركزية في هوية الانسان، كما أشرنا.
والتساؤل المعرفي المشروع الآن هو: هل من علاقة بين تلك المعالم الخمسة التي يتميّز بها الانسان ؟
أولا: هناك علاقة مباشرة بين المعلمين 1 و 2. اذ أن النمو الجسمي البطيء عند أفراد الجنس البشري يؤدي بالضرورة الى حاجتهم الى معدل سن أطول يمكنهم من تحقيق مراحل النمو والنضج المختلفة والمتعددة المستويات. فالعلاقة بين الاثنين هي اذن من نوع العلاقة السببية.
ثانيا: أما الهوية المزدوجة التي يتصف بها الانسان فانها أيضا ذات علاقة مباشرة بالعنصر الجسدي (المعلم 1) للانسان، من جهة، والعنصر الرموزي الثقافي (المعلم 4)، من جهة أخرى.
ثالثا :عند البحث عن علاقة سيادة الجنس البشري بالمعالم الأربعة الأخرى، فان المعلمين 1 و 2 لا يؤهلانه، على مستوى القوة المادية، لكسب رهان السيادة على بقية الأجناس الحية، اذ الانسان أضعف جسديا من العديد من الكائنات الأخرى. ومن ثم، يمكن الاستنتاج بأن سيادة الجنس البشري ذات علاقة قوية ومباشرة بالمعلمين 5 و 4: الهوية المزدوجة والرموز الثقافية.

والعنصر المشترك بين هذين المعلمين هو منظومة الرموز الثقافية. وهكذا يتجلى الدور المركزي والحاسم لمنظومة الرموز الثقافية في تمكين الانسان وحده من السيادة في هذا العالم. أي أن الجانب غير المادي من الانسان (الرموز الثقافية) هو الذي يؤهله للسيادة وحده في هذا العالم على بقية الكائنات الأخرى الفاقدة لذلك النوع من الرموز الثقافية التي يتميز بها الانسان. ونحن لا نقول بالطريقة التقليدية التي ترى أن الرموز الثقافية غير مادية بمعنى أنها عناصر روحية. بل نقدم تصورا جديدا ملموسا يفسر خلوها من اللمسات المادية. فعناصر الرموز الثقافية كاللغة والفكر والدين. . . هي أمور لا وزن لها ولا حجم بالمعنى المادي للأشياء المادية التي لابد أن يكون لها وزن وحجم مهما كانا صغيرين وضئيلين. وهذا يعني في نهاية المطاف أن الجانب غير المادي/الرموزي الثقافي هو بيت القصيد في كينونة الانسان.

وهو ما تلح على أهميته الكبرى معظم المدارس الفلسفية البشرية عبر العصور والديانات وفي طليعتها الاسلام. وفقدان عالم الرموز الثقافية لعاملي الحجم والوزن يساعد أيضا على تفسير سرعة التواصل المدهش اليوم بالكلمة المكتوبة والمنطوقة والصورة مع ثورة الاتصالات عن طريق الفاكس والانترنت والهاتف وغيرها من وسائل التواصل الحديثة. فالتواصل بتلك الوسائل يلغي كليا عاملي الوزن والحجم من الأشياء المرسلة مكتوبة أومنطوقة على حد سواء. يفسر غياب هذين العاملين أيضا امكانية وضع محتوى عدد هائل من عشرات ومئآت آلاف صفحات المجلات والكتب والمجلدات في عدد قليل من الحاويات الالكترونية الصغيرة جدا Flash Disks.

رابعا: ان الرموز الثقافية تسمح أيضا بتفسير المعلمين 1 و2. وهو أمر يبدو عجيبا وغريبا جدا لا لقراء هذا السطور فقط بل لعامة والخاصة على حد سواء. ونأمل أن يزول العجب والغرابة بعد فهم تفسيرنا لهذا الأمر. وكما يقال: » اذا عرف السبب بطل العجب » . فالنمو الجسمي البطيء عند الانسان يمكن ارجاعه الى كون أ ن عملية النمو عنده تشمل جبهتين: الجبهة الجسمية والجبهة الرموزية الثقافية. وهذا خلافا للنمو الجسدي السريع عند الكائنات الأخرى بسبب فقدانها لمنظومة الرموز الثقافية بمعناها البشري الواسع والمعقد. والملاحظ بهذا الصدد أن الأطباء وعلماء البيولوجيا لا يكادون يأخذون بعين الاعتبار جبهة الرموز لثقافية في دراستهم للانسان هذا الكائن الرموزي الثقافي بالطبع. ومع ذلك، فهم طالما يدعون أنهم ينتمون الى العلوم الصحيحة.

