كان الجوّ شاحبا ، بذور الإرهاب تخلف نشفانا في الحلق ... أن تُقحَم في مواجهة وأنت أعزل ، تلك لعمري إحدى الكُبر...كانت استشاراتنا محسومة مسبقا ، القرار الجديد يعني صلاة الصبح والعشاء ،فهما يقعان تماما بين الثامنة ليلا والثامنة صباحا ، وهو امر مدلوله واضح في التربية الإسلامية، هاتين الصلاتين بالذات هما الفيصل بين حالتي النفاق و الصدق ...لاحظ يا صديقي ، كيف وردت العبارة في القرآن : يُمَسِّكون بالكتاب ، لم ترد الميم ساكنة ، أليس هذا تنبيها بأن هناك من سيحاول افتكاكه منا و عزلنا عنه؟... عند الفجر بدأنا الهجوم ، ليس فقط بالصلاة المفروضة ولكن بالجماعة ايضا ،مشفوعة باضراب جوع... في ظروف الرعب الصامت هذا ، لم نعدم التنسيق بين الغرف ... ظلت الإدارة تراقب الوضع عن كثب ، لم تتدخل في البداية ، جاء اليوم الثالث يقدم رجلا ويؤخر أخرى... أعلنا الإضراب الذي ظل سريا حتى الآن ، كنا نوهم (النسناسة) بأننا نأكل ،إذ ننزل للجلوس حول الطعام الزهيد ، ثم يخفي كل منا خبزته في مكان ما ، حتى إذا جاء اليوم الثالث ، جمعنا كل الخبز في بطانية واحدة ، ثم نتفق مع بقية الغرف على توقيت ما ، فنبرزه جميعا اعلانا عن الاضراب بمفعول رجعي لثلاثة ايام خلت... كانت حيلة بسيطة لتخويف الإدارة من التورط في إضطهادنا ،إذ بعد ثلاثة ايام من الجوع الإرادي ، يصبح الجسد هشا لا يحتمل الكثير ... وندرك ايضا انهم يدركون هذا... كان الإعلان عن الإضراب ،يمثل في حد ذاته طعنة في كبرياء العتاة ، اعتبروه تحديا تنظيميا قبل أي شيء آخر... كان السؤال الملح ، كيف توصلنا مع كل ذاك الحصار الذي يحصي الانفاس ، إلى التنسيق بين الغرف ، ورغم أنك صديقي يستدرك ظافر وقد مضت السنون ، فسيظل سري دونه مهجتي... أذكر جيدا كيف أنهم هاجموا الغرفة رقم 4 بالكراكة ، كانوا مدججين بالهراوات والكلاب ... لحظات مرعبة مرت ببطىء... عبد الحفيظ بن خليفة كان في اول الغرفة ، استاذ محترم للكيمياء ، نزلت عليه هراواتهم القاسية فوق الجمجمة ، سال دمه سخيا على اكتافه ...شرب صديقي (الشامبو) ، اصيب سريعا بالاسهال ، في هذه اللحظات ، كان الكل يشرب مسحوق الغسيل ... ورطة كبيرة حيرت الإدارة ، أهي محاولة انتحار جماعي؟ ... النظام الهش ، يخاف ان تزداد صورة منتجعه السياحي قتامة ... أربكته هذه الحركة التي لم يتوقعها...أسرع في نقل المضربين إلى المستشفيات ... ذاع الخبر في بنزرت ...عند الناس ، في الشارع ، تراجعت الإدارة ، لأول مرة أذوق طعم الإنتصار... لاول مرة في تاريخ السجون ، يأتي أحد بالزي العسكري ليعلن إلغاء القرار ... السنون التي مرت ، تذيب الأكباد ، كان واقعنا مرا بما يكفي لنسيان العالم، لكن السجين دائما متعلق بما يدور في الخارج اكثر ممن يعيش في الهواء الطلق ... الأخبار تترى في مقطوعات الجرائد الفقيرة ،والنشرات المسائية المحنطة،بكل شيء قاحل... كانت الجزائر تتمزق ، وفلسطين على اتون النار ، و الشيشان تدمر بشكل مفزع ، وبلاد البوشناق تذبح بدم بارد ... كان القلب موزعا تأتيه السهام من كل جانب ... فهو موزع لكنه ممزع ، لو قدر لك يا صديقي في تلك الظروف أن تمر على قبر رجل ، لقلت بصدق ، يا ليتني كنت مكانه... هكذا بعد هذه الحادثة ، شعرنا بقدرة الإنسان على