الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد .. الانقلاب السريع من طاعة الله تعالى والالتزام بإسلامه أثناء رمضان إلى معصيته والبعد عن طريقه بعد رمضان، له أسباب، أهمها: 1- عدم الإخلاص أو نقصه أثناء الطاعات التي كانت تؤدَّى، كمن صلَّى مثلاً أو تصدَّق رياءً، أي ليُرِي الناس فعله، فينال عندهم مكانة، أو ينتفع منهم ماديّا بأية صورة من صور الانتفاع، أو نحو ذلك، لا ليرضي الله عنه بهذه الطاعة ليسعد بها في الدنيا بالتوفيق، وفي الآخرة بالثواب العظيم. 2- عدم التركيز في الطاعة ذاتها - رغم وجود الإخلاص - وعدم الاستفادة منها بشحن القلب وتقريبه من ربه، الأمر الذي كان سيدفع الفرد لفعل الحسن والاستمرار فيه وترك السيئ. 3- عدم التوسُّط والاعتدال في الطاعات، وإنَّما أخذها بشدَّة وحماس زائد عن الطاقة التي يعلمها كلُّ إنسانٍ في نفسه، فتنقلب النفس بعدها لعدم تحمُّلها، وتصد عنها وتمل منها، رغم أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذَّرنا من ذلك بقوله: (عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملُّ الله حتى تملُّوا) متفق عليه. 4- ضعف النفس واستسلامها لوساوس الشيطان، لكونها بمفردها دون صحبة طيِّبة حولها، كما كان الحال في رمضان، أو لمعاشرتها صحبة سيِّئة لا تقوى على التأثير فيها، بل تتأثَّر هي بها، أو لكونها تركت الطاعة فجأة، فأصبحت فارغة، فملأها الشيطان بالوساوس وحبِّ فعل المعاصي. 5- احتياج النفس للترويح بعد فترات الصبر التي كانت في رمضان، فتلجأ لترويح ذاتها بأقصى طاقة ممكنة، تعويضًا لما فاتها، فتنغمس في التمتُّع وتنزلق فيه، حتى قد تتخطى دائرة الحلال الواسعة إلى الحرام. ولعلاج هذا الانقلاب الذي قد يصيب بعض الناس بدرجات تتفاوت من شخصٍ لآخر وبصور تختلف من فرد لآخر، عليك أخي الكريم بالوسائل الآتية التي هي في معظمها عبارة عن فعل عكس الأسباب السابقة. مع مراعاة أنَّ علاج النفوس وتربيتها يحتاج إلى تدرُّج وصبر ووقت طويل، كما فعل القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة رضوان الله عليهم، إذ النفوس ليست نقوشًا تُرسَم أو تلوَّن في يومٍ أو يومين. هذه الوسائل هي: 1- التدريب التدريجي على الإخلاص في كلِّ عمل، فلا يكون إلا لإرضاء الله تعالى ونيل ثوابه، والاستفادة منه سعادةً في الدنيا وثوابًا في الآخرة، وذلك بالتدريب على إخفاء العمل ما أمكن، وعدم التحدُّث به بعد فعله، واستحضار نوايا الخير الممكنة له، والاستعانة بالله ودعائه، والاستفادة به من وساوس الشيطان بالرياء أثناء العمل، ثم الاستغفار بعده عمَّا قد يحدث من رياء أثناءه وبعد انتهائه والعزم على عدم العودة لمثله في الأعمال القادمة. 2- التدريب التدريجي على التركيز في الطاعات، بعدم فعل طاعات كثيرة، وإنَّما بتوسُّط واعتدال، فليس المهم مثلاً كثرة قراءة القرآن، وإنَّما تكفي بعض الآيات بتدبُّر يتبعه تطبيق لما فُهِم، ويكفي ترديد ذِكر أو ذِكرين بتدبُّر يحرِّك القلب مع عمل، أفضل كثيرًا من عدَّة أذكار دون فائدة، وهكذا. 3- البحث عن الصحبة الصالحة، كالتي كانت موجودة في رمضان، والاندماج معها، والانغماس فيها والتشبُّث بها، وعدم التفريط فيها أو البعد عنها، فهي العاصم بعد الله تعالى من وساوس الشيطان، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإنَّما يأكل الذئب من الغنم القاصية) أخرجه أبو داود بإسنادٍ حسن. وهي المعين بعد الله تعالى على الاستمرار في الطاعة، كما يقول صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) رواه أبو داود والترمذي بسندٍ حسن. 4- عدم الارتخاء المفاجئ بعد رمضان، وترك الطاعات بالكلية، وإنَّما فعل نِسَب من الطاعات التي كانت تُفعَل فيه، ولعلَّ هذا من بعض الحكم التي قد تُفهَم من قوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان ثم أتبعه ستّا من شوال كان كصيام الدهر) رواه مسلم، فلعلَّ صيام بعض أيام من شوال، ويُقاس عليها بعض ركعات في الليل، وبعض صلوات بالمسجد، وبعض آيات من القرآن، وبعض صدقات، وغيرها ممَّا كان يفعل في الشهر الكريم، فلعلَّ هذه الطاعات وأشباهها تمنع الفراغ المفاجئ في النفس، وتذكِّرها بحلاوة الطاعة وآثارها الطيِّبة عليها، والتي أسعدتها داخليًا باطمئنانها في ذاتها، وخارجيًا بحسن العلاقات بالآخرين، فتحاول ألا تفقد هذه اللذة، فتواظب ولو حتى على الحد الأدنى الذي يحقِّقها. 5- تجهيز بدائل الترويح الحلال، فإنَّ النفس تخرج من جهد شحنات رمضان، وهي تحتاج إلى بعض الراحة والمتعة، كالنزهات والأسفار والمسابقات، والألعاب والزيارات، وغيرها من المتع الدنيوية المباحة؛ لأنَّها إن لم تجد ذلك في الحلال، فقد تكتئب أو تضعف أو لا تستمر، أو حتى تبحث عنه في الحرام!. 6- ثم - أولاً وأخيرًا - دعاء الله لهذا الذي يتغير، تدعون أنتم له، فإنَّ دعاءكم مستجاب حتى ولو بعد حين، كما يقول صلى الله عليه وسلم: (دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة: عند رأسه ملك موكَّل، كلَّما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكَّل به: آمين ولك بمثل) رواه مسلم. ويدعو هو لنفسه أيضًا. وفقكم الله وأعانكم على حفظ إسلامه ونشره، ------------------ الدكتور محمد محمود منصور داعية وكاتب مصري. استشاري طب العيون . الأعمال المطبوعة : المختصر المفيد في تربية النفس . المختصر المفيد في النظم الإسلامية . المختصر المفيد في ثواب العبادات والمعاملات في الدنيا والآخرة . فقه التعامل بين الرجال والنساء . الدعوة الفردية وسائل ومفاهيم . أعمال تحت الطبع: فقه المريض . ثلاثون سببًا للسعادة الزوجية . تربية الأبناء سنة بسنة