وكيف تكون حقا صحيحة وهي تهمش مركز كينونة الانسان ! فمن الأمثلة المذكورة حول مركزبة الرموز الثقافية في هوية الانسان، يجوز ابتكار مفهوم جديد نسميه تثقيف البيولوجيا Culturobiology الذي يعني أن الثقافة/الرموز الثقافية تؤثر على بيولوجيا الانسان.

قرأنا مقولتك التي ترى أن اللغة هي أم الرموز الثقافية، كيف ذلك؟

تعتبر اللغة والدين أهم عنصرين في منظومة الرموز الثقافية. فاللغة هي أم الرموز الثقافية جميعا. أي أنه يتعذر وجود بقية الرموز الثقافية كالفكر والمعرفة والأساطير بدونها. فاللغة،اذن، هي المؤسسة الأولى لظاهرة منظومة الثقافة البشرية. أما الدين فهو أيضا ذو دور حاسم في تحديد طبيعة الثقافة ومعالمها كما يتجلى ذلك، مثلا، في العالم العربي الاسلامي. ومن ثم، ينظر الباحثون في العلوم الاجتماعية الى كل من اللغة والدين على أنهما المحددان الرئيسيان لهويات الشعوب. اذ هما يحتلان المركزية في مقولتنا: الانسان كائن ثقافي بالطبع. ومنه فالهجوم عليهما في العهد الاستعماري أو في عصر العولمة اليوم يعتبر أخطر من الاحتلال العسكري أو الهيمنة الاقتصادية التي تعرضت/تتعرض لها مجتمعات العالم الثالث ومن بينها المجتمعات العربية في المغرب والمشرق. فمن جهة، نجح الاستعمار الفرنسي في هجومه على اللغة العربية في بلدان المغرب العربي ولاتزال آثار ذلك ماثلة للعيان بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال. ومن ثم، جاء مفهومنا للازدواجية اللغوية الأمارة في المغرب العربي التي تحرم اللغة العربية من تبوا المكانة الأولى في كثير من الحالات. ومن جهة ثانية، فالهجوم على الاسلام في الغرب اليوم على قدم وساق منذ أحداث 11/ 09/2001 على الخصوص. ولا ريب أن هذين الهجومين شديدا الخطورة على المجتمعات العربية الاسلامية.

اذ أن الهجوم على اللغات والعقائد الدينية في المجتمعات البشرية من طرف القوى الاستعمارية والامبريالية القديمة والحديثة هو هجوم على أعز عنصرين مركزيين في منظومة الرموز الثقافية التي أهلت الانسان لكي يكون وحده كائنا ثقا فيا بالطبع. انه هجوم على ما يكسب به الفرد والمجتمع أصالة وعمق روح هويتهما. ان تهميش أو اقصاء اللغات الوطنية والمحلية وتشويه مبادئ ديانات الشعوب يؤديان الى اغتراب المجتمعات البشرية قليلا أو كثيرا عن هويتها الثقافية الأصيلة. وهذا الاغتراب ليس بالأمر المفاجئ في رؤية تحليلنا المطروحة هنا. أو ليست اللغة هي التي تؤهل الجنس البشري ليكون ثقافيا بالطبع؟ يلاحظ الباحث اليوم في المجتمعات العربية أصوات عربية متزايدة تنادي بالتصدي للهجوم على أهم الرموز الثقافية للأمة العربية وهما اللغة العربية والعقيدة الاسلامية. وهو بالتأكيد تصد مشروع للغاية من منظور التحليل الثقافي الذي يرى أن عنصري اللغة الأصيلة/الوطنية وديانة الأغلبية لدى الشعوب هما بالتأكيد بيتا القصيد في تشكيل الهوية الثقافية للأفراد والمجتمعات.

ما هي الهنّات والسلبيات التي تراها في النمط المجتمعي التونسي؟


تهيمن الازدواجية اللغوية على المجتمع التونسي والمتمثلة في استعمال اللغتين العربية (الوطنية) والفرنسية (الأجنبية). نفيد الملاحظة الميدانية أن انتشار الفرنسية يحدث ضررا في علاقة التونسيات والتونسيين باللغة العربية على مستويين على الأقل: 1- بروز ظاهرة ما نسميه الازدواجية اللغوية الأمارة التي تجعل معظم التونسيات والتونسيين يستعملون اللغة الفرنسية بدل اللغة العربية مثلا في كتابة صكوكهم المصرفية ونطق الأْرقام والقيام بامضاءتهم. كما لا يكاد يُلاحظ عند الأغلبية منهم سلوكيات الغيرة والتحمس والدفاع عن اللغة العربية. وهو ما نطلق عليه مفهوم « فقدان التعريب النفسي « عند معظم التونسيات والتونسيين. وتبرز هذه المعالم أكثر عند النساء مما يؤدي في الغالب الى أثر سلبي على علاقة الأجيال التونسية الناشئة باللغة العربية/ الوطنية.

