في بعض كتب التراث الأدبي: أنَّ العالم العامل الزاهد مالك بن دينار، الذي عاش في عهد عمر بن عبد العزيز، فَقَدَ مصحفه في مجلسه الذي كان يعظ الناس فيه، ويفسّر لهم فيه القرآن.. فرفع رأسه متسائلاً عن مصحفه المسروق، فرأى الناس كلّهم يبكون من التأثّر والخشوع، فقال لهم هذه الكلمة الْمُعَبِّرة: "كُّلكُم يبكي فمن سرق المصحف؟!". وكلمة مالك بن دينار تذكِّرنا بكلمة أخرى قالها الإمام الحسن الْبَصْرِيّ (من كبار فقهاء التابعين)، الذي جلس في أحد الأيام يعظ الناس، فغلب عليهم في مجلسه التأثُّرُ والانفعال، وارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب. فقال وهو يستحضر في نفسه ما انتشر في المجتمع من الظلم والفساد، وقِلَّةَ من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ويسعى لتغييره بما يستطيع: "عَجِيجٌ كعجيج النِّساءِ ولا عَزْم.. وخُدْعَةٌ كخُدعَةِ إخْوَةِ يوسُف جاءوا أباهم عِشاءً يبكون". أيْ: بكاءٌ وصُراخٌ، كما تفعل النساءُ في المآتم، ولا عزمَ صادقاً على إزالة أسباب الألم والحزن والشكوى، وعلى تغيير الواقع المرير. الحسن البصريّ حمّل هؤلاء الذين يبكون ويصرخون، كما حمّل غيرَهم، مسؤوليةَ ما يشتكون منه، فلو أنّهم نهضوا جميعاً بواجبهم في بناء مجتمعهم، وفي مجابهة الظلم والفساد، لما وصل بهم الأمر، ووصل بالبلاد والعباد، إلى الحالة التي يَضجِّون بالشكاية منها والبكاء، فهم بالتالي مسؤولون بسلبيّتهم -إن لم يكن بمساهمتهم أيضاً- عن هذه الحال، وهو يُشَبِّهُ الشاكين الباكين بإخوة يوسُف عليه السلام: يبكون عند أبيهم على أخيهم يوسُف، وهم ألقوه بأيديهم في البئر، ويَدَّعُونَ كَذباً وتضليلاً وتنصُّلاً من المسؤولية أنه قد أكله الذئب. ما قاله الحسن البصريّ في القرن الأول أو الثاني للهجرة ينطبق علينا هذه الأيام بلا شك.. فنحن نبكي ونشتكي ونَضِجُّ بالشكوى والبكاء، ونتكلّم ونتكلّم، ونَزْحَمُ الأُفقَ بالكلام الفارغ الذي يخلو من كلّ مدلول عمليّ.. من يتابع حالنا، نحن المسلمين، في هذه الأيام، يلاحظ أنه لا يختلف عن هؤلاء الذين يظهرون علامات التأثر والانفعال، ولا ترى مصداق ذلك في أفعالهم وممارساتهم. كلُّ من تلقاه يشتكي.. كلُّ من تقرأُه يشتكي.. كلُّ من تسمعه يشتكي.. كلُّ من يخطب يشتكي.. كلنا نشتكي، فمن هو المسؤول عما يُشتكَى منه هذه الشكوى؟.. كلنا يبكي -أو يزعم أنّه يبكي- ويشتكي مما آلت إليه حالنا الآن على كلّ صعيد، فمن منا سرق المصحف يا تُرى؟ ومن هو المسؤول عمّا نعانيه من الفشل والضعف والهوان؟ كلُّ واحدٍ منّا يُلقي المسؤولية على سواه، ولا يكاد يعترف بذنب أو قصور. نقول دوماً في لقاءاتنا: "المسلمون.. المسلمون.."، ولا نذكُر أنفسَنا كأنّنا لسنا منهم.. عندما نعدّد العلل والأمراض في جاليتنا المسلمة، لا نُدْخِل أنفسَنا فيمن تفتك بهم هذه العلل والأمراض.. وعندما نعدّد الواجبات، لا ندخل أنفسنا فيمن يجب عليهم النهوض بهذه الواجبات.. أحاديثنا في الغالب ثرثرات، وكلماتنا مجرّد كلمات، لا تضعنا مباشرة أمام أي واجب من الواجبات.. نطوف بأحاديثنا الشرق والغرب، ونذهب بها إلى أبعد مكان وأبعد إنسان، وننسى مكاننا الذي نحن فيه، وأنفسنا التي يجب أن نبدأ بها، وننطلق منها.. وهكذا لا نجد أبداً نقطة البدء، ولا نكوّن المنطلق المنشود للتغيير. نحضر خطب الجمعة فنسمع التباكي على حال الأمة، والتذكير بأمجادها السالفة، وسيرة عمر بن الخطاب، وسيرة الأسلاف الصالحين، في