السعودية: انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة "أكساد"    منظمة إرشاد المستهلك:أبلغنا المفتي بجملة من الإستفسارات الشرعية لعيد الإضحى ومسألة التداين لإقتناء الأضحية.    الحماية المدنية:15حالة وفاة و500إصابة خلال 24ساعة.    المدير العام لبيداغوجيا التربية:الوزارة قامت بتكوين لجان لتقييم النتائج المدرسية بداية من السنة الدراسية القادمة.    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    حكم الشرع للتداين لشراء الأضحية.. التفاصيل    الهواتف الذكية تتجسس على البشرية وعلى التفاصيل اليومية ماالقصة ؟    فوز التونسي محمد خليل الجندوبي بجائزة افضل لاعب عربي    عمال المناولة بمطار تونس قرطاج يحتجون    بدرة قعلول : مخيمات ''مهاجرين غير شرعيين''تحولت الى كوارث بيئية    مجاز الباب: تفكيك وفاق إجرامي.. التفاصيل    أعمارهم بين 13 و16 سنة.. مشتبه بهم في تخريب مدرسة    أول بؤرة للحشرة القرمزية في القصرين    يهم محبي القطط : آثار ضارة على الصحة العقلية و دراسة على الخط    جدل حول آثار خطيرة للقاح أسترازينيكا مالقصة ؟    الرابطة المحترفة الاولى – مرحلة التتويج – الجولة 6: جولة القطع مع الرتابة    البحيرة: إخلاء محيط مقر مفوضية شؤون اللاجئين من المهاجرين الأفارقة    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الجمعة 3 ماي 2024    حفاظا على توازناته : بنك تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة يرفع رأس ماله الى 69 مليون دينار    الرابطة الأولى: تعيينات حكام مقابلات الجولة الأولى إيابا لمرحلة التتويج    البطولة الوطنية : تعيينات حُكّام مباريات الجولة الثانية إياب من مرحلة تفادي النزول    معهد الصحافة يقرر ايقاف التعاون نهائيا مع مؤسسة كونراد أديناور الألمانية بسبب دعمها للكيان الصهيوني    مقتل 20 شخصا على الأقل جراء حادث سقوط حافلة في واد بهذه المنطقة..#خبر_عاجل    زلزال بقوة 4.2 درجة يضرب إقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان    اليونسكو تمنح جائزة حرية الصحافة للصحافيين الفلسطينيين    نبيل عمار يستقبل البروفيسور عبد الرزاق بن عبد الله، عميد كلية علوم الكمبيوتر والهندسة بجامعة آيزو اليابانية    حالة الطقس ليوم الجمعة 03 مارس 2024    إيقاف 3 أشخاص من بينهم مفتش عنه من أجل السرقة وحجز 3 قطع أثرية بحوزتهم    طقس اليوم الجمعة    عاجل/ الأمن يتدخل لاخلاء محيط مقر مفوضية شؤون اللاجئين في البحيرة من الأفارفة..    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    بلدية تونس: حملة للتصدي لاستغلال الطريق العام    تشيلسي يفوز 2-صفر على توتنهام ليقلص آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    العمل شرف وعبادة    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    "أنثى السنجاب".. أغنية أطفال مصرية تحصد مليار مشاهدة    إصابة 8 جنود سوريين في غارة صهيونية على مشارف دمشق    الجامعات الغربية تخاطب النظام العالمي الأنغلوصهيوأميركي.. انتهت الخدعة    بايدن يتحدى احتجاجات الطلبة.. "لن أغير سياستي"    أبناء مارادونا يطلبون نقل رفاته إلى ضريح في بوينس آيرس    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنان عبد الله الشاهد    وفاة الممثل عبد الله الشاهد‬    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    قضية التآمر على أمن الدولة: رفض مطالب الافراج واحالة 40 متهما على الدائرة الجنائية المختصة    صفاقس : غياب برنامج تلفزي وحيد من الجهة فهل دخلت وحدة الانتاج التلفزي مرحلة الموت السريري؟    الترجي يقرّر منع مسؤوليه ولاعبيه من التصريحات الإعلامية    شوقي الطبيب يرفع إضرابه عن الطعام    البنك المركزي يعلن ادراج مؤسستين في قائمة المنخرطين في نظام المقاصة الالكترونية    بحّارة جرجيس يقرّرون استئناف نشاط صيد القمبري    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    إرتفاع أسعار اللحوم البيضاء: غرفة تجّار لحوم الدواجن تعلق وتكشف..    بنزيما يغادر إلى مدريد    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    يهم التونسيين : حيل منزلية فعالة للتخلص من الناموس    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    القيروان: إطلاق مشروع "رايت آب" لرفع الوعي لدى الشباب بشأن صحتهم الجنسية والانجابية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البورقيبيّة و"نداء تونس" واستئناف معركة التحديث المعطوبة

