اليمن: سيول وفيضانات وانهيارات أرضية    تعيين أوسمان ديون نائبا جديدا لرئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا    زغوان: تطور في قيمة نوايا الاستثمار في قطاع الخدمات في الثلاثي الاول للسنة الحالية    توزر: تأمين 22 رحلة من مطار توزر نفطة الدولي نحو البقاع المقدسة ذهابا وايابا منذ انطلاق موسم العمرة في ديسمبر 2023    سجن الصحفي محمد بوغلاب 6 اشهر مع النفاذ    سليانة: السيطرة على حريق نشب بجبل برقو بمنطقة عين بوسعدية    البطولة الوطنية المحترفة لكرة السلة(مرحلة التتويج-الجولة9): النتائج والترتيب    عبد المجيد جراد رئيسا جديدا للجامعة التونسية للكرة الطائرة    معاقبة النادي الصفاقسي باجراء مباراتين دون حضور الجمهور    حسام الدين الجبابلي: يجري التنسيق من أجل تسهيل العودة الطوعية للمهاجرين من دول جنوب الصحراء أو تقديم الدعم للراغبين في البقاء    خمسة عروض من تونس وبلجيكا وفرنسا في الدورة الثانية لتظاهرة المنستير تعزف الجاز    أطفال من بوعرادة بالشمال الغربي يوقعون إصدارين جماعيين لهم في معرض تونس الدولي للكتاب 2024    أريانة: الدورة الثانية لأيام المنيهلة المسرحية من 17 إلى 23 أفريل الجاري    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    توزر: المؤسسات الاستشفائية بالجهة تسجّل حالات إسهال معوي فيروسي خلال الفترة الأخيرة (المدير الجهوي للصحة)    الكاف: تلقيح اكثر من 80 بالمائة من الأبقار و25 بالمائة من المجترات ضد الأمراض المعدية (دائرة الإنتاج الحيواني)    لعبة الإبداع والإبتكار في كتاب «العاهر» لفرج الحوار /1    نيبينزيا: على مجلس الأمن أن يدرس بشكل عاجل مسألة فرض عقوبات ضد الكيان الصهيوني    "سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    الفضيلة    أخبار الترجي الرياضي...يان ساس جاهز وأندري بوكيا لغز كبير    غدا افتتاح معرض تونس الدولي للكتاب...إمضِ أبْعد ممّا ترى عيناك...!    أخبار المال والأعمال    حالة الطقس ليوم الخميس 18 أفريل 2024    وزير الصحة يعاين ظروف سير العمل بالمستشفى الجهوي بباجة    بعد إلغاء 150 رحلة..عملية استقبال المسافرين في مطارات دبى ستبدأ غداً صباحا    بطولة شتوتغارت... أنس جابر تطيح بالروسية إيكاترينا    مكافحة الهجرة غير النظامية والجريمة المنظمة محاور لقاء وزير الداخلية بنظيره الايطالي    توننداكس يتجاوز حاجز 9 آلاف نقطة مع اغلاق تداولات الاربعاء    وزير الداخلية كمال الفقي يلتقي نظيره الايطالي    تونس: حجز 6 أطنان من السكر المعد للاحتكار في الحرايرية    جراحة فريدة في الأردن.. فتحوا رأسه وهو يهاتف عائلته    عاجل/ هذا موعد تصويت مجلس الأمن على عضوية فلسطين بالامم المتحدة    لإنقاذ مزارع الحبوب: تزويد هذه الجهة بمياه الري    جورجيا ميلوني: "لايمكن لتونس أن تصبح دولة وصول للمهاجرين"    ححز كوكايين وأقراص مخدّرة لدى 3 شبان يعمدون إلى ترويجها في الكاف    التداول حول القانون الأساسي المتعلق بالتبادل الآلي للمعلومات المتعلقة بالحسابات المالية    صافي سعيد: هذا ما أعد به المساجين السياسيين إذا فُزت بالرئاسية    توقّيا من مخاطر الأنترنات على الأطفال: وزارة الطفولة تصدر قصّة رقميّة    عاجل/ القبض على شخصين متورطين في طعن عون أمن بهذه الجهة    قتل مسنّ حرقا بمنزله: القبض على 6 أشخاص من بينهم قصّر    المركز العسكري لنقل الدّم يتحصّل على شهادة المطابقة للجودة    سيلين ديون تكشف عن موعد عرض فيلمها الجديد    بطولة شتوتغارت: أنس جابر تضع حدا لسلسة نتائجها السلبية وتتاهل الى الدور ثمن النهائي    سعيد يدعو إلى اعتماد مقاربة جماعية لمسألة الهجرة ومحاربة شبكات المتاجرة بالبشر    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يفرض الويكلو على التحضيرات    وزيرة التربية: "البنية التحتية من أبرز أسس تطور قطاع التعليم"    صفاقس: حادث مرور يخلف 5 اصابات    محرز الغنوشي: الأمطار في طريقها إلينا    الحماية المدنية: 19 حالة وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني في تونس اليوم..    