صبغة خاصة الجزء 1 الصفحة :7 كانت عينان نصف مفتوحتين ، أحاسيسي و مشاعري باهتة ، ألمٌ رهيبٌ يغطي ما عداه ، إني أراه ، ميّزته بلباسه ، سترة بيضاء ، تُقرِّب مني صورةَ الكفن ، سمّاعته تتدلّى على صدره ، وجهُه ممْتقع ، نسيَ إبتسامةَ الطبيب ، لعله لا يراني بوضوح ، معالمي مدمَّرة ، ملامحي تغطيها الدماء ، بشرتي صفراء ، أنفي ينزف ببطىءٍ ، تعلوه زرقة ، دماءٌ حول أصابعي تكلّست ، وأخرى طريّة...آثار السجائر في جلدي تبدوا نُدوبا، تبعث بسائل أصفر كريه ...رسغايَ منتفخان ، انظر إليهما و قد بدتا لي بنفسجيتين ، رائحة القيء لا تغادر أنفي ، شيء ما متيبِّس حول شفتيَّ ، إحساسي خشبيٌّ بهما ...لم تعد لديّ القدرة على الكلام ...تقلصت رغبتي في البقاء....كان الطبيب مستعجلا ، لا يبدو عليه الحياد كأيّ طبيب في الحرب ، هو أهان نفسه عندما قرر أن يقوم بهذه المهمة ، مهمة شهادة الزور المثقفة ، بدا في خشونته معي كواحد منهم ، سلخ جلده المِهَني لينسجم مع المكان ، أعلم أنه في النهاية ، لن يكتب تقريرا أو رسالة لفضح هذا العار ، لعله يشعر بانتمائه لهذه الماكينة ، أو على الاقل ليس حرا بما يكفي كي يرفض دور شاهد الزور...أنهى دوره ،جس نبضي على عجل ، ودون أن يحرك لسانه بكلمه ... مضى ...إنه بُرْغِيٌّ لا غنى عنه في آلة الدمار ... في حياتنا البرزخية ، لا تسألني عن الزمن ، الساعة ؟ أنى لك تراها ... الساعة البيولجية تعطلت ، الشمس ممنوعة من الاقتراب ...الدوام ؟ لن يتركوا لك فرصة لتميز الاوقات ، هم معتكفون هناك في معبدهم الشيطاني ، ولذلك لا أعلم كم مضى من الزمن عندما جاء أربعة منهم ليحملوني على سلم شبيه بالنعش و يلقوا بي في القَبِْو في الدرك الاسفل من البناية...كما لا أعلم كم من الوقت مضى عندما دبت فيّ الحياة من جديد ... فتحت عينيَّ ، وجدتني على بطانيةٍ رمادية ، تفوح منها رائحة البول الحارقة ، أحسست بقَرْص في جنبي ، سحبت يديَ ببطىء ، أوصلتها بعناء ، كانت ثقيلة جدا ، تلمست جنبي ،حاولت حكَّه ، خانتني أظافري ...لم تعد موجودة... بقِيتْ عندهم ...فوق...فهمت بعدها أن مصدر القرْص هو القمل ، الذي يتولى حظر النوم ... استعدت شيئا من وعيي ، أرى أبعاد الزنزانة الان ، عندما تتعود عيناك الظُّلمة ، تتمكن من الرؤية ، تماما كَسارٍ في الليل بالصحراء ... هناك في الطرف المقابل ، على بعد مترين ، يجلس شاب يبدو ثلاثينيا ، ملابسُه عادية .. لا يبدو عليه التعذيب الشديد ...يُسند ظهره للحائط ، يمسك رأسه ...بدا في البداية غير آبه لي ...ثم كمن انتبه لي : كيف حالك يا أخي ؟ الحمد لله كما ترى لعنة الله عليهم ... أتعبوك ...لعله الدور عليّ أنا ... لم تكن لي رغبة بالكلام ... أحاول أن أختصر لشدة الانهاك... انت من أين أخي ؟ اضاف كمن يصرعلى الكلام أنا من ....... تشرفنا ، تعرف الاخ فلان ...؟ هنا دق قلبي ، ذكرني بهم ، نفس الاسم الذي يلحون عليه ... لا والله ، أسمع به فقط لكن لا أعرفه .. أنا أعرفه ، إنه رائع حقا ، إلتقيناه عندما عرض علينا الخطة ... صمت قليلا ، ثم أردف: على كل حال أنا لديَّ خيط إن شئت أن توصي له بشيء ... لا، شكرا لا أعرفه ، و ليس لديّ شيء أوصي به لأحد.... وأضفت : استأذن لديّ رغبة في النوم ... نمت مع الوجع مثخنا ، لم استطع الاستغراق ، الجسم يحاول المقاومة ، الميلاد من جديد ، العضلات الممزقة تريد ان تتآلف ، فتتعارك ، ضغط شديد على الاعصاب ، أُطلق