كان الطابور أمام مركز الامن في مدينتي طويلا ، نفس الأشخاص الذين غادروا السجن ، هم انفسهم أمامي الآن ...إنهم ينتظرون دورا للإمضاء ... احتار الطاغية في كيفية أن يكون إلاه يعبد ، فاخترع هذه الطقوس ... أن تتوجه كل يوم إلى مركز الأمن تماما كما تفعل في توجهك للمسجد للصلاة ... من هنا يتسلل الشرك ...إن الطاغية يريد ان يكون شريكا لله في عباده ، فيقهر كل من أبى له الركوع ... كان ذلك يومي الأول لرحلة المراقبة ، إذ لا تكفي كثرة البوليس الذي ملأ الآفاق ، وشرايينه التي افسدت طعم الحياة .. تتطعمه مرا مع اللقمة ، وتحس (بالصبابة) إذ يلجون منخريك مع كل نفس وينام طيفه معك هنا ،في فراشك ، احلامك أيضا يغشاها يتخللها ، يغرز صورة البزة العسكرية فيها ... هناك في أول الصف ، محمود ، أعرفه ،كهل متقاعد من السجن ،غزا الشيب رأسه ، عيناه تشع بالصبر ..اعرفه قديما عندما كان موظفا بشركة الكهرباء ..يؤدي عمله بإخلاص من أجل اهله ومن أجل الوطن ... سحبوه إلى البرزخ ، ضيعوا ايامه و سفهوا احلامه ...لكنه لم ينحن ، ظل يقاوم في صمت ودون تأوه ..صحيح أنه يحمل جرحا ، عندما علم أن زوجه تلتقط اكياس الاسمنت الفارغة وهو في السجن ، كي تصنع منها اكياسا لتبيعها للتجار حتى تجد ما تنفق على العيال ،إذ انفض الأهلون عنها ... كان كلما يتذكر تلك الأيام ، يتأوه ويحوقل ...وعندما حدثته عن إحدى العائدات وكيف كانت تنفق بترف ، لم يعلق ..اكتفى بنظرة إلى فوق ...إلى السماء ... الكراس الكبير ، يحتل ربع سطح الطاولة ، الأسماء مرقومة بالقلم العادي ، وكذلك التواريخ ... وقعت ، سألوني إن كنت وجدت عملا ، او إن كانت تأتيني مساعدات من الخارج ، اجبته بالنفي ، وقلت له : بلا شك ستعلمون بذلك إن حدث .. صرخ احدهم بوجهي: أجب على قدر السؤال و إلا اريناك الصفحة الاخرى ...كان ردي مستفزا ايضا : و ماذا عساك ان تفعل ..أعرف كل الصحائف السود التي لديكم ... هذه الكلمة كلفتني المزيد ، امروني بأن آتي في المساء أيضا للامضاء ، وفي وقت محدد ... أصبحت بلا خيارات في الحياة ..أبحث عن قوت للعيال ، و ملزم بزيارة البوليس مرتين يوميا .. شيء ثقيل كان يمنعني ان اكون مثل علي البدوي ، كان كل مرة يخرج من السجن يرفض الإمضاء ، فيعيدوه إليه ، حتى تعبوا منه فتركوه ... عاش ابوه حرا في المنفى إلى ان مات ، وأرضعه الحرية ، فعاش بها ... لقد كان حرا بلا حدود .. اما انا فحر بحدود ، او فقل بحديد ... فالولد مجبنة ، والزوجة مجبنة ... وخبزهم ام الجبن ... اعرف صابر ايضا ، شاب نفد صبره ، كره الحلقة المفرغة التي وضعوه فيها ، كانت كحلقة الشيطان ، حطموا آماله ...أفرغوا حياته من محتواها ،، صبر و صبر ثم مل الصبر ، فكر ثم قدر ،أخفى موساه تحت سترته ، وقصد المقهى حيث يجلس رئيس المخفر ، ودون ان يسلم عليه ، غرس سكينه في جنبه ، ثم خرج بهدوء ليرمي نفسه من علو شاهق ليلقى ربه ... أعود ليلا إلى البيت ، الجو حزين مهما حاولت تلطيفه ، والدتي تذكر الله وتنزوي شيئا فشيئا ... زوجتي تقاوم وَهَنًا بدا على روحها .. بطالتي تزيد غربتي ... أفكر في غدٍ ... ارباب العمل يبحثون عن ثقات ..اعرف هذا ... ولكنهم يخافون هاتف المسؤول في اقليم الامن .. لمَ شغلته و انت تعرف ماضيه ؟ هل ضاقت عليك تونس لتشغله ... نعم كانت هذه الإسطوانه السرية ترهقنا و ترهق ارباب التجارة و العمل ... كانت كصوت قادم من الجحيم ... كوخز في الآذان بالإبر .. ليس هناك قانون يمنعنا من الشغل و لا من تشغيلنا ... غير أن بلدي تحولت إلى نظام الاقنان .. الدائرة الحزبية ، ثم الدائرة الأمنية ، و ما تفرع عنهما ، يقرران جوع الناس و شبعهم .. لك مثلا أن تفتح دكانا .. انت حر ..لكن ان يكون لك زبائن مخلصون ، فهو أمر بعيد المنال ... كل من تردد عليك ،ربما لجهله بماضيك ... سيعلمونه بود : نحن ننصحك أن تبتعد عنه .. دعك من المشاكل ...كلمتين خفيفتين في اللسان ثقيلتين على الآذان.. عندها يصفر وجه حريفك ، قد تصطك اسنانه ... ترتعد فرائصه ..ثم ينسى دكانك و الشارع ..نعم ، هكذا كانوا كالشيطان ، لا ينصحون إلا بالخراب ... يتبع بإذن الله