بعد صمت طويل: هذا أول تصريح لأمين قارة بعد توقّف برنامجه على الحوار التونسي    علامة ''هيرمس'' تعتذر لهيفاء وهبي    مباراة الترجي وصانداونز: تحديد عدد الجماهير وموعد انطلاق بيع التذاكر    عاجل : دولة افريقية تسحب ''سيرو'' للسعال    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    مفاهيمها ومراحلها وأسبابها وأنواعها ومدّتها وخصائصها: التقلّبات والدورات الاقتصادية    فتوى جديدة تثير الجدل..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التواصي بالحق والتواصي بالصبر
من تفاسير القرآن الحديثة في العالم الإسلامي:
نشر في الصباح يوم 14 - 08 - 2012


الحلقة الخامسة عشرة
الإنسان الصالح في هذه الحياة الدنيا هو الذي «يعرف الحقائق ويوصي بها غيره، ويعمل الأعمال الصالحة ويوصي بها غيره، ويصبر على ما نابه ويوصي بالصبر غيره» كما ذكر طنطاوي جوهري. والتواصي يدل على التحابب
يقول القرطبي («تواصوا» أي تحابّوا أوصى بعضهم بعضا، وحث بعضهم بعضا) سنتتبع تفسير قول الله تعالى «وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» (العصر آية 3) بعد توضيح القرطبي «وتواصوا بالحق. «أي بالتوحيد» كما روي عن ابن عباس. ويذكر قول قتادة «بالحق» أي بالقرآن» وقول السدي: الحق هنا هو الله عز وجل. أما التواصى بالصبر أي الصبر فعن معاصيه. لنعرض قول سماحة الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله في هذا الموضوع وكذلك الدكتور يوسف القرضاوي.
٭ يقول سماحة الشيخ الإمام ابن عاشور رحمه الله «عطف على عمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات، عطف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يغفل عنه يظن أن العمل الصالح هو ما أثره عمل المرء في خاصته، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشاد المسلم غيره ودعوته إلى الحق، فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدي وعقائد الصواب وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر. والتواصي بالصبر عطف على التواصي بالحق عطف الخاص على العام أيضا وإن كان خصوصه خصوصا من وجه لأن الصبر تحمّل مشقّة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق.
وحقيقة الصبر أنه: منع المرء نفسه من تحصيل ما يشتهيه أو من محاولة تحصيله (ان كان صعب الحصول فيترك محاولة تحصيله لخوف ضرّ ينشأ عن تناوله كخوف غضب الله أو عقاب ولاّة الأمور) أو لرغبة في حصول نفع منه (كالصبر على مشقة الجهاد والحج رغبة في الثواب، والصبر على الأعمال الشاقة رغبة في تحصيل مال أو سمعة أو نحو ذلك.
ومن الصبر الصبر على ما يلاقيه المسلم إذا أمر بالمعروف من امتعاض بعض المأمورين به أو من أذاهم بالقول كمن يقول لآمره: هلا نظرت في أمر نفسك، أو نحو ذلك.
وأما تحمّل مشقة فعل المنكرات كالصبر على تجشّم السهر في اللهو والمعاصي، والصبر على بشاعة طعم الخمر لشاربها، فليس من الصبر لأن ذلك التحمّل منبعث عن رجحان اشتهاء تلك المشقة على كراهية المشقة التي تعترضه في تركها. وقد اشتمل قوله تعالى «وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» على إقامة المصالح الدينية كلها، فالعقائد الإسلامية والأخلاق الدينية مندرجة في الحق، والأعمال الصالحة وتجنّب السيئات مندرجة في الصبر. والتخلّق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها، فإن الارتياض بالأخلاق الحميدة لا يخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة، ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبر عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكة لمن راض نفسه عليها.