إنّ نظرة ولو سريعة في تاريخ تونس الحديث وفي طبيعة المجتمع التونسيّ كافية لتثبت أنّ هذا المجتمع ميّال إلى الوسطيّة وأنّه لا يدار بإيديولوجيا دوغمائيّة منغلقة دينيّة يمينيّة كانت أو يساريّة. ولذلك نجح بورقيبة في حكم تونس بعد الاستقلال رغم الظروف العسيرة ورغم أخطائه الكبيرة. كان يناقش أعقد القضايا ويفكّر في أشدّ المسائل تركيبا، وفي الوقت ذاته، يخاطب النّاس فيها بأبسط الخطابات والأساليب التي يفهمها الجميع، في حين كان لا يتواصل مع وزرائه بغير الفرنسيّة. ولم تكن تسمع في خطاباته كلمة فرنسيّة واحدة مع إتقانه الفرنسيّة إتقانا، فهو يقرأ بها ويكتب. فلا تسل عمّن يرطن بها بشكل تلمذيّ هزليّ كان جمهور السّامعين يضحك حينا ويتأثّر حينا وهو يستمع إلى بورقيبة يخطب فيه. وفي الحالتين كان يستمتع ويقتنع رغم المسرحة الظاهرة التي يمارسها الزعيم الخطيب على المنصّة. كان لكلّ مقام عنده مقال.

لم يكن بورقيبة يساريّا ولا يمينيّا ولا متديّنا ولا متطرّفا. كان جهويّا أو شجّع الجهويّات وكرّسها. وهذا هو خطأه التاريخيّ القاصم. ولكنّه كان تونسيّا أوّلا، ولاؤه لتونس ولشعبها فقط. وكان حداثيّا مثقّفا ثانيا، ولذلك كان السلفيّون التقليديّون من اليسار والإسلاميّين لا يحبّونه. لم يكن عدوّ اليسار ولا عدوّ الإسلاميّين. كان عدوّ الكلاسيكيّة والتقليد والظلاميّة الإيديولوجيّة. وكان خطيبا كاريزماتيّا ثالثا.

لم يمارس بورقيبة الحكم بإيديولوجيا منغلقة من الإيديولوجيّات. والدّليل على ذلك أنّه جرّب الاشتراكيّة في الستينيّات منوالا في التنمية. وجرّب الوحدة والإيديولوجيا القوميّة مع ليبيا في السبعينيّات. وجرّب الليبراليّة واقتصاد السّوق. ولم يكن مطيعا لإحداها إذ يتركها بمجرّد ثبات فشلها. كان يجرّب ويتابع ويقيّم. ما كان يعنيه هو تونس لا الإيديولوجيا. تسقط كلّ الإيديولوجيّات وتحيا تونس. هذا كان شعاره. لم يكن يقبل أن تتحوّل أرض تونس ساحة للتجريب والتطبيق الإيديولوجيّين. لم يقبل أن تسود الإيديولوجيا وطنه. استدعى الإيديولوجيا باعتبارها اجتهادا بشريّا قد يكون خادما لتونس ولشعبها. فتونس أوّلا والإيديولوجيا ثانيا. لم تكن له مشاريع خفيّة ولا أجندات إيديولوجيّة ولا ولاءات لما وراء البحار والجبال. لم يرضع حليب الوهابيّة ولا الإخوانيّة ولا الستالينيّة ولا النّازيّة ولا الرأسماليّة. كان كبيرا بين الكبار. كان مأثور الكلام مأثور المواقف.