حالة من البكاء على الأطلال التي كان يمارسها شعراء الجاهلية في قصائدهم.. ثم لا نجد من المواضيع المطروحة ما يحرّك الأنفس وينتقل بها من حالة السكون والركون إلى حالة الحركة والفعل في الواقع الراهن في هذا الزمان وهذا المكان.. ونسمع كلام المسلمين من حولنا عن فضائل الإسلام والأخلاق الإسلامية، ووجوب الالتزام بالفرائض الدينية، ولزوم الجماعة في المسجد، وفضل الأخوة الإسلامية والتطوع في سبيل لله لخدمة الإسلام والمسلمين.. ثم نرى الأفعال مناقضة للكلام. ونتكلم، أنا وأنت أيضا، وندّعي الفهم والحرص، ونوهم أنفسنا بأن المسئولية مسئولية الآخرين ولا دخل لنا في حالة الضعف التي نعيشها. كلنا يبكي.. رغم أننا جميعا مسئولون.. كلنا سارق للمصحف.. ونتحاشى جميعا أن نواجه أنفسنا والآخرين بهذه الحقيقة.. كلنا مسئولون.. وأنا وأنت مسئولان قبل غيرنا عن هذه الحالة.. ولذلك فأولى الأولويات أن نتحمل، أنا وأنت، المسئولية.. قبل أن ندعو الآخرين لتحمل المسئولية.. أوّل من يجب أن يقف في أنفسهم الانهيار، وأن يبدأ في أنفسهم التحول: أنا وأنت..من ينظر للتحول العظيم الذي تمّ بالإسلام أيام الرسول (ص)، يلاحظ أنه ما كان ليحصل إلا بأمرين اثنين، أولهما: (الرسالة ومضمونها)، وثانيهما: (من حملوا هذه الرسالة). أما الرسالة فهي باقية بيننا في كتاب الله وسنة رسوله (ص). وقد تكفّل الله لها بالحفظ: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( [الحجر:9]. إنما تغيّر من حملوا الرسالة.. فلم يعد لها من يأخذها بقوة، ويحملها بإخلاص وجدّ إلاّ قليل.. فتغيّرت بنا الحال، وصرنا إلى هذا الضعف والهوان والبلاء.. العلة الكبيرة إنما هي فينا نحن الذين نسمي أنفسنا "متدينين" أو "عاملين للإسلام"، ونحن دون إسلامنا ومهمتنا بما لا يقاس.. لقد أصبحنا نحسن الحديث عن الإسلام، ولكن لا نعيش الإسلام كما ينبغي.. ولا نعيش للإسلام كما ينبغي.. ومن هنا كانمظهرنا المتدين أكبر كثيراً من حقيقتنا، وكانت خيبات الأمل في كثير منا، متكررةً، صادمةً..
فما العمل إذن؟ يطالبنا القرآن الكريم، بوضوح وحزم، بإعلان التوبة وتجديد العزم، والسعي لتغيير ما بالأنفس: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ([التحريم:8]. وبما أن التوبة الحقيقية تستوجب: الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم على أن لا يعود لمثله.. فيتوجب علينا: · أن نعترف أوّلا: أننا نحن في واقعنا الحالي، جزءٌ من هذا الواقع الفاسد المنحل الذي نزعم الرغبة في تغييره بالإسلام.. فنحن نتكلم بألسنتنا عن الإسلام، ونعيش بواقعنا الجاهلية.. · أن ندرك ثانيا: أن هذا الوضع يتطلب منا هذا أن نثور على واقعنا، وواقع جاليتنا المسلمة.. ويتطلب منا هذا أن نتحول إلى صورة حقيقية مجسِّمة للإسلام الذي نؤمن به وندعو إليه، إن كنّا صادقين في تديننا، وكنا جادّين مخلصين.. نحن مطالبون، فردا فردا، بأن نصعد بأنفسنا إلى مستوى من حملوا الرسالة أول مرة.. إلى مستوى أصحاب رسول الله (ص)، إيماناً وصدقاً، وعلماً ووعياً، وجهاداً وتضحية.. نحن مطالبون، فردا فردا، بأن نجسّم في حياتنا -لا في كلامنا فقط- الإسلام، وأن نرتفع إلى مستواه، لا أن نتحدث عنه في سمائه العالية، ونحن في أرضنا المنخفضة، وواقعنا المنحط نتمرغ في الوحول.. وإلا صار كلامنا وخطابنا وشكوانا ضربا من العبث والنفاق والخداع.. )وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ([النور:31].