2- تقترن الازدواجية اللغوية الأمارة بمعالم تشويش وارتباك وحتى نكران للهوية العربية خاصة لدى عينات من النخب السياسية والثقافية والنسائية التونسية صاحبة التعليم المزدوج الذي تهيمن فيه اللغة الفرنسية وثقافتها . وهكذا يتضح أن علاقة معظم التونسيات والتونسيين تمثل قبل الثورة وبعدها مشكلة حقيقية في المجتمع التونسي تتجلى في معلمين: أ فقدان علاقة طبيعية سليمة مع اللغة العربية/الوطنية. ب ملامح اضطراب وعدم تماسك في الهوية العربية التونسية. دعنا نتعرف على أبجدية تحديد الهوية الجماعية.

ان تصور النخب التونسية قبل الثورة وبعدها لأبجدية الهويات الجماعية للشعوب تصور قاصر وخاطئ علميا. فهي ،مثلا، تؤكد على أسبقية حضور الحضارة الفينيقية والقرطاجنية في الأرض التونسية قبل مجيء العرب والمسلمين بحضارتهم الى افريقية (تونس). وهذا ما يشير اليه تكرار هؤلاء في العهدين البائدين وبعد الثورة لشعار» تاريخ تونس 3000 سنة». وتعني القراءة الباطنية لمضمون ذلك الشعار هو أن هوية البلاد التونسية ليست عربية اسلامية قبل كل شيء عند تلك النخب الجاهلة بحيثيات هويات الأفراد والشعوب. فها هو الأستاذ هشام جعيط يكذّب بالقول الفصل ما يدعيه هؤلاء. فبالرغم من أن الأستاذ هشام جعيط لا يستعمل ما يشبه مفهومي للرموز الثقافية الذي نشير اليه بعد قليل، فانه توصل الى نفس الخلاصة القائلة ان الرموز الثقافية هي المحددة الأولى لهويات الأفراد والمجتمعات: « لا ينبغي خداع النفس بالنسبة لامكانية استمرار الحضارة الفينيقية والثقافة اللاتينية والآثار اليونانية على الأرض التونسية. فالاسلام استطاع القضاء نهائيا على الكل. فافريقية/ تونس القرن الثامن كانت كما هي اليوم: أي بلد مسلم عربي»*.

والسؤال الفكري المشروع بهذا الصدد هو: ما هي أبجدية العوامل المحددة والحاسمة أكثر لهويات الشعوب والأمم: أهي العوامل المادية (الارث المعماري ونوع الطعام والشراب واللباس...) أو العوامل الرمزية الثقافية مثل اللغة والدين والفكر والأساطير. . . التي تحملها الحضارات البشرية عبر العصور ؟

يتجلى من التحليل الموضوعي لمسألة الهوية أن الرموز الثقافية هي الأكثر حسما في تحديد هويات الأفراد والجماعات والشعوب. والأمثلة الشاهدة على ذلك عديدة. فحركة الهجرة من الجنوب الى الشمال ،مثلا، لا تسلب المهاجرين من هوياتهم الثقافية بمجرد أن يحلوا جغرافيا بالمجتمعات المستقبلة لهم ذات الخلفيات اللغوية والدينية/الثقافية المختلفة عنهم. ومن ثم، جاء مشكل الاندماج الثقافي للمهاجرين في قيم المجتمع المضيف في طليعة مشاكل عولمة الهجرة في الماضي والحاضر والمستقبل.


وهكذا يتضح من رؤية العلوم الاجتماعية أن علاقة أغلب التونسيين باللغة العربية وعلاقة زمرة النخب المغتربة بالهوية العربية الاسلامية للشعب التونسي تمثلان هنّات وسلبيات تشكك في مصداقية ربيع «الثورة» التونسية.

الى أي شيء تعود في رأيك سرعة انتشار الثورات العربية؟

ان قيامي بجرد قائمة طويلة من الأعداد الخاصة والعادية للجرائد والمجلات الأسبوعية والشهرية والفصلية باللغات الثلاث: العربية والفرنسية والانقليزية حول الثورات والانتفاضات والاحتجاجات العربية في 2011 لا يكاد يطرح تفسيرا لها يُشبه التفسير الذي نقدمه هنا. تركز معظم تلك المنشورات في مقالاتها وتحليلاتها ومناقشاتها على العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الموضوعية/الظاهرة التي قادت في عام 2011 تلك الأحداث في المجتمعات العربية.

