كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر نقطة تحول محورية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه المنطقة العربية بشكل عام والحركات الإسلامية بشكل خاص، وما جرى ويجري الآن في كل من العراقوسوريا وليبيا واليمن يمثل نتائج مباشرة لهذا التحول. الحكومات أظهرت عجزًا ولا يمكن بأي حال تفسير الأوضاع في المنطقة العربية تحديدًا إلا في ضوء المتغيرات التي جرت في السياسة الخارجية لأميركا من بوش الابن إلى باراك أوباما، وأخيرًا دونالد ترمب. فمن الحرب على الإرهاب ومساندة النظم الحاكمة.. إلى تشجيع تصاعد حركات الإسلام السياسي وجماعاته، كالإخوان المسلمين وغيرهم... إلى ما نشهده الآن، ولا تكاد ملامحه تظهر بوضوح، خاصة مع وجود إشارات إلى تسليح بعض الجماعات في سوريا. هذا التحول في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقاتها مع حركات الإسلام السياسي منذ أحداث 11 سبتمبر، يشكل المحور الرئيس في هذه الدراسة "أميركا وحركات الإسلام السياسي منذ سبتمبر 2011"، الصادرة من دار العربي للنشر لأستاذ العلوم السياسية د.أيمن محمود السيسي، الذي رأى أنه بينما كانت سياسة الولاياتالمتحدة قبل ذلك التاريخ أكثر توافقًا مع مقولات المدرسة الواقعية، القائمة على تفضيل المصالح الاستراتيجية على شواغل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، وما نتج منها من تركيز كل اتصالاتها ودعمها للنظم الرسمية، وإهمالها الجانب الديمقراطي، على اعتبار أن الحكومات هي الفاعل الوحيد القادر على تحقيق الاستقرار والمصالح الأميركية، غير أن صعود الحركات الإسلامية المتطرفة المرتبطة بتنظيم القاعدة وما ترتب عليها من تصعيد العمل المسلح ضد الولاياتالمتحدة توّج بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، أظهر عجز هذه الأنظمة في الاضطلاع بمسؤولياتها؛ وأنها لا تمثل الفاعل الوحيد على الساحة العربية، أثرًا لذلك حدث تحولًا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة قائمًا على إنهاء الوضعية الاستثنائية التي تتمتع بها هذه الأنظمة. التربة الصالحة للتطرف وقال السيسي إن هناك العديد من تصريحات النخب السياسية والوثائق الرسمية تؤشر إلى أن هناك مراجعة جذرية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه العالم العربي والإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأن ثمة إدراكًا متناميًا في صفوف النخب السياسية في الولاياتالمتحدة يتمحور حول أن إصلاح المنطقة العربية مسألة حيوية للاستقرار والأمن الإقليمي بعيد المدى، على اعتبار أن استمرار الوضع القائم يغذّي السخط الشعبي، ويقدم أرضية خصبة لنمو التطرف. في هذا الإطار يرى بريجنسكي أن الحكومات الفاشلة هي التربة الرئيسة التي تولد التطرف الإسلامي، والسياسات الخاطئة لهذه الحكومات هي التهديد الرئيس لمصالحنا الاستراتيجية، وقد فشلت الحكومات والأحزاب العلمانية في توفير أنماط مستقرة للتنمية الاقتصادية والبنية الأساسية اللازمة لإجراء تغير اجتماعي ضخم. أضاف أن الخطاب الرسمي للولايات المتحدة أيضًا تضمن الدعوة إلى إصلاحات بنيوية، تطالب بضرورة التغيير الشامل في المنطقة العربية؛ فمبادرة الشرق الأوسط الكبير تستند إلى ثلاث ركائز أساسية: تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح، وبناء