الزفير مع كل حركة كمن يطرد الالم .... لم اكد انهي إغفاءتي حتى فُتح الباب ، وضع العون أمامي أكلا ، كان خبزا محشوًّا بالدجاج ، بسخاء استغربته ، نادى على الشاب الذي كان معي ، صاح فيه : يالله ، إيجا يا ابن ..... أغلق الباب بعنف ، رائحة الاكل كانت تغازلني ، انتبهت الى جوعي ، كان شديدا ، اقتربت من الاكل ، امسكته بين راحتيّ ،كمن يمسك كوبا وأصابعه متسخة ، لم تعد تهمني رائحة الدم تفوح من جسمي ، عليّ أن آكل ، على قتل هذه الرغبة الملحة التي انبعثت فيّ فجأة ... بعث الاكل فيَّ شيئا من الحياة ، من الروح ، أصبحت قادرا على الرؤية بشكل أوضح ، التحرك لمسافة متر زحفا صار مقدورا عليها ، انحناءة الصلاة و إن كنت عاريا ، صارت ممكنة ...لكن شيئان زادا قوّة ايضا : الوجع و حاسّة الشم ....تلك البطاطين مغموسة بالرطوبة ، تفوح منها رائحة البول ...لا ليس البول الخالص.. يا ليت... إنه تفاعل كيمياويٌّ بين بول وقيء و تعرق... طبعا ليس لديك خياران في الاقامة ، بل ليس لديك خيار أصلا ... كان عليّ ابتلاع قرون الذل أصالة عن نفسي ونيابة عن شعبي ...وبقيت اراقب الظلمة و الصياح القادم من أعلى حتى جاءت لحظة توقف الانتظار ... الانتظار الذي يقتلك الف مرة ، يهزك من الاعماق ... مع كل صوت لحوافرهم نازلة على درج الاقبية ، مع كل فتحة لأبواب الزنازين و فتحها ...مع كل انتزاع لاحد الاحرار من زنزانة مجاورة ، اذ ينتزعون روحك لتصعد معه ...إذًا جاءت اللحظة لاجد نفسي أمام بوكاسا مجددا... يتبع( بإذن الله)...
------------------------------------------------------------------------ ------------------------------------------------------------------------ صبغة خاصة الجزء 1 الصفحة :8 تسألني صديقي إن كنت محايدا ...؟ أقول لك : لا ، لم احسن الحياد في حياتي ، كنت دائما منتميا ، الحياد في نظري هو سبب مأساة البشرية ، لا يمكن أن ترى الظلم مسلطا على رقاب الناس و تظل محايدا ، أن تصلي وراء عليّ لأن الصلاة وراءه أتمّ ، و تأكل مع معاوية لأن الاكل وراءه كما تظن أدسم ، ثم تقف على الربوة ، لأنه أسلم هو إفساح المجال لأن ينتهك طاغية صغير حقك ، فإن لم تكن فإبنك ، فإن لم يكن فإبن إبنك... الحياد هو ضد المسؤولية ، التي تعني الحرية...في سردي لك قصتي إذا لست محايدا ، أنا منتمي ، منتمي جدا.. وهذه هي المشكلة ، إنتميت للقضايا الكبرى من سنّ مبكرة... كانت مجرد أحلام ... ثم أفكار .. ثم تلاقي هذه الاحلام مع أحلام أخرى ، تجمعت كقطرات المطر ، فكان لابد من نظمها ، تنسيق وقعها و هطولها ،كي لا تتفرق أو تسيل في غير محلها فتجرف الارض بدل إعمارها... كبرت هذه الاحلام ، أصبحت برامج ، عانقت الواقع ، الناس ، دون أن تفقد البوصلة...استوت النبتة ، أصبحت شجرة ، أصلها ثابت ، و فرعها في السماء ...أيقنت منذ زمن أن العواصف مهما كانت عاتية لن تستطيع إجتثاثها...و لذلك ، كنت قبل حياة البرزخ منتميا ، و فيه منتميا ، و كما تراني الان أمامك منتميا ، و بإذن ربي سألقاه منتميا ... المشكلة التي تعترضني ، ليست كيف أبدو محايدا في سرد قصتي ، بل بالعكس ، كيف أجد الكلمات التي تعبر عن انتمائي ، عن عذاباتي ، عن مأساة ما يجري في موطني...من حقك أن تطلب مني الصدق فيما أقول ، ولكن اللسان الصادق ، يعجز في أغلب الاحيان عن نقل الحقيقة كاملة...المشاعر كاملة ، الهولَ كاملا... تظن أننا إكتفينا منك بما قلت ؟ هيهات ، لم نتركك حتى ( نْخرِّجْ مْصارْنك).... كانت رائحة الخمر تفوح من أفواههم ، واعينهم محمرة كالجمر ... أخذ أحدهم يعبث بعصا في مؤخرتي ، بصقت عليه ، لم يكن لديّ سوى هذا للدفاع ، وكنت في الحقيقة ،أريد الهجوم ، أريد أن أصل الى النهاية ، إن الهدنة في التعذيب ، انتظار التعذيب أشد من التعذيب ذاته ...تعذيب الجسد تحتمله ، و لكن تعذيب النفس لا يحتمل ، إن شعورا لديّ الان كمن يركب سفينة تغرق فيرمي نفسه في البحر للقرش... صحت بلا شعور مني ، يا كلاب ، يا ابناء العهر ،افعلوا ما بدا لكم ، ليس لدي ما أضيفه ... ابتسم بوكاسا ، يعجبه الضحية الذي يسب ، يبعث فيه شعورا بالتساوي ، ليس من أحد أفضل من الآخر ...أليس المتهم من ابناء العائلات ؟ إنه مثلي تماما ، انا بوكاسا ، الفرق فقط انني أفحش في حالتي الرضا و الغضب .... في الحقيقة يستدرك ظافر إن قاموسي فقير جدا في الشتم ، حتى وإن قارنتني بواحد من عامة الشعب ، فما بالك بأساتذة القاذورات ، الم أقل لك ، مرة ، بأن بلدنا صنيعة هذا الجهاز ... بلد بخلاف بلاد الله كلها ، لا تستطيع أن تسير فيه مع من تستحي منه ، لم يفلح علمانيو هذه البلاد في انجاز شيء ، إلا في تحويل شعب بأكمله ، ينطق القذارة ، و يتفنن في تطويرها ... سر في بلاد الله و انظر، هل تسمع ما تسمعه في شارع واحد في بلدنا... أقعدوني على أليتيّ ، مسكوني من كتفيّ، حاولت ستر عورتي ، أبعدو ما بين فخذيّ بالقوة ، ربط أحدهم عضوي بخيط مطاط ، كان في منتهاه مسمار صغير ، أخذ في شده بعيدا ثم ارسله ، ارتد الخيط ، انغرز المسمار في خصيتيَّ ، كان الالم رهيبا ، اعاد الكرة ، مرة ، عشرة ، عشرين ، مائه ... كنت أصيح ، أصرخ ، (يا ابن .... كسرت روسنا بصياحك )، مسك أحدهم بخرقة خيش ، ضغطها بفمي ، عضضتها ، كانت عفنة ، مبتلة ، طال الالم ، غبت عن الوجود ... استفقت ، كانوا لازالوا واقفين ، إني اراهم ، يتهامسون ، يبتسمون ، لست بينهم إلا جثة في محضر الضباع.. أخذوا سطلا من ماء بارد ، صبوه على بدني ، انتفضت ...عامل فيها راس كاسح يا ولد .... اقعدوني مرة اخرى ، مرروا عصا تحت ركبتيّ ، ربطوا رجلي و يدي ، كل يد مع الرجل التي تقابلها ،رفعوني، رفعوا العصا بتوازٍ من الجهتين ، أصبت رجلايَ الى فوق ، و رأسي الى أسفل ... هل تعلم ما اسم هذا الطريقة في التعذيب ؟ أجبته ، و قد كنت منذهلا بعد من المطاط و المسمار لا ، لا أعلم . إنه الرُّوتي ، إنهم يسمونه هكذا ، تماما ، كدجاجة ، مهيئة للشّيْ ، الفرق بينك و بينها أنها تشوى بعد الموت ، أما الانسان ، فإنه يسلخ و يشوى حياّ ...ذلك هو الفرق...و أضاف : بينما كانت رجلاي في الهواء ، و قلبي في الهواء و رأسي يهوي ، انهمك احدهم في جلدي بإخلاص منقطع النظير ، كمن يود أن يخفي شيئا من الوجود ...كان الالم مركزا في رجليّ ، طلبوا مني عد الضربات ، حاولت ، لم استطع المتابعة لشدة الالم ، اصرخ فيضعوا ذات الخرقة في فمي ، أصمت ...وعيي يضعف ، افقد الاحساس بما حولي شيئا فشيئا.... أفقد الاحساس كليا .... افقد وعيي مرة أخرى... الان ، بعد وقت لا علم مداه ، أفتح عينيّ ، إنني في القبو ، ليست ذات الغرفة ، جسمي مكوّر حول نفسه ، أنين متعدد من حولي ،، بقايا آدمية تنوء بالآلام ، أجساد متهالكة ، أشباح على انقاض الموت ، وجوه معالمها دارسة، بطاطين عفنة ، روائح كريهة ، كان ذلك هو المناخ الذي وجدتني فيه... ( يتبع ان شاء الله) ...