وكان حريصا على أن تظلّ الدّولة المستثمر الأوّل وأن تمسك بوسائل الإنتاج الرئيسيّة وأن تحافظ على أدوارها في التشغيل وفي توفير التعليم والصحّة والنقل والخدمات الأساسيّة للمواطنين. لم يكن لصّا ولا مبذّرا ولا متباهيا. لم يكن يأخذ أكثر ممّا يحتاج إليه. وما كان يأخذه يكفيه. كان حريصا على مظاهر الزعامة في اللباس، لم يكن يزايد في ذلك كالرئيس الحالي المؤقّت. ولكنّه معها جميعا كان مراهنا على التعليم والمعرفة والبحث العلميّ من جهة. وكان يثبّت المؤسّسات والإدارة من جهة ثانية.

إنّ التذكير بزمن بورقيبة مهمّ في فهم اللحظة الرّاهنة. فللماضي أضواء يلقيها على الحاضر كثيرا ما تكون فاعلة ومؤثّرة. ولنا أن نلقي نظرة على المجتمع التونسيّ في رمضان الثاني هذا بعد ثورته التي لم تكتمل حتى نعاين اللبس والغموض اللذين يسودانه. وهما ناتجان عن فعل فاعل قاصد الإغماض والإبهام والتعمية من ناحية وعن افتقار لأدوات التحليل من ناحية ثانية.

ظهور حركة 'نداء تونس' فاجأ الجميع وأربك الجبهة الإسلاميّة التي تقودها حركة النهضة. فلقد أعدّت فكرة الحزب بهدوء وبتأنّ وولد الحزب ناضجا يتّكئ على كاريزما الباجي قائد السبسي ولكنّه أيضا يجمع في قيادته العليا وزراء كثر من حكومة قائد السبسي الانتقاليّة ومن جملة من رموز المجتمع المدنيّ في تونس. فمن حيث التنظيم هو شبيه بحزب النهضة إذ له قائد رمز وقيادات صفّ أوّل وقواعد مستهدفة بالاستقطاب. وله خطاب واضح ولا يتبنّى أيّ إيديولوجيا خلافا للقطبين الآخرين الإسلاميّ واليساريّ.

لقد أفلت حزب نداء تونس ممّا وقعت فيه التشكيلات السياسيّة الكبرى في تونس نعني عبادة الإيديولوجيّات اليساريّة واليمينيّة السلفيّة الرجعيّة الميّتة. فالوفاء والانضباط الإيديولوجيّان هما ما أضعف اليسار التونسيّ وما جعله عاجزا عن النفاذ إلى القواعد الشعبيّة الواسعة. أمّا نداء تونس فحزب حداثيّ شعاره الدفاع عن الجمهوريّة وعن النمط المجتمعيّ التونسيّ وعن مكاسب المرأة وحقوقها وعن المجتمع المدنيّ.

هذا الحزب عدّل المشهد السياسيّ في تونس إذ أعاد الصراع الحقيقيّ إلى الواجهة وهو صراع الوسطيّة والحداثة ضدّ الرجعيّة والدوغمائيّة. فالصورة السّائدة في تونس بعد الثورة أنّ الاستقطاب السياسيّ والإيديولوجيّ فيها ثنائيّ بين اليسار وبين الإسلاميّين أو بين المحافظين على الدّين وبين العلمانيّين. وهذا غير صحيح. فلقد كانت هناك جبهة خاوية أو لنقل ضعيفة وغير مؤثّرة في الانتخابات التأسيسيّة هي الجبهة الوسطيّة الحداثيّة. ويأتي حزب نداء تونس ليحاول ملء هذا الفراغ والاستفادة من حالة الاستقطاب الحادّة بين العدوّين الإيديولوجيّين.

