كتبت هذه التأمّلات ونشرت أوّل مرّة في رمضان سنة 1425 ه، الوافق 29 أكتوبر 2004، وبما أنّ الموسمَ موسمُها
فقد سألت الله أن ينفع بنشرها ثانية... عبدالحميد العدّاسي
نحن اليوم بحاجة إلى الوقوف مع بدر والاعتبار من دروسها البالغة الأهمية، لعلّ من أهمّها تقوى الله وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله وترويض القلوب على الرقّة والوجل لتأهيلها إلى الاستزادة من الإيمان ومن حسن التوكّل على الله. علينا أن نقلع عن السلوك الروتيني القاعد والمتمثّل في اختيار غير ذات الشوكة، فهو وإن كان اختيار أغلبيّة البدريين الصادقين إلاّ أنّه قد أغضب الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر لِمَا فيه من النّزوع إلى القعود وعدم المجاهدة. ويوم نغيّر هذا السلوك ستتغيّر نظرتنا إلى أبي جهل لا محالة وسوف لن نعدم معاذا ولا معوّذا لوقف ظلمه وجبروته..
إصرار الظالمين - للنّاس أو لأنفسهم (وما من ظالم لغيره إلاّ وهو ظالم لنفسه) - على الظلم والبطر يتكرّر من لدن أبي جهل الذي قضى في السنة الثانية للهجرة إلى أبي جهل العصر، هذا الذي يعيش بين ظهرانينا في السنة 1425 للهجرة بفرق واحد: أنّ رجولة أبي جهل الأسبق كانت تزيد على رجولة أبي جهل الحالي بعدد السنوات التي تفصل بين التاريخين. واسمع هذا الحالي يقول: "والله لن نتراجع عمّا نحن فيه من التضييق على النّاس حتّى نزهّدهم في السياسة ونبغّضهم في الحريّة وفي المطالبة بها، وحتّى يُقلِعَ كلّ أبيّ عن الإباء، وحتّى يتخلّص كلّ رجل من الرّجولة وكلّ كريم من المروءة وكلّ امرأة من العفّة وكلّ شابّ من الطموح، وحتّى يسمع بنا السّادة الغربيون "الديمقراطيون" فيدركوا أنّنا لا زلنا على العهد محاربين للإرهاب بكلّ ما أوتينا من إرهاب، فلا يزالون يستعملوننا ولا يفكّرون في أحد غيرنا..". ولقد عرفت الله سبحانه يكره الظلم ويحرّمه على نفسه ويجعله بين عباده محرّما، ولذلك فقد قصم سبحانه وتعالى عمر الظالمين يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فكانت كثرتهم لا تخيف وتجهيزاتهم لا تُرهب وإعلامهم لا يوهّن وقعقعة سلاحهم لا تغطّي، ونصر عليهم القلّة بعدما علم منهم الإيمان الصادق والقلب الخاشع والدعاء الموقن والتوكّل الحسن والتسليم التّام والرّضا المختوم. ثمّ سرعان ما بلغت تباشير النصر المدينة فارتفعت التهاليل والأهازيج وسرعان ما بلغت المناعِي مكّة فأقيمت المآتم ونشطت البواكي والنّادبات.
غير أنّ شيئا فيها استوقفني طويلا، ذلك هو ما تمثّل في إصرار سادة قريش الكفرة - وعلى رأسهم فرعونهم أبو لهب - على مواصلة الطريق إلى بدر (وبدر مكان يقع على بعد 145 كم تقريبا، في الجنوب الغربي من المدينة المنوّرة) رغم انتهاء خبر نجاة قافلة أبي سفيان إلى مسامعهم، وهم الذين ما خرجوا بادئ الأمر إلاّ لمناصرة تلك القافلة وإبعادها عن خطر المسلمين الذين خرجوا لاعتراضها لأنّها كانت تحمل الكثير من أموالهم ومن الأموال التي ستستعمل في حربهم. قال أبو جهل: "والله لا نرجع حتّى نرد بدرا، فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور، ونطعم الطّعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا"...
بدر هي هذا، وكلّ ما يمكن أن يصل إلى أغواره كتّاب السيرة الكرام وقرّاء السيرة المتيّمين بالحبّ والهيام.
بدر الكبرى هي دعوة للدّفاع عن حقوق المستضعفين واسترجاعها من المغتصبين، وهي تمييز بين الحقّ والباطل، وهي امتحان للمؤمنين أمام ذات الشوكة وغير ذات الشوكة، وهي تطوير وتجديد لبيعة الأنصار الأولى، وهي مواقف رجولة ومنابر كرم وشهامة شُهدت مع أبي بكر وعمر والمقداد وسعد بن معاذ، وهي ساحة بطولة وفداء افتتحها حمزة وعلي وعبيدة، وهي مثال للشورى بين القائد وجنده، وهي بيان لتواضع القائد حين يقبل برأي الحباب بن المنذر، وهي نبوغ الرعيّة لمّا تغيّر الترتيبة القتاليّة، وهي ساحة لتنافس الشباب واندفاعهم إلى الخير من أمثال معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوّذ بن عفراء (قاتلا أبي جهل)، وهي مجال الرأي الصائب والنظرة البعيدة حين يقترح سعد بن معاذ بناء العريش، وهي ميدان الحبّ والعشق والصفاء، وهي طريق الخلود في الجنّة، وهي كذلك تطهير للنّفوس وارتقاء بالهمم، وهي مرجع تشريع واتّباع..
وبدر كغيرها من العلامات البارزة في تاريخ الأمّة تمثّل فرصة للتوقّف والتدارس والاستفادة، ففيها من الدروس ما كُشِفَ عنه وفيها ما لا يزال مستورا ينتظر النّاظرين في الآيات لإبرازه والاعتبار من نوره، وذلك لعمري سرّ هذه السيرة العطرة التي كلّما قرِئت كلّما كشفت عن معاني ودروس قد يزيد من جلائها الوضعُ المعيش الذي تمرّ به الأمّة أو المجموعة في أيّ قطر أو في أيّ إقليم.
رمضان كما عرفه المسلمون الصادقون هو شهر الطّاعات والقُربات، وهو شهر الرحمة وشهر المغفرة إلاّ لمن بَعُدَ، وشهر العتق من النّار لمن أراد الله لهم العتق، وفيه ليلة خير من ألف شهر هي ليلة القدر، وفيه يوم سمّاه القرآن الكريم يوم الفرقان هو يوم بدر الكبرى، تلك الغزوة أو المعركة الأولى التي لا زالت تذكّر النّاس بأنّ رمضان هو شهر الجدّ والجهاد وشهر العمل والاجتهاد.
تقبّل الله صومكم وبارك إفطاركم وجعلنا وإيّاكم ممّن كتب الله لهم الرحمة والمغفرة والعتق من النّار وكفانا شرّ الظالمين الجاهلين والمنافقين. آمين.