تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التواصي بالحق والتواصي بالصبر
من تفاسير القرآن الحديثة في العالم الإسلامي:
نشر في الصباح يوم 14 - 08 - 2012


الحلقة الخامسة عشرة
الإنسان الصالح في هذه الحياة الدنيا هو الذي «يعرف الحقائق ويوصي بها غيره، ويعمل الأعمال الصالحة ويوصي بها غيره، ويصبر على ما نابه ويوصي بالصبر غيره» كما ذكر طنطاوي جوهري. والتواصي يدل على التحابب
يقول القرطبي («تواصوا» أي تحابّوا أوصى بعضهم بعضا، وحث بعضهم بعضا) سنتتبع تفسير قول الله تعالى «وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» (العصر آية 3) بعد توضيح القرطبي «وتواصوا بالحق. «أي بالتوحيد» كما روي عن ابن عباس. ويذكر قول قتادة «بالحق» أي بالقرآن» وقول السدي: الحق هنا هو الله عز وجل. أما التواصى بالصبر أي الصبر فعن معاصيه. لنعرض قول سماحة الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله في هذا الموضوع وكذلك الدكتور يوسف القرضاوي.
٭ يقول سماحة الشيخ الإمام ابن عاشور رحمه الله «عطف على عمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات، عطف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يغفل عنه يظن أن العمل الصالح هو ما أثره عمل المرء في خاصته، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشاد المسلم غيره ودعوته إلى الحق، فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدي وعقائد الصواب وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر. والتواصي بالصبر عطف على التواصي بالحق عطف الخاص على العام أيضا وإن كان خصوصه خصوصا من وجه لأن الصبر تحمّل مشقّة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق.
وحقيقة الصبر أنه: منع المرء نفسه من تحصيل ما يشتهيه أو من محاولة تحصيله (ان كان صعب الحصول فيترك محاولة تحصيله لخوف ضرّ ينشأ عن تناوله كخوف غضب الله أو عقاب ولاّة الأمور) أو لرغبة في حصول نفع منه (كالصبر على مشقة الجهاد والحج رغبة في الثواب، والصبر على الأعمال الشاقة رغبة في تحصيل مال أو سمعة أو نحو ذلك.
ومن الصبر الصبر على ما يلاقيه المسلم إذا أمر بالمعروف من امتعاض بعض المأمورين به أو من أذاهم بالقول كمن يقول لآمره: هلا نظرت في أمر نفسك، أو نحو ذلك.
وأما تحمّل مشقة فعل المنكرات كالصبر على تجشّم السهر في اللهو والمعاصي، والصبر على بشاعة طعم الخمر لشاربها، فليس من الصبر لأن ذلك التحمّل منبعث عن رجحان اشتهاء تلك المشقة على كراهية المشقة التي تعترضه في تركها. وقد اشتمل قوله تعالى «وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» على إقامة المصالح الدينية كلها، فالعقائد الإسلامية والأخلاق الدينية مندرجة في الحق، والأعمال الصالحة وتجنّب السيئات مندرجة في الصبر. والتخلّق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها، فإن الارتياض بالأخلاق الحميدة لا يخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة، ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبر عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكة لمن راض نفسه عليها.
كما قال عمرو ابن العاص:
«إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ولم ينه قلبا غاويا حيث يمّما فيوشك أن تلفى له الدهر سبّة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما»
وكذلك الأعمال الصالحة كلها لا تخلو من إكراه النفس على ترك ما تميل إليه. وفي الحديث «حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات» وعن علي ابن أبي طالب «الصبر مطيّة لا تكبو» وقد مضى الكلام على الصبر مشبعا عند قوله تعالى «واستعينوا بالصبر والصلاة» في سورة البقرة.
وأفادت صبغة التواصي بالحق وبالصبر أن يكون شأن حياة المؤمنين قائما على شيوع التآمر بهما ديدنا لهم. وذلك يقتضي انصاف المؤمنين بإقامة الحق وصبرهم على المكاره في مصالح الإسلام وأمته لما يقتضيه عرف الناس من أن أحدا لا يوصي غيره بملازمة أمر إلا وهو يرى ذلك الأمر خليقا بالملازمة إذ قل أن يقدم أحد على أمر بحق هو لا يفعله أو أمر بصبر وهو ذو جزع وقد قال الله تعالى توبيخا لبني إسرائيل «أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون» وقد تقدم هذا المعنى قوله تعالى «ولا تحضّون على طعام المسكين» في سورة الفجر.
