كالحالم الرقيق بالسير فوق السحاب .. والراغب بكل قوة للخروج من حالة الضيق في بلادنا المزدحمة إلى بلاد جديدة وآفاق أوسع .. كانت الرحلة الجوية إلى استنبول ترجمة حقيقية لذلك الحلم الذي طال انتظاره..فهبطت بأخمص قدمي إلى أرض تنبت بالسحر وطرت في آفاق دولة تنبض عروقها بالعزة والكرامة . لقد كانت رحلتي إلى مدينة الجلال والجمال، مدينة الجوامع والمآذن، مدينة المصانع والمداخن، مدينة المتاحف والحدائق، مدينة الجبال والبحار، مدينة الشرق والغرب، أو آسيا وأوربا، مدينة التاريخ المشرق، والحاضر المتألِّق، مدينة محمد الفاتح ورجب الطيب أردوغان إنها تركيا الجميلة ، توليفة من تاريخ الشرق وسحر الغرب .. فهي ربوة ذات قرار ومعين .. حتى من يمشون في شوارعها لا تثقلهم هموم الحياة كحالنا، بل تعرف في وجوههم نضرة النعيم . السحر هناك في كل شئ ، في الشوارع ، في الحدائق ، في الحوانيت ، في الفنادق ، حتى في أعماق النفوس ، ودروس الكرامة . بل وامتدت دروس الكرامة إلى نساء تركيا في أسطول الحرية واللاتي شاركن في صناعة الحدث التاريخي، بل وضعتها في قلب هذا الحدث وباتت من صانعيه وفي محور تداعياته، حيث وقفن جنبا إلى جنب مع هذا العدد الكبير من النّساء العربيات والمسلمات على متن أسطول الحريّة، وبرز الكثير منهن مثل الشّهيدة المغربية (كنزة) وكذلك الصّحافيات والمتضامنات الجزائريات والأخت السّورية والمقاتلات الكويتيات وزوجة الشّهيد التركية، ورأس الحربة أخت الرّجال حنين الزّعبي التي وقفت شامخة أمام عاصفة العنصريين في قلب الكنيست ولم يرمش لها جفن. تلك المشاركة المتنوعة في أسطول الحرية أعطت إشارات واضحة للكثيرين بأنّ المعركة الكبرى مع الإحتلال و العنصريّة والاضطهاد وقمع الشعوب ومنعها من اختيار ما تريد و العيش كيفما تريد، له أنصار وجنود كثر تتنوع دياناتهم وأعراقهم وتوجّهاتهم الفكرية والسياسية، وهذا ما بيّنه التّضامن الدولي الكبير والواسع مع المحاصرين والمقتولين في قطاع غزة، هذه الحقيقة تضع مسؤوليات كبيرة على صنّاع القرار في المقاومة الفلسطينية لإيجاد آليات مناسبة للتّواصل مع هؤلاء النّاس، الذين هبّوا لنصرة الشعب الفلسطيني ومقاومته فيما خذلها بعض الأقربين. وفي لقائه الأخيرمع المتطوعين قبيل ركوبهم سفينة المساعدات "مرمرة الأزرق" وكما تحدث في المؤتمر الأخيرللاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في استنبول كرر بولند يلديرم رئيس وقف المساعدات الإنسانية التركي قوله : "إن إسرائيل قد خططت لاعتقالنا، والتحقيق معنا، ولكنها لا تعلم أننا لن تستسلم، ولن نترك إخواننا المظلومين" وخاطب مئات المتطوعين الذين تحركوا من ميناء أنطاليا للحاق بقافلة سفن الإغاثة: " إن شاء الله سنصل إلى هدفنا، وإن شاء الله ستكون لنا إحدى الحسنيين. ولو تعرض اليهود أو النصارى لمثل هذا الظلم سنذهب أيضا