فهي عبارة عن حوافز مباشرة لظاهرة تلك الثورات كغياب الديمقراطية وحرية الرأي وحضور كثرة الفساد والاستبداد في تلك المجتمعات. أما التعّرف عن بعض العوامل الخفية غير المباشرة لتلك الظواهر، فيغلب الصمت عليها في وسائل الاعلام المكتوبة والمسموعة والمشاهَدَة، رغم ما يمكن أن يكون لها من وزن وثقل خاصة على مدى سرعة انتقال شرارة الثورات والمظاهرات والانتفاضات العربية من بلد عربي الى آخر في كل من المغرب والمشرق العربيين. نركز في السطور التالية على أسباب سرعة انتقال ظاهرة الانتفاضات/الثورات العربية. يجوز تسمية الاطار الثقافي الفكري المطروح هنا لفهم وتفسير مختلفين لأسباب وسرعة تفشي الثورات والانتفاضات والمظاهرات العربية بنظرية الدومينو الثقافي.

نظرية الدومينو

ان ظاهرة سرعة انتقال ثورة تونس الى مصر وليبيا والبعض من المجتمعات العربية الأخرى كاليمن وسوريا جعل بعض المحللين لهذه الأحداث يستعملون مصطلح نظرية الدومينو التي تشير الى أن سقوط قطعة واحدة من عشرات أو مئات أو آلاف القطع المتراصة يؤدي الى سقوط كل القطع. استعار البشرهذه الظاهرة في عالم الجماد للاستعمال في واقع دنيا سلوكات البشر كأفراد وجماعات ومجتمعات وأمم. ففي عالم السياسة،مثلا، ذهب الخبراء الى القول بأن حدثا سياسيا ما في بلد معين يقود الى ما يشابهه في بلد مجاور مثله مثل ما يتعرض له صف من قطع الدومينو المتراصة ثم المتساقطة جميعا اذا طرأ حادث أدى الى سقوط احداها.

التضامن والتقليد بين الشعوب

تكاد تكون من المسلَّمات بالنسبة للباحث في شؤون المجتمعات والأمم أن يقول ان ظاهرة التعاطف والتضامن القوية أو غيابها بين المجتمعات والشعوب حقيقة بشرية يشهد عليها تاريخها الطويل. تتصدر منظومة العوامل/الرموز الثقافية (وفي طليعتها اللغة والدين) بقية العوامل الأخرى المؤثرة والمؤدية الى سلوكات فردية وجماعية لصالح أو ضد حصول ظاهرة التعاطف والتضامن بين الأمم والشعوب والمجتمعات البشرية. فتُلاحظ عموما بينها ردود الفعل المتعاطفة والمتضامنة أو عكسها في حالتي الأفراح والأتراح التي تتعرض لها المجتمعات والشعوب والأمم. فعاملا اللغة والدين المشتركين بين الناس يحفزانهم ويدفعانهم، في حالتي اليسر والعسر، أفرادا ومجتمعات وشعوبا وأمما للتعاطف والتضامن القويين مع من يتحدثون نفس اللغة وينتمون الى نفس الدين بغض النظر عن المسافات الشاسعة التي قد تفصل بينها. أي كأن العوامل الثقافية المشتركة بينها (وخاصة اللغة والدين) لا تقيم وزنا الى أثر عامل البعد الجغرافي بينها. أي كأن لتلك الرموز الثقافية لمسات ميتافيزيقية لا تأبه بوجود الحواجز المادية الجغرافية الفاصلة بينها.
فمن الناحية الميدانية التاريخية، تشهد الأحداث الصغيرة والكبيرة في الماضي والحاضر أن العرب المسلمين يُظهرون تعاطفا وتضامنا كبيرين مع بعضهم البعض في حالتي الفرح والترح. ويتجلى التضامن والتعاطف في شكلين مختلفين يُحدِّدُ طبيعتَهما عاملا اللغة والدين:
1 فالعرب المسلمون يُعبّرون عن تضامنهم المتكرر مع الشعوب المسلمة المناضلة لكن البعيدة عن العالم العربي مثل كشمير والفلبين والبوسنة والهرسك والشيشان. وبالتأكيد يرجع ذلك التضامن الى الاشتراك معهم في الدين الاسلامي.