كما قال عمرو ابن العاص:
«إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ولم ينه قلبا غاويا حيث يمّما فيوشك أن تلفى له الدهر سبّة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما»
وكذلك الأعمال الصالحة كلها لا تخلو من إكراه النفس على ترك ما تميل إليه. وفي الحديث «حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات» وعن علي ابن أبي طالب «الصبر مطيّة لا تكبو» وقد مضى الكلام على الصبر مشبعا عند قوله تعالى «واستعينوا بالصبر والصلاة» في سورة البقرة.
وأفادت صبغة التواصي بالحق وبالصبر أن يكون شأن حياة المؤمنين قائما على شيوع التآمر بهما ديدنا لهم. وذلك يقتضي انصاف المؤمنين بإقامة الحق وصبرهم على المكاره في مصالح الإسلام وأمته لما يقتضيه عرف الناس من أن أحدا لا يوصي غيره بملازمة أمر إلا وهو يرى ذلك الأمر خليقا بالملازمة إذ قل أن يقدم أحد على أمر بحق هو لا يفعله أو أمر بصبر وهو ذو جزع وقد قال الله تعالى توبيخا لبني إسرائيل «أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون» وقد تقدم هذا المعنى قوله تعالى «ولا تحضّون على طعام المسكين» في سورة الفجر.
وفي آيتي التواصي يقول الدكتور يوسف القرضاوي «التواصي بالحق، والتواصي صيغة (تفاعل) كما يقول علماء العربية، التواصي تفاعل من الجانبين، التواصي: أي توصي غيرك بالحق، وتقبل من غيرك الوصية بالحق، فليس هناك أحد أصغر من أن يوصي، وليس هناك أحد أكبر من أن يوصي، الحق فوق الجميع. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع إلى النصيحة من أصحابه ينصحونه بها، ويستمع إلى الرأي فيترك رأيه أحيانا وينزل على رأي أصحابه في وقائع شتى روته كتب السنة والسيرة، وكان أبو بكر يقول على المنبر في أول خطبة له: أيها الناس، إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. وكان ابن الخطاب بعده يقول: مرحبا بالناصح أبد الدهر مرحبا بالناصح غدّوا وعشيا، رحم الله امرئ أهدى إليّ عيوب نفسي. ولما نصحه بعض الناس وقال له: اتّق الله يا أمير المؤمنين، غضب بعض من حوله وقال: أتقول هذا لأمير المؤمنين، فقال عمر: دعوة لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها.
التواصي بالحق يعني كل واحد يوصي غيره بالحق يعني كل واحد يوصي غيره بالحق، وأقرب الناس إلى أن توصيهم بالحق من كانوا في ذمّتك... من كانوا في حضانتك.. من كانوا تحت رعايتك.. زوجتك.. أبناؤك.. إخوتك الذين يعيشون معك.. الذين يكونون تحت رئاستك وإدارتك.. كل من لك سلطان عليه ينبغي أن توصيه بالحق، فالبحق قامت السماوات والأرض، والحق ما جاء به الإسلام، كل ما جاء به الإسلام من عقائد وعبادات وأعمال وأخلاق فهو حق. فأوصه بالحق سواء كان يتعلّق بالدنيا أو بالدين، بأمر الله أو بأمر الناس، ومن هنا كانت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هنا كانت طريقة الدعوة إلى الله، فكل مسلم داع إلى الله عزّ وجلّ. كل مسلم يجب عليه الدعوة إلى الله يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة فهو مخاطب بقوله تعالى «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» (النحل آية 125). كل من اتّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو داع «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني» (يوسف آية 108) فإذا كنت ممّن اتّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تدعو إلى الله، وتدعو على بصيرة على قدر ما أتاك الله، هنالك من يدعو بتأليف كتاب، وهناك من يدعو بإلقاء محاضرة أو خطبة، وهناك من يدعو بإلقاء درس وهناك من يدعو بالكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة صدقة، وهناك من يدعو بالصحبة الصالحة، وبالأسوة الحسنة، وما أعظم الأسوة الحسنة في التأثير. بهذا أثر المسلمون قديما في العالم كله، بأخلاقهم نشروا الإسلام، كل مسلم داعية إلى الله، من تعلم شيئا فعليه أن يعمل به، وأن يعلّمه لغيره، وهذه هي الدعوة «ومن أحسن قولا ممّن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين» (فصلت آية 33).