لمساعدتهم. فنحن مع العدل والسلام. لأننا أصحاب قلوب وضمائر. والآن اتحدوا، وسيرفع ذلك الحصار إن شاء الله". وأكد يلديريم في كلمته أمام مؤتمر الاتحاد الذي شرفت بحضوره فقال:" إما بدر ، أو أحد، أو الحديبية. فلا تتردوا النصر سيكون حليفنا بإذن الله . ودعا بدوره العلماء ان يقودوا الامة للتوحد مجددا دعوة حلف الفضول التي تعنى بالتعاون بين كل الاديان للوقوف ضد الصلف الصهيوني.. وأعاد بولنت يلديريم رئيس وقف الإغاثة الإنسانية تصريحاته حول الاعتداءات الدموية الوحشية التي قامت بها إسرائيل ضد المدنيين في قلب المياه الإقليمية. وقال : كنا نصلي صلاة الفجر، وفوجئنا بجيوش مثل يأجوج ومأجوج، تهجم علينا من كل حدب وصوب، جوا وبحرا، مستخدمين شتى أنواع المركبات البحرية. فظننا للوهلة الأولى أنها مظاهرة إسرائيلية ضدنا، ولو كنا في المياه الإسرائيلية أو الفلسطينية لكنا أدركنا أننا نتعرض لهجوم عسكري. وفجأة هجموا علينا، وقاومهم أصدقاؤنا مقاموة المدنيين. وكان كل أجهزة ووسائل الإعلام في السفينة، فقلنا لنتكاتف ونمنعهم من الوصول إليها. ولكن الأمر تغير. وقال يليديريم أنه قال للجنود الإسرائليين خلال الاستجواب إنكم تديرون الأزمة بشكل خاطيء، فأجابوه ألم تهجم علينا بآلات حادة، فقلت لهم هذه عملية دفاع شرعي ضد هجوم بالمروحيات والزوارق العسكرية وفرق الكوماندوز. وواصل يلديرم شرح تفاصبل الواقعة فقال: وفي الدقيقة الخامسة والثلاثين تلقوا الأوامر باستخدام الذخيرة الحية، فأطلقوا النيران والقنابل الغازية. وأول رصاصة أطلقوها كانت رصاصة بلاستيكية، صوبلوها على أخينا جودت، فانتقل إلى جوار ربه شهيدا. وكان ضمن هيئة الإعلام، يقوم آنذاك فقط بالتقاط صور للطائرات الإسرائيلية وهي تطلق نيرانها علينا من فوقنا. وفجرت الرصاصة مخه. وأضاف يلديرم: وبدأنا نتلقى أخبار الشهداء من كافة أرجاء السفينة. وفي تلك الفترة استطاع إخواننا السيطرة على عشرة من الجنود الإسرائليين. وأخذنا أسلحتهم. ولو كنا استخدمناها لما عاب علينا أحد، فهو حقنا الشرعي والقانوني. ولكننا فضلنا عدم استخدامها وألقيناها في البحر. وقد سجل الاعلام هذه الوقائع. ولقد تبددت صورة قوة الجيش الإسرائيلي؛ حيث استطعنا أن نقول للعالم ثلاثة أو خمسة متطوعين بدون سلاح استطاعوا السيطرة على الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح. وتحدث يليديريم عن الوحشية الإسرائيلية فقال: خلعت قنيصي الأبيض ولوحت لهم به، ليتوقفوا عن الضرب ورغم ذلط استمروا في قتل إخواننا. كان في المرحاض جثتان لا نعلم من هما، ووقدمنا تسعة شهداء أتراك. ولدينا 38 جريح وليس 21 كما يقولون. ولا نريد أن يزيد عدد شهداؤنا أكثر من ذلك. لقد نقلنا إلى العالم الأحداث والووقائع عن طريق البث المباشر، وسيرى العالم أننا لم نخالف القانون في شيء. إنهم قتلوا إخواننا الذين سلموا