2 ومن جهة أخرى، فالملاحظات المتكررة تفيد أيضا أن الأغلبية الساحقة من المواطنين العرب المسلمين (بما فيهم السكان المسلمون بالمغرب العربي البعيدون جغرافيا عن فلسطين) يعبّرون بطريقة عفوية واللاشعورية عن تلاحم وتضامن أكبر مع الشعب الفلسطيني المكافح مما نراه لديهم في تعاطفهم وتضامنهم مع الشعوب المسلمة المكافحة أيضا في البوسنة والهرسك والشيشان والفليبين. فعلى سبيل المثال، لقد تجاوز عدد التونسيين 12 ألفا الذين هرعوا سنة 1948 مناصرة لأشقائهم الفلسطينيين في وجه المخطط الاستطياني الصهيوني الذي يهدف الى استلاب أرضٍ من أهلها الشرعيين وتشريدهم وتسليمها الى غيرهم زورا وبهتانا واغتصابا. والأمثلة كثيرة جدا من العالم العربي المعاصر التي تؤكد دور منظومة الرموز الثقافية المشتركة (اللغة، الدين، الفكر، المعرفة/العلم، القيم والمعايير الثقافية، التقاليد..) في تضامن الشعوب العربية وحضور عصبيتها التضامنية بالمعنى الخلدوني مع بعضها البعض في كل من أزمنة الهزائم والانتصارات.

كما تضامنت الشعوب العربية مع الشعب المصري بعد هزيمة القوات المسلحة المصرية عام 1967 وانتصارها في اكتوبر 1973 على اسرائيل. واستمرت تجليات التضامن العربي القوي في السراء والضراء في مطلع القرن الحادي والعشرين سواء كان ذلك مع غزو العراق في 2003 أو مع مقاومة حماس لاسرائيل في 2009 2010 على التوالي. فالتحليل السوسيولوجي لظاهرة تفوُّق درجة التضامن والتعاطف بين العرب المسلمين على نظيرتها لدى هؤلاء ازاء المجموعات والمجتمعات المسلمة غير العربية يشير الى مدى أهمية د ور اشتراك الناس في لغة واحدة في ازدياد درجة التعاطف والتضامن بينهم. وبالتعبير الخلدوني، فعاملا اللغة والدين هما أقوى عناصر منظومة الرموز الثقافية في تشكيل صلابة العصبية/ التضامن بين بني البشر.

نظرية الدومينو الثقافي وانتشار الثورات العربية

وبناء على ما سبق، فحدث الثورة في أي قطر عربي هو بالتأكيد حدث فرح أو حزن يشد انتباها كبيرا لدى الحكام والمحكومين في المجتمعات العربية نظرا لاشتراكهم في منظومة ثقافية واحدة يمثل الاسلام واللغة العربية قطبيها الرئيسيين. فنجاح الانتفاضة/الثورة التونسية في بداية سنة 2011 في اسقاط الرئيس بن علي ونظامه جعلت الشعوب العربية في مصر وليبيا واليمن وسوريا ترحب بهذا الحدث وتتضامن وتتعاطف معه أكثر من أي حدث ثوري آخر قد تجري أحداثه خارج مجتمعات الوطن العربي. ويعود هذا الفرق بالتأكيد الى اشتراك تلك الشعوب مع الشعب التونسي في اللغة والدين على الخصوص.

وهكذا لم تكد تتأخر ظاهرة تقليد العرب للتونسيين في ثورتهم. فبدأ الشعب المصري ثورته بعد أقل من أسبوعين من انتصار ثورة تونس في 14 جانفي2011. وفاز المصريون في أقل من شهر من خلال المظاهرات في ميدان التحرير بالقاهرة وغيرها من المدن المصرية باسقاط الرئيس مبارك ونظام حكمه في 11 فيفري 2011. وهكذا نجحت الثورة المصرية بسرعة مذهلة وكأنها تعبير تضامني للشعب المصري مع الشعب التونسي وتقليد له بسبب وشائج اللغة والدين التي تربط بينهما. ومن هنا، يجوز القول ان نظرية الدومينو في حال الثورات العربية الراهنة ذات جذور ثقافية في الصميم سهلت وتسهل الرغبة وحتى التحمس لدى بعض الشعوب العربية الى القيام بالثورات للتعبير على التضامن والتعاطف الكبيرين مع الثورتين التونسية والمصرية. فشنُّ الثوار الليبيين الحرب على نظام معمر القذافي والنجاح في اسقاطه يسمح بتفسيره عاملان: 1 اشتراك الليبيين مع التونسيين والمصريين في اللغة العربية والدين الاسلامي ثم، 2 وجود القطر الليبي جغرافيا بين مصر وتونس، وهو عامل مؤثر في رؤية نظرية الدومينو العامة.