التحدي ، ولكن كنا حذرين ، فالطغاة لم يعودونا على الرجوع للحق هكذا ببساطة... لم تكد تمضي ايام حتى كنا على موعد مع الترحيل ... هو عشوائي كما يبدو لنا ولكنه منظم بالنسبة لهم ... الهدف الاساس كان و سيظل بالنسبة للفراعنة ، هو كسر الإرادة الجماعية... هم يعلمون انهم بتشتيتنا يخلطون اوراقنا من جديد ... كل استقرار في الحياة ، يعني الإنتاج.. اي انتاج... ولذلك كرهوا في فقهنا التعرب بعد التمدن ، لان حياة الاعراب تقوم على الترحال ، وهو لا ينتج حضارة... كان الترحيل من سجن إلى سجن ، معناه الايغال في العزل ، تقطيعٌ لاي شبكة اجتماعية على مستوى السجن يمكن ان تكون حدثت بالفعل... او قد تحدث ... قطع الطريق على أيّ خيط مع الخارج قد يتم مع طول الوقت... إنه تمزيق للممزق ، و تقطيع للمقطع... كانت العودة مرة أخرى لسجن 9 افريل... بعد التفتيش المهين ، ادخلونا في غرفة لنظل فيها حتى الصباح .. ضمت القافلة من برج الرومي خمسا و عشرين شخصا ، بتنا جميعا في (بيت الدجاج) كما يسمى ،بتنا فيه كما الدجاج على اقدامنا ... المساحة كلها اربعة امتار بأربعة أمتار...وعند الصباح، شخصيا، فُرزت إلى جناح د.ن.آكس.،هناك مع تجار المخدرات ، صنف من شعبنا اختاروا هذه المهنة بعد أن سحق النظام احلامهم في العيش بالحلال... دفعهم للحرام ثم حاسبهم عليه... صنع منهم مجرمين ، ليقبض الدولار عن سجنهم ...هناك فقط يا صديق ، رأيت مجرمين لطفاء معنا واشداء على الحاكم.... كانوا مع انزعاجهم لرفض بعضنا ان يآكلهم طعامهم ، يرفضون إيذاءنا ... لا بد ان اقولها لك بشجاعة ، لقد كانوا رجالا... إكتشفت بعد كل هذه السنين ، انني صرت أخاف ، او فلتقل حذر حد الخوف إذ مع أول نشرة للاخبار المسائية ، بدأت مذيعة الأخبار تسرد كالعادة ، الانجازات الفذة للسيد الرئيس ، وما أن ذكرت إسمه ،حتى صاح أحد سجناء الحق العام: (سوّد الله وجهك وْ وجهو)...وتبعه آخرون بمثل ما قال وشبهه...شعرت بالصدمة ، إلتفت حولي يمنة و يسرة ، قرصت نفسي ، هل أنا أحلم ؟ ... ليس بعيدا من هنا ، في سجن آخر ، حكم سجين منذ ايام باربعة سنوات لانه قال نفس الكلام في نشرة إخبارية مشابهة .... هل أنا في منطقة محررة من السجن في السجن ؟... ذات يوم ، دخل رجل عليه سيماء النعيم غرفتنا بنفس الجناح ، بُهِتَ للصدور العارية والزنود الموشومة باشكال ورسوم عجيبة ... وقف في وسط الغرفة تائها ... إنه من سكان المنازه ، و ما ادراك ما المنازه في بلدي ، منظره ولباسه الميسور ، استفز احد السفلة ، تقدم منه ، و بدون مقدمات صفعه بقسوة مدوية ، ثم اكمل طريقه للحمام ... بكى الرجل ... أذكر بعدها من شدة الصدمة لما رأى ، لم يستطع قضاء الحاجة لمدة طويلة... لما بكى رق قلبي له ، فاحتضته لاحميه بما لدي من سند من مجموعة الصبغة الخاصة في الغرفة...كان بريئا لحد السذاجة ، جاؤوا به ، عقابا على اتصال هاتفي ، مع رئيسه في العمل سابقا ، محمد مزالي... سكت ظافر ، ثم تنهد ليقول: ما اقسى هذه الدنيا حين تدور ، تبكيك ، ثم تضحك منك ، و صدق من قال : الدنيا خداعة .... كان يوم العاشر من ديسمبر لسنة ستة و تسعين ، على موعد مع التاريخ في السجون التونسية ، لقد شهد اكبر و انجع إضراب تم منذ أن جثم الظلم على صدر الخضراء....