الإنسان، والطبيعة، والكلمات الساحرة، تلك هي شلالات الجمال الخالدة.. كانوا على الدوام مصدر للإلهام والإبداع، سكنوا قافية الشاعر ولحن المطرب وحلم العذارى وبسمة الصبى، عرفهم الكون فاستوحى من روعتهم معنى الجمال وسماته، فأصبحت كلمة "جمال" مخزن الأذواق الكبير وقبلته الناعمة. لم يكن التعرف على الجمال يحتاج إلى منسوب معين من العلم والثقافة، بل كانت الفطرة السليمة بَوصَلته الوحيدة تيمّم نحوه أينما لَمَحَته. مر الجمال في رحلته مع عالم الناس بثلاثة مراحل هي: الفطرة وهي عصر الجمال الزاهي التوظيف الذي تعثر فيه الجمال ثم الشذوذ الذي سقط فيه مفهوم الجمال سقوطا مدويا.
المرأة كمعيار.. لماذا المرأة؟ سؤال بسيط جوابه أبسط، طالما أنّ قيمة الجمال كامنة في الإنسان والنبات والأنهار والسماء والنجوم والطيور.. وهذا الإنسان كُرّم على غيره بحكم إلهي وأنثاه تجاوزت ذكره فكانت المادة الخضبة لعالم الجمال عبر العصور. عندما كانت الأنثى طليقة لا تقودها إلا الفطرة كان جمالها محل إجماع لدى الراعي، والفلاح، والصانع، والتاجر، والعالم، والأمير.. لم تكن كيلوبترا قد دخلت دور أزياء ولم تقم بعمليات تجميل ولا شفط ونفخ شفاه... وأقصى ما فعلت أنّها استعملت العسل والحليب لتنقية البشرة.. وحتى جميلات العرب السبعة "ليلى العفيفة، بهيسة بنت أوس، حرقة بنت النعمان، عائشة بنت طلحة، هند بنت النعمان بن بشير، أم البنين، زبيدة بنت جعفر" لم يكن لهنّ من زينة غير الماء والكحل. أما عبلة فلم تخرج ب"الجينز" والكعب العالي تغري بحبها صاحب المعلقة أحد أقوى الرجال ساعدا وقافية.. ولم يكن ذوق عنترة الصافي ليتنكب جمالها الطبيعي... لبنى وبثينة وليلى وغيرهنّ من اللواتي يحملن جمالا حيِيًّا كانت أنفسهنّ أكثر حياء استسلمن لأهلهنّ ولم يستسلمن لعواطفهنّ الجارفة، ذهب جميل وقيس وكثير إلى حال سبيلهم وحفظن الجميلات ماء وجه الأب والعم والأخ والعشيرة.. رغم هذه العواطف الجارفة فإنّ أصحاب الحب العذري استعملوا الشعر العذري للتعبير والتصوير فكانت كلمات عنترة العبسي خجولة حتى والحرب مشتعلة في ذروتها فقد كان يصف عبلة تحت رحى القتال بقوله:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني ... وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم
رغم مشهد الحرب والدم والمطلع القاسي لهذا البيت فإنّ الشاعر حين انتقل للحديث عن الأنثى ووصف جمالها انقلب خطابه 180 درجة مستعملا الكلمات اللينة الرقيقة الهادئة.. حتى هالة الحرب وضغوطها لم تدفع الشاعر لاستعارة الكلمات الملتهبة في وصف الجمال. إنما الذين انتهكوا طبيعة الجمال وطمسوا جوانبه المضيئة هم من عمدوا إلى تحويل وجهة الأنثى لتصبح بضاعة وشباك لصيد البلهاء. على غرار الكثير كان نزار قباني من ضمن الذين أفسدوا على الأنثى طبيعتها وأحدثوا في الجمال! كيف لا وهو القائل: لو كنت في مدريد في رأس السنة كنا سهرنا وحدنا في حانة صغيرة ليس بها سوانا تبحث في ظلامها عن بعضها يدانا كنا شربنا الخمر في أوعية الخشب
