تحتفل المساجد في رمضان بكثرة روادها... وتتزيّن باستقبال أئمّة من الديار العربيّة، وقد أكرمنا الله هذه السنة بالأخ الإمام الشاب الخلوق إبراهيم الشايب من مصر...الذي سعى بعد دورة حول الأفق سريعة إلى تناول المواضيع التي رآها ببصيرته تتناسب مع شأن المغتربين في مسجدنا، فاهتمّ أوّل ما اهتمّ بالصلاة متحدّثا عن المخالفات الشرعية بخصوصها... كعدم إجابة النّداء أي عدم الصلاة في المسجد (مشدّدا على ذلك بقصّة الأعمى مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فعن عمرو بن أم مكتوم رضي الله عنه قال جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إنّي كبير ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلاومني (يعني لا يلائمني أي لا يوافقني) فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي قال: أتسمع النداء؟ قال: نعم! قال: ما أجد لك رخصة)، وعدم الخشوع في الصلاة، وعدم متابعة الإمام (مشدّدا على ذلك أيضا، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مَا يَأْمَنُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ صُورَتَهُ فِي صُورَةِ حِمَارٍ...وعنه أيضا في رواية أخرى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَجْهَ حِمَارٍ)، وعدم حسن أداء الأعضاء ركوعا وقياما منه وسجودا مشدّدا على إقامة الصلب عند رفع الرّأس من الرّكوع وعلى السجودعلى السبعة أعظم (وهي الجبهة والأنف "1"- الكفّين "2"- الركبتين "2"- أطراف القدمين "2" = 7 )، رفع الأصوات في المسجد... وقد تطرّق إلى سلسلة أخرى سمّاها "محطّات تنقية المسلم" ذاكرا أنّها كثيرة ولكنّ علماءنا الأجلاّء توقّفوا عند إحدى عشرة منها مهمّة، أربع منها في الدنيا وثلاث في الفاصل بين الدنيا والآخرة (البرزخ) وأربع أخرى في الآخرة... وقد فرغ فضيلته من أربع الدنيا - ونحن لازلنا بالدنيا - وعسى الله أن يطيل أعمارنا فنعلم منه ما تبقّى... فعدّ التوبة وأوسعها شرحا، ثمّ الاستغفار والجميع - أحسب - يحفظ الكثير عن الاستغفار -، ثمّ المصائب والبلايا إذا استقبِلتْ بما يليق بها من المؤمن، أي بالصبر (قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، ومن هنا نعلم أنّ "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" ليست خاصّة بالموت، وآخرها حسنات يذهبن السيّئات وكفى بالله شهيدا القائل:"وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ"...
وبعد!... فسأظلّ متابعا للشيخ بإذن الله وأحرص على نقل ملخّص ما يقول عسى الله أن ينفع به قارئا أو سامعا أو مبلّغا... وتقبّل الله صومكم وبارك إفطاركم... وإلى لقاء بإذن الله...
يتبع بإذن الله تعالى...
تنبيه: نبّهني الشيخ إلى إنّها إحدى عشرة محطّة، ما يعني أنّي لمّا ذكرت السبع كما كان في النصّ - وقد أصلح - أنّني إنّما ذكرت أربع الدنيا وثلاث البرزخ دون ذكر أربع الآخرة، لذلك وجب الإصلاح والاعتذار لدى حضراتكم!...
ثمّ نواصل....