كيف تقيّم رد فعل التونسيين على فكرة اعادة التعليم الزيتوني الى سابق عهده؟


أثارت مسألةُ نيّة عودة التعليم الزيتوني الى سابق عهده قبل الاستقلال بعضَ الاحتجاجات من بعض الأطراف التي رأت فيه كثيرا من السلبيات وفي طليعتها تهديد وحدة أجيال المتعلمين التونسيين. وفي المقابل، صمتت كل تلك الأطراف عما نسميه التخلف الآخر الذي نشره نظام التعليم التونسي الحداثي بعد الاستقلال بين المثقفين والمتعلمين التونسيين. وبعبارة أخرى، فان هذا التعليم الذي ألغى التعليم الزيتوني بمستوييه الاعدادي والثانوي قد وحّد/يوحّد بين أغلبية التونسيات والتونسيين في التخلف الآخر بعد رحيل الاستعمار الفرنسي. فماذا يعني مصطلحُ التخلف الآخر؟

تمثل ظاهرة التخلف الآخر احدى جوانب التخلّف في مجتمعات العالم الثالث على الخصوص. فالتخلف في هذه المجتمعات هو ظاهرة متعدّدة الرؤوس منها المادي ومنها المعنوي. ويتمثل الجانب المعنوي منه في افساد العلاقة الطبيعية بين الفرد والمجتمع وتراثهما الثقافي الأصيل مثل اللغة والدين والثقافة الوطنية. وهكذا، فالتخلّف الآخر يمسّ أُُسس الشخصية الفردية والمجتمعية، اذ أن مكوناتهما الرئيسية هي الى حدّ كبير عناصر ثقافية. ومن ثمّ، فأي فهم لعملية التنمية في المجتمعات النامية يبقى قاصرا ان هو لم يأخذ بعين الاعتبار ملامح التخلّف الآخر وانعكاساتها على قضايا التنمية. فالشخصية المتخلّفة ثقافيا وبالتالي نفسيا طالما يغلب عليها عامل عدم الثقة بالنفس واحتقار الذات، فتضعف لديها الدوافع للانجاز والتغلّب على صعاب التنمية. وهكذا فالخروج من التخلّف بمعناه العام لابد أن يشمل التخلّص أيضا من معالم التخلّف الآخر وعقده.
نظرة الغربي للتخلف الآخر


نُورد هنا خلاصةَ ما توصل اليه باحث أمريكي من دراسته للتخلف الآخر في المجتمعات العربية. يشخص مؤلف كتاب العقل العربي 1983 آثار التعليم المزدوج اللغة في مجتمعات المغرب العربي لصالح الفرنسية وثقافتها. فوجد أنها تؤدي عموما الى الأعراض التالية لدى خريجي نظام هذا التعليم:
1 الانتماء الى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.
2 التذبذب المزدوج يتمثل في رغبتهم كسب علاقة حميمية كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما.
3 يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب الى الثقافة الغربية.
4 عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.

لا براءة للتونسيين من التخلف الآخر

تُفيد خلاصة متابعاتنا لهذا الموضوع أن سواد الشعب التونسي يُعاني اليوم من ظاهرة التخلف الآخر الذي يتمثل في ملمحيْن استعمارييْن رئيسييْن:
1 انتشار استعمال التونسيات والتونسيين للغة الفرنسية في الحديث والكتابة عوضا عن اللغة العربية.

2 اقتران ذلك بعلاقة غير طبيعية وسليمة لدى هؤلاء مع لغتهم يعبر عنها تفشي أعراض نظرة دونية وتحقيرية اليها. وهو موقف نفسي سلبي من اللغة العربية وليد بالتأكيد من الاحتلال الفرنسي، أي من علاقة الغالب بالمغلوب كما يقول ابن خلدون.

اذن، فالأغلبية الكبيرة من الشعب التونسي تشكو من قبضة الاستعمار وفي طليعتها النخب السياسية والثقافية والمتعلمة. وبالتالي لم تطبع علاقتها مع اللغة العربية بحيث تُصبح هي لغة الاستعمال الوحيدة بين المواطنين، من جهة، ويصبح الافتخار بها والغيرة والدفاع عليها سلوكا متجذرا وعاما لدى التونسيات والتونسيين، من جهة أخرى.
أبجدية التخلف الآخر في المجتمع التونسي

يؤكد منطقُ أبجدية الأمور حضورَ التخلف الآخر كظاهرة اجتماعية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال. فمنطق الأمور يقول ان الشعوب الكاملة السيادة تستعمل، من ناحية، لغتها/لغاتها الوطنية في كل شؤون حياتها ولها علاقة حميمية مع لغتها/لغاتها الوطنية الأمر الذي يجعلها تغار على تلك اللغة/اللغات وتدافع عنها داخل المجتمع وخارجه، من ناحية أخرى. أما أبجدية اللغة الوطنية في المجتمع التونسي، فان معظم التونسيات والتونسيين يستعملون اللغة الفرنسية كثيرا شفاهيا وكتابيا بدل اللغة العربية في مجتمعهم. وهو وضع يتناقض مع منطق الأبجدية الطبيعية السليمة التي تتعامل بها المجتمعات الكاملة الاستقلال مع لغتها/لغاتها الوطنية. فهذه الحالة هي ظاهرة الاستلاب اللغوي النفسي.