وفي آيتي التواصي يقول الدكتور يوسف القرضاوي «التواصي بالحق، والتواصي صيغة (تفاعل) كما يقول علماء العربية، التواصي تفاعل من الجانبين، التواصي: أي توصي غيرك بالحق، وتقبل من غيرك الوصية بالحق، فليس هناك أحد أصغر من أن يوصي، وليس هناك أحد أكبر من أن يوصي، الحق فوق الجميع. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع إلى النصيحة من أصحابه ينصحونه بها، ويستمع إلى الرأي فيترك رأيه أحيانا وينزل على رأي أصحابه في وقائع شتى روته كتب السنة والسيرة، وكان أبو بكر يقول على المنبر في أول خطبة له: أيها الناس، إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. وكان ابن الخطاب بعده يقول: مرحبا بالناصح أبد الدهر مرحبا بالناصح غدّوا وعشيا، رحم الله امرئ أهدى إليّ عيوب نفسي. ولما نصحه بعض الناس وقال له: اتّق الله يا أمير المؤمنين، غضب بعض من حوله وقال: أتقول هذا لأمير المؤمنين، فقال عمر: دعوة لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها.
التواصي بالحق يعني كل واحد يوصي غيره بالحق يعني كل واحد يوصي غيره بالحق، وأقرب الناس إلى أن توصيهم بالحق من كانوا في ذمّتك... من كانوا في حضانتك.. من كانوا تحت رعايتك.. زوجتك.. أبناؤك.. إخوتك الذين يعيشون معك.. الذين يكونون تحت رئاستك وإدارتك.. كل من لك سلطان عليه ينبغي أن توصيه بالحق، فالبحق قامت السماوات والأرض، والحق ما جاء به الإسلام، كل ما جاء به الإسلام من عقائد وعبادات وأعمال وأخلاق فهو حق. فأوصه بالحق سواء كان يتعلّق بالدنيا أو بالدين، بأمر الله أو بأمر الناس، ومن هنا كانت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هنا كانت طريقة الدعوة إلى الله، فكل مسلم داع إلى الله عزّ وجلّ. كل مسلم يجب عليه الدعوة إلى الله يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة فهو مخاطب بقوله تعالى «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» (النحل آية 125). كل من اتّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو داع «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني» (يوسف آية 108) فإذا كنت ممّن اتّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تدعو إلى الله، وتدعو على بصيرة على قدر ما أتاك الله، هنالك من يدعو بتأليف كتاب، وهناك من يدعو بإلقاء محاضرة أو خطبة، وهناك من يدعو بإلقاء درس وهناك من يدعو بالكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة صدقة، وهناك من يدعو بالصحبة الصالحة، وبالأسوة الحسنة، وما أعظم الأسوة الحسنة في التأثير. بهذا أثر المسلمون قديما في العالم كله، بأخلاقهم نشروا الإسلام، كل مسلم داعية إلى الله، من تعلم شيئا فعليه أن يعمل به، وأن يعلّمه لغيره، وهذه هي الدعوة «ومن أحسن قولا ممّن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين» (فصلت آية 33).
(الرباني) كما قال السلف: هو الذي يعلم ويعمل ويعلّم. لو تعلّمت مسألة علّمها لغيرك، عرفت شيئا في الإسلام انقله إلى غيرك. المسلم لا يعيش في هموم نفسه فقط بل يهتم بالعالم من حوله، المسلمون كانوا في مكّة قليلة ومستضعفين في الأرض، يخافون أن يتخطّفهم الناس، ومع هذا كانوا يهتمون بالصراع الدائر من بعيد بين الفرس والروم، ومن ينتصر ومن ينهزم؟ ومن يكون انتصارهم في صالحهم؟ أو يكون انهزامه في صالحهم؟ إلى هذا الحد كانوا يهتمون بالمعارك الدائرة في العالم، ولم يكن هناك تلفاز ولا إذاعة ولا صحافة. ولذلك لا يعقل أن يعيش المسلم في عصرنا يهتم بأمره.. بمكسبه.. يجمع الألوف أو الملايين، ولا يهمه ما يجري لإخوانه المسلمين وأخواته المسلمات هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها، ليس هذا من الإسلام في شيء.