بسمل فضيلته وحمد الله وصلّى على الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ثمّ ذكر قصة الصياد مخبرا بذلك أو مذكّرا.... ولمن غابت عنه القصّة فإنّ بحّارا فقيرا - يرجو أن يبيت كالاّ من عمل يده كي يغفر له ربّه، وكي يتعفّف وينشّئ أبناءه على العفاف والعفّة – قصد البحر وألقى بشباكه يرقب ما يقع فيها من سمك يقتاته هو وزوجه وأبناؤه أو يبيعه فيشتري بمقابله ما يسدّ به الرمق... وقد ظلّ على تلك الحال حتّى أزف النهار دون أن يرزق ولو سمكة واحدة... غير أنّ إيمانه بالله منعه اليأس فقرّر رمي شباكه للمرّة الأخيرة عسى الله أن يدركه برحمته هذه المرّة... وفي أواخر سورة يوسف قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا"، فلمّا سحب الشباك وجد قد تعلّقت بها سمكة غريبة أيقظت إعجابه.... وإذ دخل في حديث مع نفسه يخطّط كيف يُدخل بالسمكة الفرحة على أهله، شاء الله تعالى أن يمرّ في تلك اللحظة ملك البلاد ومالكها فيعجب بالسمكة أيّما إعجاب ويقرّر أخذها عنوة دون أن يفكّر في شأن ذلك الماسك بها، المتوقّف شأن يومه عليها...
لنترك البحار الفقير لفقره وألمه وخصاصته وفاجعته في السمكة، ولنتابع الملك... فقد ولّى منتشيا ماشيا على الأرض مرحا، وأمر - وأوامره تنفّذ قبل الصدور – بتهيئة السمكة على الوجه الذي يُرضي الملوك... ولئن استجاب كلّ من في القصر وخارجه للأوامر العليّة، فقد رأت السمكة المشوية – وهي أحد جنود ربّ العالمين - غير ذلك، فخدش سرب من شوكها يد الملك خدشا رأى فيه الأطبّاء آثار الأكلة (السوس الذي يصيب العِظام)، ورأوا أن لا مقاومة للأكلة إلاّ بالقطع، فقرّروا قطع الذراع التي استشرت فيها... غير أنّ القطع جاء متأخّرا فقد تجاوزت الأكلة الذراع ولله في خلقه شؤون...
عندها حاول الملك تذكّر ما قد يكون سببا لهذه المصيبة المفاجئة... فتذكّر بفضل الله – إذ الملوك في ديارنا لا يتذكّرون وإن ذُكّروا – قصّته مع البحّار، فسارع إلى مَلَئِه – ولكلّ ملك ملأ - يطلب منهم استقدام البحّار بأيّ وسيلة وفي أقرب فرصة ممكنة... فلمّا حضر استرضاه واستسمحه واستغفره كي يستغفر الله سبحانه وتعالى له، ثمّ بعد ذلك طلب أن يعلمه ما الذي فعله كي يصاب هو بالأكلة... فأجاب البحّار – يقول الشيخ وهذا بيت القصيد ومربط الفرس من سرد القصّة – قال البحّار: "اللهمّ إنّ هذا قد أراني قوّته فيّ فأرني يا ربّي قوّتك فيه".... لا إله إلاّ الله ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله... سبحان الله الحيّ القيّوم... إنّا لله وإنّا إليه راجعون... كلمات قيّمة ردّدها الحضور فرحا بنصرة ربّهم أخيهم البحّارالضعيف...
يقول الشيخ: ونحن في رمضان فلا تتردّدوا في سؤال الله مسائلكم... كلّ مسائلكم... فإنّه كما جاء في الحديث القدسي في صحيح مسلم، عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: "يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر..."، ولكن عليكم مع ذلك أن تقتدوا بسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه فتكونوا مثل سعد في أقواتكم فتطيّبوها كي يكون الدّعاء إن شاء الله مستجابا... فقد قام سعد وقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال. "يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إنّ الرجل ليَقْذفُ اللقمة الحرام في جَوْفه ما يُتَقبَّل منه أربعين يومًا، وأيّما عبد نبت لحمه من السُّحْت والربا فالنار أولى به"... صدقّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأحسن الشيخ وأجاز، فجزاه الله عنّا خيرا... وإنّي لأطمع منكم في الدعاء... وإلى لقاء بإذن الله...