قادتنا بحوثنا في مسألة التخلف الآخر بالمجتمع التونسي الى الوصول الى مفاهيم جديدة تصف العلاقة المشوشة، على الأقل، مع اللغة العربية لدى التونسيات والتونسيين الذين يعرفون العربية والفرنسية. أقتصر على ذكر اثنين منها:
لا أستطيع التردد في القول اليوم بأن المجتمع التونسي بعد الاستقلال لا يزال يرزح تحت معالم الاستعمار اللغوي الفرنسي. ومن المؤكد أن النخب السياسية والثقافية مما يسمى «بالحداثيين» لم تكن تسمح بذكر هذه الظاهرة ناهيك عن تحليلها ومناقشتها في عهدي بورقيبة وبن علي، رغم حضورها الواسع في الواقع التونسي من القمة الى القاعدة. ولتوضيح الأمر نتبنى منهجية أبجدية بسيطة تساعد على تحديد المعالم الأساسية التي تُبيّن أن المجتمع التونسي يشكو بعد الاستقلال من أعراض الاستلاب اللغوي الذي حرمه من التحرر اللغوي وبالتالي من السيادة الكاملة بعد أكثر من نصف قرن من رحيل الاستعمار الفرنسي:
أ يعلن دستور البلاد التونسية أن اللغة العربية وحدها هي لغة المجتمع التونسي ودولته. ووفقا لأبجدية التعامل الطبيعي للمجتمعت مع لغاتها الوطنية، فان هذه الأخيرة تحظى دائما بالمكانة الأولى في نفوس وعقول واستعمالات مواطني تلك المجتمعات.

ب تفيد الملاحظات الميدانية قبل وبعد الثورة أن اللغة لفرنسية تتمتع باستعمال شامل على حساب اللغة العربية لدى أغلبية الأجيال التونسية بعد الاستقلال. ويعود ذلك في المقام الأول الى سياسة « الحداثيين» المشوَّشي الهوية اللغوية والذين أداروا حكم البلاد في عهد الجمهورية الأولى. وهذا السلوك اللغوي مناقض لما جاء في أ. فهو موقف في الاتجاه المعاكس لما نجده في المجتمعات المتقدمة على الخصوص. فموقف الاستلاب اللغوي أو ما نسميه التخلف الآخر منتشر أكثر لدى التونسيات والتونسيين الذين درسوا في المدارس المفرنسة أثناء الاستعمار وفي زمن الاستقلال. أما التعليم التونسي المزدوج اللغة الأقل فرنسة فلا يكاد هو الآخر يحمي التونسيات والتونسيين من معالم الاستلاب اللغوي. فخريجو المدرسة الصادقية المتزنة الازدواجية اللغوية ونظراؤهم المتعلمون في المدارس والمعاهد والجامعات التونسية في عهد الاستقلال لم يسلموا من معالم الاستلاب اللغوي.

وهكذا، يجوز القول بأن التجربة التونسية في أنواع الازدواجيات الثلاث ترشح التونسيات والتونسيين بدرجات مختلفة الى أعراض الاستلاب اللغوي. وبعبارة أخرى، فالازدواجية اللغوية ليست خيرا محضا كما يعتقد خطأً ًمعظم التونسيات والتونسيين. ومن ثم، فلكي يتحرر»الحداثيون» والتونسيات والتونسيون بالكامل من أخطار الاستلاب اللغوي فانهم يحتاجون، كما تفعل الشعوب المتقدمة، الى تطبيع علاقتهم كليا باللغة العربية/لغتهم الوطنية في كل مراحل التعليم وجميع قطاعات مجتمعهم. فبدون النجاح في ذلك يبقى معظم التونسيات والتونسيين مستعمرين لغويا: أي فاقدين لما نسميها المناعة اللغوية. ومما لاشك فيه أن هذا الاستلاب اللغوي التونسي يهدد حاضر ومستقبل الثورة.