مجتمع المعرفة؛ وتوسيع الفرص الاقتصادية، وفقًا لهذا المنظور أضحى الإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي للشرق الأوسط حجر الزاوية في الحرب على الإرهاب. متراخون... وحازمون وقد أعدت وزارة الخارجية برنامج "دعم الإصلاح" لسد نقص الديمقراطية في الشرق الأوسط. إن التغيير في الخطاب الرسمي للولايات المتحدة باتجاه المزيد من الإصلاح السياسي وتعزيز الديمقراطية يفتح الباب نحو إمكانية تفاعل الولاياتالمتحدة مع الحركات الإسلامية المعتدلة، التي تنبذ العنف، وتتبنى الوسائل السلمية لتحقيق أهدافها، بما يمثل نقيضًا لخبرة الماضي القائمة على إهمال وتهميش هذه الحركات. أثرًا لذلك تباينت الآراء داخل المؤسسات الرسمية حول التعامل مع حركات الإسلام السياسي، وتمحورت حول تيارين رئيسين: الأول تيار "التراضيون"، الذي يميّز بين حركات إسلامية معتدلة وأُخرى متطرفة، وأن الوقت قد حان لتبني سياسة قبول الحركات الإسلامية المعتدلة كفاعلين وشركاء محتملين في الشرق الأوسط، على أساس أن هذه السياسة هي البديل الذي يمكن من خلاله مواجهة رؤى الحركات الإسلامية المتطرفة المرتبطة بتنظيم القاعدة، والثاني التيار المتشدد، الذي يضع جميع الحركات الإسلامية في سله واحدة من دون التمييز بين الحركات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة؛ يتخذ هذا التيار موقفًا متشددًا تجاه الحركات الإسلامية، ويرى أن جميع الإسلاميين، وإن اختلفوا في التكتيكات، فإنهم يتفقون في الغايات، ديمقراطية لمرة واحدة وقيام دولة أصولية، ويدعو هذا التيار إلى التحالف مع الليبراليين والعلمانيين ضد الإسلاميين. ولفت إلى أنه في هذا السياق تمت صياغة مواصفات وشروط رئيسة تميّز الحركات الإسلامية المتطرفة عن الحركات الإسلامية المعتدلة التي يمكن أن تشارك في العملية السياسية، تمحورت هذه الشروط حول القبول بالديمقراطية والتعددية، ونبذ العنف لتحقيق أهداف سياسية، احترام وحقوق الإنسان والحريات الدينية وحقوق المرأة وحقها في التعليم. تحت راية الديمقراطية ورأى السيسي أن الخطاب الرسمي للولايات المتحدة أشار إلى أنها تبنت مقاربة جديدة باتجاه تبني سياسة قبول الحركات الإسلامية كفاعلين وشركاء محتملين في الشرق الأوسط، مع إمكانية إدماجهم في الحياة السياسية، ففي العام 2001 أكد ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية أن "الولاياتالمتحدة مستعدة لدعم ومساندة العملية الديمقراطية، حتى لو كانت النتائج غير مرضية". أضاف: "ونحن ندرك أن الانتخابات الحرة في البلدان العربية يمكن أن تقود الأحزاب الإسلامية إلى السلطة، فالولاياتالمتحدة لا تعارض الأحزاب الإسلامية" بوصفها كذلك، وفي العام 2005 جاء حديث كونداليزا رايس وزير خارجية الولاياتالمتحدة أكثر وضوحًا باتجاه قبول الحركات الإسلامية في السلطة، بقولها "الولاياتالمتحدة لا تخشى وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة عبر انتخابات حرة في العالم العربي". وقد أكد الرئيس باراك أوباما في خطابه عام 2009 في جامعة القاهرة على السياسة نفسها قائلًا: "إن أميركا تحترم حق جميع من يرفعون أصواتهم حول العالم للتعبير عن آرائهم بأسلوب سلمي يُراعي القانون، حتى لو كانت آراؤهم مخالفة لآرائنا، وسوف نرحب بجميع الحكومات السلمية المنتخبة، شرط أن تحترم جميع أفراد الشعب في ممارستها