ملاحظة: كلّ المضمون من الشيخ الجليل بارك الله في علمه، وأمّا التعبير فهو بقلمي، فإن ارتقى إلى ما قال الشيخ فالحمد لله ربّ العالمين وإن بطّأت به حروفه، فلا حرج على المتعلّم من التعثّر إذا كان مقصده التعلّم... والله أسأل أن يجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه...
يتبع بإذن الله...
انقطعت الموعظة هذه الأيّام لانقطاع حضور دائرتها...
كنت في حاجة إلى الدرس وأخذ الموعظة من الشيخ ونقلها إليكم، وأحسب أنّكم كنتم ذوي رغبة كذلك في قراءة نصّها، ولكنّ الله قدّر وما شاء فعل... فقد حُبست عن المسجد هذه الأيّام بسببٍ أسال الله أن يجعل فيه خيرا كثيرا..
لكنّي بالمقابل توقّفت مع موعظة هيّأتها الظروف التي أمرّ بها، فقد ذكرت قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الذي ذكره مسلم في المساقاة، في باب أخذ الحلال وترك الشبهات: "إنّ الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعِرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنّ لكل ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه، ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"... فقد كنت أفهم – كما يفهم جلّ النّاس إن لم يكن كلّهم – شطر الحديث على المعنى المرتبط بسلامة القلب... تلك السلامة التي تنجي صاحبها يوم لا ينفع مال ولا بنون... فالقلب السليم هو القلب الذي يحرص دائما على شرط قبول العمل... فتراه يجري وراء الإخلاص والصوابيّة المتمثّلة في الاتّباع... فإذا حرص المسلم على خلوص العمل لله وصوابيته أي أدائه على الوجه الذي بيّنه لنا رسول الله صلّى الله عليه وسّلم، كان القلب سليما، أي كان مضغة صالحة (والمضغة هي قطعة لحم) فصلح به الجسد كلّه، فلا يدٌ بطشت ولا عينٌ خانت ولا رجلٌ مشت في معصية الله ولا لسانٌ تجاوز ففجر، وهكذا...
قلت كان هذا هو فهمي لمعنى صلاح تلكم المضغة، ولكنّي اليوم – وأنا على السرير الأبيض وباللباس الأبيض – أنتبه إلى معنى ثانٍ، وهو عندي صحيح ومكمّل للمعنى الأوّل، ولعلّه – إن استقام – يأتي مبيّنا لمعنى أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قد أوتي جوامع الكلم، فقد جاء في الحديث الصحيح حسن الإسناد الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أوتيت جوامع الكلم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"... وهو المعنى المتحدّث عن الصلاحيّة من حيث الوظيفةُ العضلية العاملة على ريّ الجسد بالدم عبر ما مدّ الله سبحانه وتعالى فيه من عروق وشرايين للغرض... فقد يكون المرء ذا بنية معتبرة وقامة فارهة وهيأة مهيبة... ومع ذلك كلّه فقد يفشل في أداء أيّة وظيفة إذا "فسد" قلبه، أعني إذا انتاب قلبه ما يعكّر صفوه أو يمنع انسياب الدم منه وإليه بصورة عادية كالتي هيّأها الخالق سبحانه وتعالى قبل أن يركب القلب العوامل المؤثّرة عليها!...
والقلب عالم فسيح، إذا فهمناه بذلنا الجهد لاجتناب كلّ ما "يسيء" إليه... ولكنّ الواقع المعيش قد يفرض على كلّ من له قلب "الإساءة" إلى القلب كي يحيى بحياة القلب وكي يحافظ على صلاح المضغة بالمعنى الأوّل المتداول...، إذ ما صلحت لجسده مضغةٌ ذلك الذي لم يتفكّر فيما حوله ولم يهتمّ بأمر المسلمين...
وعليه فقد بتّ شبه موقن أنّ الكثير من النّاس قد يكونون عرضة ل"فساد" قلوبهم إذا ما صلحت مضغ أجسادهم!... وحسبنا الله ونعم الوكيل، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون... ونسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدّائمة في الدنيا والآخرة...