وهكذا يتجلى أن النخب «الحداثية» قادت المجتمع التونسي الى مأزق واضح: فمن جهة، هناك اعتراف باللغة العربية كلغة رسمية وحيدة للبلاد. ومن جهة ثانية، يوجد فشل كبير في استعمالها حقا كلغة وطنية في كل شؤون الحياة الشخصية والمجتمعية الأمر الذي أدى الى النظر اليها بنظرة دونية لدى الأغلبية الساحقة من تلك النخب وعدد كبير من التونسيات والتونسيين. وهذا ما يفسر مطالبة بعض «الحداثيين» بتبني العامية التونسية/الفرنكوأراب كلغة رسمية للبلاد عوضا عن اللغة العربية الفصحى.
فانسلاخ «الحداثيين» خاصة من الهوية اللغوية العربية لمجتمعهم تمثل اعاقة للفوز بالحداثة الحقيقة التي استعملت فيها كوريا واليابان لغتيهما لكسب الرهان المدهش فيها. فلو كان أبو القاسم الشابي معنا اليوم لصرخ غاضبا على «الحداثيين» وشعبه عموما قائلا: فلا بد لقيد الاستعمار اللغوي أن ينكسر.


كيف تنظر الى مشروعية الاسلام السياسي للحكم في البلاد العربية؟

فتأكيد الأستاذ هشام جعيط أعلاه أن هوية الشعب التونسي هي هوية عربية اسلامية في الصميم كما رأينا يسحب المشروعية عن « الحداثيين» لحكم البلاد التونسية لأن هؤلاء غير متحمسين لا للدفاع عن اللغة العربية ولا للدفاع عن العقيدة الاسلامية. وهم بذلك يشبهون الى حد كبير النخب الأجنبية التي حكمت تونس والتي لا تشترك مع الشعب التونسي في قطبيْ هويته: اللغة العربية والاسلام. ووفقا لرؤية المفكر هشام جعيط، فنكران « الحداثيين» لعروبة واسلام هوية الشعب التونسي ادعاء باطل يدحضه التاريخ والواقع. وبالتالي فهو نتيجة لوزر الاستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي الذي يسجن عقول ونفوس هؤلاء كما يعبر عن ذلك مفهوم العقل السجين لعالم الاجتماع الماليزي الشهير سيد حسين العطاس.

ومن ثم، فلا معنى لثورة حقيقية في المجتمع التونسي بعد 14 جانفي 2011 دون ثورة ثقافية تؤصل النخب التونسية في صلب هويتها العربية الاسلامية. واعتمادا على ما ذُكر من معطيات، فان الاسلام السياسي أكثر مشروعية لحكم البلاد العربية التي يمثل فيها المسلمون الأغلبية الساحقة. لأن المنتمين الى الاسلام السياسي في الوطن العربي هم أكثر تناسقا وتناغما مع قطبيْ الهوية العربية الاسلامية (اللغة العربية والعقيدة الاسلامية) لمعظم الشعوب العربية.

من هو الأستاذ الدكتور محمود الذوادي ؟

تخصص الأستاذ الدكتور محمود الذوادي في دراسة الآداب الانكليزية وعلمي النفس والاجتماع في العراق والولايات المتحدة الأمريكية وكندا . ودرس كأستاذ جامعي في كندا والجزائر والسعودية وتونس وماليزيا وعمان.

عدد الكتب التي نشرها باللغات العربية والانجليزية والفرنسية فهو 22: تسعة منها من تأليفي، وساهم بكتابة فصل في اثني عشر كتابا وقام بترجمته كتاب واحد من الفرنسية الى العربية.

نشر باللغات الثلاث أكثر من 150 دراسة وبحثا ومقالا. يتمحور كل ذلك في ستة مواضيع رئيسية: 1 المجتمع التونسي 2 الفكر العربي الاسلامي 3 الفكر الخلدوني 4 عالم الرموز الثقافية 5 التخلف الآخر 6 الجريمة والانحراف. ويضاف الى هذه المحاور الستة جزء سابع يشمل دراسات ومقالات ومراجعات كتب عديدة عربية وأجنبية في مواضيع متنوعة.
شارك في عدد كبير من الندوات والمؤتمرات التونسية والعربية والعالمية، وقام بالاشراف على رسائل شهادات التعمق في البحث/الماجستير وأطروحات الدكتوراه وببحوث ميدانية في اطار جامعي كجزء هام من تجربته الجامعية والفكرية.

توصل الى ابتكار نظرية الرموز الثقافية (الانسان كائن ثقافي بالطبع) ومجموعة من المفاهيم المستلة من واقع المجتمعات المغاربية على الخصوص: التخلف الآخر، الازدواجية اللغوية الأمارة واللوامة،الازدواجية اللغوية الأنثوية، الشخصية التونسية المستنفرة، وهي مساهمة في مسيرة علم الاجتماع العربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.