(الرباني) كما قال السلف: هو الذي يعلم ويعمل ويعلّم. لو تعلّمت مسألة علّمها لغيرك، عرفت شيئا في الإسلام انقله إلى غيرك. المسلم لا يعيش في هموم نفسه فقط بل يهتم بالعالم من حوله، المسلمون كانوا في مكّة قليلة ومستضعفين في الأرض، يخافون أن يتخطّفهم الناس، ومع هذا كانوا يهتمون بالصراع الدائر من بعيد بين الفرس والروم، ومن ينتصر ومن ينهزم؟ ومن يكون انتصارهم في صالحهم؟ أو يكون انهزامه في صالحهم؟ إلى هذا الحد كانوا يهتمون بالمعارك الدائرة في العالم، ولم يكن هناك تلفاز ولا إذاعة ولا صحافة. ولذلك لا يعقل أن يعيش المسلم في عصرنا يهتم بأمره.. بمكسبه.. يجمع الألوف أو الملايين، ولا يهمه ما يجري لإخوانه المسلمين وأخواته المسلمات هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها، ليس هذا من الإسلام في شيء.
لا نستطيع إذن أن نعيش وإخواتنا وأخواتنا في البوسنة والهرسك، أو في فلسطين أو في لبنان، أو في جامو وكشمير، أو في بورما أو في الفليبين أو في الصومال، أو فيما شئت من بلاد الله، فمآسي المسلمين قد ملأت الصحف، وملأت الإذاعات، وأخذت مساحة واسعة من كل نشرات الأخبار. لا يمكن أن يكون هناك مسلم حقيقي لا يهتم لأمر أمّته، لا بد أن يتقطّع قلبه زفرات، وتذهب نفسه حسرات، كلما سمع أو قرأ أو شاهد مآسي الأمة الإسلامية. التواصي بالحق: الاهتمام بأمر الآخرين، هذا هو شأن الإنسان المسلم.
لو أنك تصلي في اليوم ألف ركعة، ولو أنك تصوم صيام داود، تصوم يوما وتفطر يوما، ولو أنك تختم القرآن في ثلاثة أيام، ولو أنك تسبّح الله تسبيحا كثيرا، وتذكره بكرة وأصيلا، ولكنك تعيش غير مهتم بأمور الأمة وقضاياها، فلست من الإسلام في شيء. لست المسلم الصحيح، لست المسلم الذي يشعر بالأخوّة الإسلامية، لست المسلم الذي يعيش في قوله تعالى «إنما المؤمنون إخوة» (الحجرات آية 10)، لست المسلم الذي يفهم قوله عليه الصلاة والسلام «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» لست المسلم الذي يعي الحديث النبوي «المسلمون نتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» يجير أدناهم على أقصاهم، ويشد قويهم على مضعفهم، هذه هي الأمة المترابطة التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر. (التواصي بالصبر) الشرط الرابع الذي أرشدتنا إليه هذه السورة - التي قال عنها الإمام الشافعي: لو عمل بها الناس لكفتهم! هذه السورة التي تكتب بأقل من سطرين في المصحف الشريف لو عمل بها الناس لكفتهم، لأنها رسمت منهجا كاملا للإنسان- هو: التواصي بالصبر. وذلك أنه لا يوجد حق بغير صبر، إذا تواصى الناس بالحق، فإن تكاليف الحق ثقيلة، وأن طعم الحق مرّ، وأن طريق الحق محفوف بالأشواك، بل مليء بالأشواك، مضرجة بالدماء. انظر إلى طريق الحق منذ بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، تجد الضحايا من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولذلك لا حق بغير بصبر.
ومن هذا أوصى الله رسوله بقوله: «فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل» (الأحقاف آية 35) «فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون» (الروم آية 60) «واصبر وما صبرك إلا بالله» (النحل آية 127). بضع عشرة أي تأمره بالصبر، لأنه لا يمكن أن تقوم دعوة للحق بغير صبر. وقد أوصى لقمان ابنه وصيّته البليغة التي خلّدها القرآن فكان مما أوصاه به: «يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور» (لقمان آية 17). لماذا قال له: «واصبر على ما أصابك» لأنه ما دام سيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلا بد أن يوطن نفسه على الأذى، سيناله الناس بأذائهم رضي أم سخط لم ينج من هذا نبي مرسل، لم ينج منه أحد، فلا بد أن يصبر على أذى الناس، ولهذا قال الله تعالى لرسوله ولأصحابه: «لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتّقوا فإن ذلك من عزم الأمور» (آل عمران آية 186).