لكن على نداء تونس أن يردّ على الاتّهامات المكالة إليه من خصومه لاسيما الترويكا من جهة واليسار من جهة ثانية. ومن هذه الاتّهامات أنّه امتداد للبورقيبيّة التي ترى النهضة أنّها خرّبت عقيدة المجتمع التونسيّ حيث مارس بورقيبة نزواته العلمانيّة وتجنّى على إيمان النّاس.

أمّا العائلات اليساريّة فترى أنّ مع البورقيبيّة عرفت تونس بدايات الانحراف نحو العنصريّة الجهويّة والحيف الاجتماعيّ. ومع حزبه الاشتراكيّ الدستوريّ، بدأ المجتمع التونسيّ يعرف نشأة العمل الميليشيويّ الليليّ. كما أنّ أواخر عهده شهدت بداية الصراع العنيف مع اتّحاد الشغل. وافتتح الاستبداد والقمع والتعذيب تاريخه الطويل في تونسز

كما يتّهم اليسار التونسيّ حزب نداء تونس بأنّه حزب يمينيّ ليبراليّ سيكرّس خيار الخضوع لرأس المال العالميّ بما يعنيه ذلك من التفريط في ثروات البلد ومزيد الارتهان للجهات الخارجيّة المتحكّمة في المال والأعمال. فيما تتّهمه الترويكا بأنّه وكر للفلول والأزلام (من أين استعاروا هذه الصفة القذرة؟) وبأنّه يشكّل البوّابة التي منها سيحاول النظام المخلوع أن يعود من جديد.

لكنّ نداء تونس يردّ على النهضة بدعوته إلى محاسبة الفاسدين. ولم ينفكّ يعلن أنّه ضدّ العقاب الجماعيّ وأنّ كلّ مواطن لم تلحقه شبهة يمكنه الالتحاق بالحزب. بل إنّه يتّهم حزب النهضة الحاكم بأنّه يماطل في مسألة المحاسبة لغايات استقطابيّة ترويضيّة لأصحاب المال الفاسد. وشرع نداء تونس في العمل صامّا أذنيه عن كلّ الاتّهامات متمسّكا بالقانون وبإخراج عمليّة المصارحة والمحاسبة من دائرة المزايدات والمناقصات السياسيّة. ورفع شعار المحافظة على مكاسب تونس الاجتماعيّة والمدنيّة وشعار استئناف معركة التّحديث المعطّلة المهدّدة من قبل الإسلام السياسيّ الرّجعيّ الذي ينخرط في مشروع استخلافيّ الولاء فيه للمشروع التوحيديّ الكبير على أساس العقيدة لا للوطن.

ولابدّ أن نشير إلى أنّ جبهة جديدة ولدت في السّاحة السياسيّة التونسيّة هي الجبهة الشعبيّة اليساريّة. وقد سمعت شكري بلعيد النّاطق الرّسميّ باسم حركة الوطنيّين الديمقراطيّين وأحد مكوّني الجبهة الشعبيّة اليساريّة الرئيسيّين، يتحدّث لإذاعة تونسيّة يوم 16 أوت 2012 الجاري ويقول بالحرف 'نحن دعاة حوار وشراكة حقيقيّة ومسؤوليّة، وسنمارس هذا الدّور مع أيّ حاكم لتونس كائنا من يكون'. ولكن خلافا لهذا القول، نرى خطابا صادرا عن بعض مكوّني الجبهة مخالفا تماما لهذا الكلام في علاقة بنداء تونس، مثلا. فنسمع كلاما في غاية التوتّر قائما على التهجّم والتخوين مع أنّ بين الجبهة والنداء تقاربا في مستوى الوعي بضرورة الحفاظ على المكاسب المدنيّة والاجتماعيّة للشعب التونسيّ والتصدّي لمشاريع الهيمنة الإخوانيّة والوهابيّة. كما لم يصدر عن نداء تونس ما يشير إلى معاداة الجبهة اليساريّة ولا التخويف منها. وهذا يعني أنّ اليسار السياسيّ التونسيّ مصرّ على راديكاليّته فيما اختار نداء تونس الوسطيّة والاعتدال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.