لم يعد خافيا ومنذ فترة طويلة نسبيا أن الشقاق دبّ بين صفوف حركة النهضة ونشبت خلافات عديدة بين عدد كبير من قيادات الصف الأول، حتى أن تقسيم النهضويين إلى صقور وحمائم لم يعد دقيقا بشكل كبير كما كان عليه في الماضي. الصقور والحمائم انقسمت بدورها إلى أسراب متناقرة ومتنافرة. وما رجح للأعلام وللرأي العام ضئيل جدا مقارنة بحقيقة الوضع الداخلي. غير أن ما لفت انتباهنا عشية جلسة سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي هو حجم الالتفاف حول "الشيخ الرمز" لدى النهضويين وقفزهم فوق خلافاتهم وعضهم على جراحهم لتبدو مواقفهم متجانسة كلها تصب في اتجاه الدفاع عن أحقية الغنوشي بمنصب رئيس مجلس نواب الشعب. ومن لا يعرف عقلية "الجماعة" وميكانيزماتها تفاجأ بموقف عبد اللطيف المكي القيادي النهضوي الأكثر مناكفة للغنوشي والأشد اعتراضا على بقائه على رأس الحزب بعد المؤتمر القادم. فالمكي اعتبر في تدوينة نشرها على صفحته على الفايسبوك أن عريضة سحب الثقة من راشد الغنوشي لن تنجح لأنها في تقديره "تغذي الصراع والتصادم وتجعل البلد هشا أمام التدخلات الخارجية". كما أن القيادي الآخر الأكثر منافسة للغنوشي على منصب رئاسة الحزب، علي العريض انبرى مدافعا عن ضرورة بقاء الغنوشي رئيسا للبرلمان معتبرا سحب الثقة من الغنوشي بمثابة "خطوة أخرى لدعم قوى الردة على الثورة التونسية. وفضلا عن كون القيادييْنن اللدوديْن للغنوشي داخل حركة النهضة تحولا إلى صديقين ودوديْن له خارجها، مستخدمين أدوات الترهيب من قبيل التدخل الخارجي وعودة النظام القديم، فإن الرجليْن – المكي والعريّض- في حقيقة الأمر لا هما عدوان ولا صديقان للغنوشي، بل هي البراغماتية المتوحشة التي تُعرف بها الليبرالية عموما والجماعات اليمينية المتدينة بشكل خاص جعلت منهما ومن عديد أغلب النهضويين يلتفون حول الرمز وليس حول الشخص. فالمرشد لدى جماعة الإخوان المسلمين مثلا هو مكانة مرموقة ومنصب اعتباري يُحاط لدى المُريدين بكثير من القداسة. لذا يعتبر النهضويون أن وصول راشد الغنوشي إلى منصب رئيس البرلمان هو تمكين لحركة النهضة لإحدى أهم مؤسسات الدولة وأهم السلطات في البلاد ألا وهي السلطة التشريعية. وسحب الثقة من الغنوشي تعني بالنسبة إليهم سحبا للبساط من تحت أقدام حركة النهضة، متناسين أن راشد الغنوشي هو في نهاية الأمر نائب شعب بالمجلس انتخبته كتلته ومن والاها داخل مجلس نواب الشعب لمنصب رئيس المجلس. كما أن النظام الداخلي للمجلس لا يفرض بقاء رئيس المجلس طيلة الفترة النيابية في منصبه بل قد يعود إلى مقعده الأصلي كنائب كلما سنحت الفرصة. يعني أن منصب رئيس البرلمان ليس صكا على بياض ولا بيْعة أو مبايعة للغنوشي في اليسر والعسر والمَنْشط والمَكْره كما تعتقد الجماعات الإسلامية. في النهاية هو درس للديمقراطية التونسية إنْ سُحبت الثقة أم لم تُسحب، فالأهم هو تمرير رسالة أنْ لا أحد فوق القانون ولا علوية إلا للدستور ولا ولاء إلا للدولة التونسية. ومن يخالف عقيدة الوطن مآله الإبعاد وسحب الثقة أو التشهير والتنكيل كأضعف الإيمان في حال لم تنجح عريضة سحب الثقة. وحسبُ الديمقراطيين فخرا أنهم نجحوا في تكريس آلية ديمقراطية داخل برلمان طغت عليه الألوان الدينية والشعارات الطائفية.