تداولت أيدي الشعراء والإعلاميين ودور الأزياء وتجار الجنس... على طمس الجمال في جوانبه الطبيعية، ولم يعد فطرة إنما حولوه إلى صناعة تحت الطلب وكانت الأنثى المستهدف الأول، فاليوم تم تشويهها وحددت صلاحيات جمالها ووظف جسدها فأصبحت عبارة عن فخاخ تنصب في الملاهي والنوادي والمجلات ليصطادوا بها ضعاف القلوب وأرباب الشهوات. وهكذا تسربوا كالنمل إلى الفطرة فمسخوها رغم أنّ جمال القيمة الثابتة هو ذاك الذي يحمل في طياته مضمونا من الحسن تستحسنه مجمل الأذواق ويغذي جميع المشاعر سيان كانت سليمة أوسقيمة وقلَّ ما وقع الاختلاف في مضامينه العامة.. فالبسمة والزهرة والليل والقمر والبحر والشمس والشاطئ كلها قيم جمال ثابتة قبل أن تُأوّل وتُوظّف وتُفْعل فيها الأفاعيل. الجمال قيمة إنسانية ينتعش بالتعميم وعادة ما تتحقق له المثالية في جوانبه النظرية حتى إذا نزل إلى الواقع وامتدت له يد النقد والقياس والتخصص ينشطر على نفسه فيتباعد ثم يتنافر ثم يتضاد.. فتصبح الوردة بدعة والضحكة تَشَفِّي والبسمة تَرصُّد... اليوم إذا ناولت سيدة أمام زوجها أو فتاة أمام أبيها كأسا من الماء أو حبة أسبيرين أو قطعة خبز أو سكينا أو فأسا أو مسدسا أو حتى صخرة ربما يمر هذا بسلام، لكن لو جربت وناولت هذه السيدة أو الفتاة وردة لخرجت بِعاهة مستديمة وتتضاعف عاهتها إذا كانت الوردة حمراء!!! تدخلوا في مجرى الجمال ثم في منابعه فغيروا طعمه ولونه وشكله حتى فُضلت صخرة على وردة!!! لأنّ الذوق الرفيع والإحساس المرهف أصبح مطبا يجلب المأساة لصاحبه، فالجمال لم يعد مطلقا ودخلت عليه عوامل عدة منها العادات والتقاليد والإتيكيت والمراسيم فغيرت بطاقة هويته وحددت صلاحياته. لقد جُرِّدَ الجمال من أبعاده النقية السامية وأفرغ من مضامينه الطبيعية، وما فتئت مفاهيمه تشوه ثم تُعلّب وتُشحن عبر العالم من عدة أماكن أبرزها المصنع العملاق usa، هذا المصنع لديه الوزر الأول ويعتبر مجزرة العالم الكبرى وسلخانة الجمال الطبيعي... من هناك تحولت الحلقات من الأذن وطافت على الحاجب والشفاه والصرة والأنف... ومن هناك أصبحت أزياء النشاز هي الأصل وما كان بالأمس مقززا أصبح اليوم مستحبا بفعل التحالف الماكر بين الآلة الإعلامية ودور الأزياء. الأصفر على الأبيض على الأسود على الأزرق على البنفسجي أصبح هو الموضة وشِبه اللباس اللاساتر أصبح صرخة، وجحافل الشباب ماضية تلهث خلف بَوصلة هذه المصانع الخبيثة. من نفس ذاك المصنع أصبح الجسد الطاهر النقي الخالي من الوشم مُتخلفا وطاف الوشم على كامل البدن وتسرب إلى أماكن حساسة يستنكرها كل ذوق سليم، لكن مصانع الجمال المغشوش شحنت به ملايين العقول المفلسة. كانت منابع الجمال صافية لأنها كانت تحت إدارة الطبيعة والآن وقد أوكلت إدارة الجمال بدور الموضة والشركات المصنعة للجنس وفضاءات الشذوذ فقد تحول الجمال عن رسالته وأصبح مثله مثل العنب أصله طيب وفرعه خبيث.
* صحفية وكاتبة ناشطة في عدة مؤسسات تربوية وثقافية بألمانيا