أنفسهم لهم، وألقوا ببعضهم في البحر. وقتلوا الطبيب الذي كان معنا. ولولا النساء الذين كانوا معنا ما استسلمنا. وينقل يليديريم التعذيب الذي تعرضوا له، فيقول: اقتادونا إلى الطابق الثاني في السفينة، وأركعونا، وكبلوا أيدينا. ولم يسمحوا لأحد منا رجالا وأطفالا ونساء من الذهاب إلى دورة المياة. وجعلوا مروحية عسكرية تدور فوق رؤسنا عمدا، لمدة خمس ساعات، وتحمل المياه من البحر وتلقيها علينا ونحن طريحي الأرض مكبلين في الجو البارد. ويبدو أن كل إنسان من ركاب أسطول الحرية كان إرهابيا ومجنّدا لذبح الجنود الإسرائيليين الأبرياء، وكل حبة دواء أو قمح أو رز كانت شظايا لقنابل عنقودية، وأيضاً كل خيمة أو كيس أسمنت أو طوبة كانت هي الأخرى ألغاما قادمة من دول ومنظمات هدفها إزالة إسرائيل وتقديم شعبها قرباناً باسم كسر الحصار!! وهذه الصورة الراسخة في عقل وشعور كل إسرائيلي جعلته مستفزاً وحاقداً على كل من لا يحمل جيناته ودماءه وعقيدته.. ويبدو أن كلمة (حرية) التي حملت اسم الأسطول أزعجت إسرائيل فبادرت بإنزال الكوماندوز على الباخرة التركية، فقتلوا وأسروا وجرحوا، ثم بررت أن محاربيها هم من تعرضوا للرد المباشر عندما اقتحموا الباخرة، لكن بمعيار المكاسب والخسائر تعلمت إسرائيل أنها مهما دخلت في مواجهات دولية كالاعتداء على غزة ، وقتل المبحوح الذي كشف عن المتورطين وتزييف جوازات سفر دول صديقة لها، تأتي كردود أفعال غير مؤثرة، وهي ترى في اعتدائها على أسطول الحرية بنفس المبررات، غير أن الموقف ، وربما هذه المرة ، سيقود إلى رد فعل أقوى وأهم، لاسيما وأن المتضامنين مع الفلسطينيين هم من مختلف الجنسيات، ولا يحملون إلا موقفهم الإنساني، وعلى الأقل فقد ظهر وجه إسرائيل الحقيقي بصورة واضحة، ليس للحكومات والعناصر الداعمة لها، لكن لكل شعوب العالم وهي الفرصة التي لو استغلها العرب والمسلمون، بأن أقاموا الاحتجاجات والمظاهرات والرسائل لكل المنظمات الدولية، والمقاطعة لكل ما هو إسرائيلي بما فيها طرد السفراء والمندوبين لكان الموقف أكثر إيجابية.. سيناريو أسطول الحرية، المفترض أن يعيدنا إلى تلك الأجواء بحيث تجند قوى الإعلام والشارع والمنظمات الأخرى، بأن لا ننتظر احتجاجاً بارداً من دولة أوروبية، أو شبه حانية على هذا الموقف الإنساني، أو اجتماعات لمجلس الأمن والأمم المتحدة وغيرهما ممن أطعمونا الأوهام وأسقونا السراب، لأن الفعل المتضامن عندما يأتي من أمة، ومن خلفها عالم إسلامي وبمميزات عصر انتقال الحدث والمعلومة بأسرع وقت، كأسلحة لم نستخدمها، وهي مأساة وقصور في التعامل مع الأحداث بعقلية من يؤدي دور الرادع المعنوي إذا انعدم العسكري، وإسرائيل، مهما قالت فقد خسرت، أمام دبلوماسية تركيا والعالم، وهو درس مفيد لو أننا جعلنا من هذه الفرصة احتجاجات تصل إلى كل العالم المحبّ للسلام.. المنشاوي الورداني