لا نستطيع إذن أن نعيش وإخواتنا وأخواتنا في البوسنة والهرسك، أو في فلسطين أو في لبنان، أو في جامو وكشمير، أو في بورما أو في الفليبين أو في الصومال، أو فيما شئت من بلاد الله، فمآسي المسلمين قد ملأت الصحف، وملأت الإذاعات، وأخذت مساحة واسعة من كل نشرات الأخبار. لا يمكن أن يكون هناك مسلم حقيقي لا يهتم لأمر أمّته، لا بد أن يتقطّع قلبه زفرات، وتذهب نفسه حسرات، كلما سمع أو قرأ أو شاهد مآسي الأمة الإسلامية. التواصي بالحق: الاهتمام بأمر الآخرين، هذا هو شأن الإنسان المسلم.
لو أنك تصلي في اليوم ألف ركعة، ولو أنك تصوم صيام داود، تصوم يوما وتفطر يوما، ولو أنك تختم القرآن في ثلاثة أيام، ولو أنك تسبّح الله تسبيحا كثيرا، وتذكره بكرة وأصيلا، ولكنك تعيش غير مهتم بأمور الأمة وقضاياها، فلست من الإسلام في شيء. لست المسلم الصحيح، لست المسلم الذي يشعر بالأخوّة الإسلامية، لست المسلم الذي يعيش في قوله تعالى «إنما المؤمنون إخوة» (الحجرات آية 10)، لست المسلم الذي يفهم قوله عليه الصلاة والسلام «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» لست المسلم الذي يعي الحديث النبوي «المسلمون نتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» يجير أدناهم على أقصاهم، ويشد قويهم على مضعفهم، هذه هي الأمة المترابطة التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر. (التواصي بالصبر) الشرط الرابع الذي أرشدتنا إليه هذه السورة - التي قال عنها الإمام الشافعي: لو عمل بها الناس لكفتهم! هذه السورة التي تكتب بأقل من سطرين في المصحف الشريف لو عمل بها الناس لكفتهم، لأنها رسمت منهجا كاملا للإنسان- هو: التواصي بالصبر. وذلك أنه لا يوجد حق بغير صبر، إذا تواصى الناس بالحق، فإن تكاليف الحق ثقيلة، وأن طعم الحق مرّ، وأن طريق الحق محفوف بالأشواك، بل مليء بالأشواك، مضرجة بالدماء. انظر إلى طريق الحق منذ بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، تجد الضحايا من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولذلك لا حق بغير بصبر.
ومن هذا أوصى الله رسوله بقوله: «فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل» (الأحقاف آية 35) «فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون» (الروم آية 60) «واصبر وما صبرك إلا بالله» (النحل آية 127). بضع عشرة أي تأمره بالصبر، لأنه لا يمكن أن تقوم دعوة للحق بغير صبر. وقد أوصى لقمان ابنه وصيّته البليغة التي خلّدها القرآن فكان مما أوصاه به: «يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور» (لقمان آية 17). لماذا قال له: «واصبر على ما أصابك» لأنه ما دام سيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلا بد أن يوطن نفسه على الأذى، سيناله الناس بأذائهم رضي أم سخط لم ينج من هذا نبي مرسل، لم ينج منه أحد، فلا بد أن يصبر على أذى الناس، ولهذا قال الله تعالى لرسوله ولأصحابه: «لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتّقوا فإن ذلك من عزم الأمور» (آل عمران آية 186).