للحكم. وأكد أن خطاب أوباما في القاهرة أشار إلى أن هناك انفتاحًا أميركيًّا على الحركات الإسلامية، ويحمل الخطاب في طياته طمأنة للحركات الإسلامية إلى أن "الولاياتالمتحدة سترحب بكل الحكومات التي تنتخب ديمقراطيًّا وبطريقة سلمية"، بما يمثل تغيرًا في السياسة التي تبنتها إدارة بوش الابن مع الحركات الإسلامية التي فازت في انتخابات ديمقراطية، كحركة حماس والإخوان المسلمين في مصر، وقلصت دعم برامج الديمقراطية بعد فوزهم في الانتخابات البرلمانية. تمايز إسلاموي فكلمات أوباما تُشير إلى اعتراف الولاياتالمتحدة بنتائج الانتخابات الديمقراطية التي فازت فيها الحركات الإسلامية، غير أن ذلك مقرون بإعلانها التخلي عن العنف كإحدى أدواتها السياسية، والالتزام بمبادئ العملية الديمقراطية. من ناحية أخرى فإن المواجهة بين الولاياتالمتحدة الأميركية والحركات الإسلامية المسلحة أدت إلى بروز التمايز بين هذه الحركات وحركات الإسلام السياسي، التي تطالب بالإصلاح السياسي، وتقبل العمل ضمن الأطر السياسية القائمة، مثل الإخوان المسلمين، التي قبلت الممارسة الديمقراطية وفكرة حرية تشكيل الأحزاب السياسية، ودخول معترك الانتخابات، والتنافس السياسي السلمي في مصر والمغرب. وأشار السيسي إلى أن الاستراتيجية الأميركية قد اعتمدت في تعاملها مع الثورات العربية على التكتيك المرحلي والتغير في المواقف بحسب الظرف الذي تواجهه، بما يعني استمرار حالة عدم الاتساق والتباين في رؤية وممارسة الولاياتالمتحدة الأميركية لكيفية تنفيذ الخطوط الإرشادية العامة للولايات المتحدة الأميركية تجاه الحركات الإسلامية في منطقة الشمال الأفريقي، بما ينعكس سلبًا على آليات تكوين علاقات استراتيجية، وكذلك على فاعلية المنظومة المؤسساتية للولايات المتحدة الأميركية. خشية فقدان السيطرة تابع: إضافة إلى ذلك، وعلى الرغم مما تتيحه الثورات العربية من فرصة للولايات المتحدة الأميركية للتصالح مع الشعوب العربية عن طريق تحالف جديد يستبدل تحالفاتها السابقة من أنظمة الحكم العربية، ترى بعض المؤسسات الأميركية أن الثورات العربية عرّضت المصالح الأميركية في المنطقة العربية والشمال الأفريقي للخطر، وبالتالي فإن الولاياتالمتحدة الأميركية باتت تخشى أن تكون أمام أنظمة جديدة مع منطقة الشمال الأفريقي تصعب إعادتها إلى التبعية أو تطويعها في خدمة المصالح الأميركية الاستراتيجية. وقال إن تجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحركة النهضة في تونس تؤشر إلى أنه بمجرد وصول هاتين الحركتين الإسلاميتين إلى الحكم عملتا على إعادة تشكيل نظام الحكم لضمان سيطرتهم وبقائهما باستخدام وسائل وآليات مختلفة، بما يؤشر إلى الغموض في الرؤية لدى الحركات الإسلامية لقضاء الديمقراطية والتعددية السلمية، الأمر الذي يتناقض مع رؤية أميركا القائمة على تحقيق الأمن والاستقرار، من خلال إدماج الحركات الإسلامية في العملية السياسية، والعمل ضمن قواعد اللعبة السياسية، وليس دفعها بديلًا من النظم الحاكمة. وأكد أن الواقع في فشل حكم الحركات الإسلامية هو أن هذه الحركات لم تستوعب طبيعة اللحظة التي انتقلت فيها من المعارضة إلى الحكم، وظلت تنظر إلى نفسها على أنها ضحية مؤامرات الدولة العميقة والإعلام والقوى الخارجية، ولم تنظر إلى أدائها في السلطة وصورتها لدى قطاع واسع من الشعب.