وما دام الإنسان قد حقّق الشرط الأول وهو الإيمان فإنه لن يبالي بما أصابه في جنب الله سيستمرئ المرّ ويستعذب العذاب، ويهون عليه كل ما يلقى في سبيل الله، فمن عرف مقدار ما يطلب، هل عليه مقدار ما يبذل إنه يطلب الجنة فلا بد أن يبذل النفس والمال: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة» (التوبة آية 111). الإيمان يهون عليه كل المتاعب ويسهل عليه كل المصاعب، ويستصغر من أجله كل ما يلقى في الله. بعث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جيشا إلى الروم وفيه أحد الصحابة: عبد الله بن حذافة السهمي، الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك برسالته إلى كسرى، فأسر جميع المسلمين، وفيهم عبد الله بن حذافة، وقيل لملك الروم أو لأميرهم: إن في هؤلاء أحد أصحاب محمد، فقال لهم: أجيعوه - امنعوه عن الطعام والشراب - فمنعوه عن الطعام والشراب أياما، ثم قال: اعرضوا عليه لحم الخنزير، فعرضوا عليه لحم الخنزير، فأبى أن يأكل منه، فجيء به أمام الملك وقال له: مالك لا تأكل لحم الخنزير؟ أليس هذا حلالا لكم في مثل حالتك؟ فقال له: قد علمت والله إنه حلال لي، وأن الله قد رخّص لي في أكله، ولكن ما كنت لأقر عينك بأكلي من هذا الخنزير. رفض أن يسره بالأكل وهو رخصة له «فمن اضطر غير باع ولا عاد فلا إثم عليه» (البقرة آية 173) ثم قال له: ما رأيك أن تدخل في النصرانية وأشركك في ملكي وأمري وسلطاني؟ فقال له: والله لو عرضت عليّ ما تملك وما ملك جميع العرب والعجم على أن أترك دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت ذلك. فقال: إذن أقتلك، قال: أنت وذاك. فقال لهم: اصلبوه، فصلبوه. وقال لهم: ارموا قريبا من يديه ورجليه، وهو ثابت كالطود الأشم لا يتزلزل ولا يتزعزع.
ثم أنزله وقال له: الا تدخل في النصرانية؟ فأبى فجيء بأسيرين من المسلمين أمامه وقد أمر بماء وضع في قدر، وأوقد تحته حتى غلى واشتدّ غليانه فجيء بأحد الأسيرين، فألقي في هذا القدر حتى بدت عظامه، ثم قال له: أتريد أن تلقى مصير هذا؟ ادخل في النصرانية، فأبى فقال له: إذن القيك في هذا القدر كما فعل بصاحبك، فذرفت عينه الدمع، فظن أنه قد جزع وضعف، قالوا: إنه بكى، فقال الملك في نفسه: هذه فرصة، فعرض عليه الدخول في النصرانية، فأبى، قال له: إذن لماذا بكيت؟ قال: بكيت لأنك إذا وضعتني في هذا القدر هلكت وذهبت نفسي، وكنت أودّ والله لو أن لي تحت كل شعرة نفسا تلقى حتفها في سبيل الله! عجب الرجل من ثباته وصموده وصبره، فقال له: تقبّل رأسي وأخلي سبيلك وسبيل جميع أسرى المسلمين؟ فقال في نفسه: عدوّ من أعداء الله يخلي سبيلي وجميع أسرى المسلمين. ما عليّ إذا قبّلت رأسه، والله لا أبالي بذلك في سبيل الله. فقام وقبل رأسه فأطلق له جميع أسرى المسلمين، وعاد إلى عمر رضي الله عنه، وقصّ عليه الخبر، وكأنه يعتذر من عمر أنه قبّل رأس هذا الرجل الطاغية من أجل الإفراج عن جميع أسرى المسلمين، فقال عمر بن الخطاب: حق على كل من هنا أن يقوم فيقبّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، وقام وقبل رأسه جميع المسلمين، هذا هو الصبر، هذه هي النفوس التي ربّاها الإسلام، هذا هو الفرد الذي نريده إذا كنا نريد تغيير مجتمعنا من حال إلى حال أحسن.
«اللهم اجعلنا من الذين يؤمنون فيعملون، فيتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر، اللهم آمين».
فليكن التواصي بالحق والتواصي بالصبر جوهرة في قلب كل مسلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.