وما دام الإنسان قد حقّق الشرط الأول وهو الإيمان فإنه لن يبالي بما أصابه في جنب الله سيستمرئ المرّ ويستعذب العذاب، ويهون عليه كل ما يلقى في سبيل الله، فمن عرف مقدار ما يطلب، هل عليه مقدار ما يبذل إنه يطلب الجنة فلا بد أن يبذل النفس والمال: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة» (التوبة آية 111). الإيمان يهون عليه كل المتاعب ويسهل عليه كل المصاعب، ويستصغر من أجله كل ما يلقى في الله. بعث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جيشا إلى الروم وفيه أحد الصحابة: عبد الله بن حذافة السهمي، الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك برسالته إلى كسرى، فأسر جميع المسلمين، وفيهم عبد الله بن حذافة، وقيل لملك الروم أو لأميرهم: إن في هؤلاء أحد أصحاب محمد، فقال لهم: أجيعوه - امنعوه عن الطعام والشراب - فمنعوه عن الطعام والشراب أياما، ثم قال: اعرضوا عليه لحم الخنزير، فعرضوا عليه لحم الخنزير، فأبى أن يأكل منه، فجيء به أمام الملك وقال له: مالك لا تأكل لحم الخنزير؟ أليس هذا حلالا لكم في مثل حالتك؟ فقال له: قد علمت والله إنه حلال لي، وأن الله قد رخّص لي في أكله، ولكن ما كنت لأقر عينك بأكلي من هذا الخنزير. رفض أن يسره بالأكل وهو رخصة له «فمن اضطر غير باع ولا عاد فلا إثم عليه» (البقرة آية 173) ثم قال له: ما رأيك أن تدخل في النصرانية وأشركك في ملكي وأمري وسلطاني؟ فقال له: والله لو عرضت عليّ ما تملك وما ملك جميع العرب والعجم على أن أترك دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت ذلك. فقال: إذن أقتلك، قال: أنت وذاك. فقال لهم: اصلبوه، فصلبوه. وقال لهم: ارموا قريبا من يديه ورجليه، وهو ثابت كالطود الأشم لا يتزلزل ولا يتزعزع.
ثم أنزله وقال له: الا تدخل في النصرانية؟ فأبى فجيء بأسيرين من المسلمين أمامه وقد أمر بماء وضع في قدر، وأوقد تحته حتى غلى واشتدّ غليانه فجيء بأحد الأسيرين، فألقي في هذا القدر حتى بدت عظامه، ثم قال له: أتريد أن تلقى مصير هذا؟ ادخل في النصرانية، فأبى فقال له: إذن القيك في هذا القدر كما فعل بصاحبك، فذرفت عينه الدمع، فظن أنه قد جزع وضعف، قالوا: إنه بكى، فقال الملك في نفسه: هذه فرصة، فعرض عليه الدخول في النصرانية، فأبى، قال له: إذن لماذا بكيت؟ قال: بكيت لأنك إذا وضعتني في هذا القدر هلكت وذهبت نفسي، وكنت أودّ والله لو أن لي تحت كل شعرة نفسا تلقى حتفها في سبيل الله! عجب الرجل من ثباته وصموده وصبره، فقال له: تقبّل رأسي وأخلي سبيلك وسبيل جميع أسرى المسلمين؟ فقال في نفسه: عدوّ من أعداء الله يخلي سبيلي وجميع أسرى المسلمين. ما عليّ إذا قبّلت رأسه، والله لا أبالي بذلك في سبيل الله. فقام وقبل رأسه فأطلق له جميع أسرى المسلمين، وعاد إلى عمر رضي الله عنه، وقصّ عليه الخبر، وكأنه يعتذر من عمر أنه قبّل رأس هذا الرجل الطاغية من أجل الإفراج عن جميع أسرى المسلمين، فقال عمر بن الخطاب: حق على كل من هنا أن يقوم فيقبّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، وقام وقبل رأسه جميع المسلمين، هذا هو الصبر، هذه هي النفوس التي ربّاها الإسلام، هذا هو الفرد الذي نريده إذا كنا نريد تغيير مجتمعنا من حال إلى حال أحسن.
«اللهم اجعلنا من الذين يؤمنون فيعملون، فيتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر، اللهم آمين».
فليكن التواصي بالحق والتواصي بالصبر جوهرة في قلب كل مسلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.