جاءني يهرول يتصبب عرقا، ألقى عليّ سلاما مقتضبا وسألني بنبرة يغلب عليها التأنيب والاستفهام المبهم : هل أمضيتَ على العريضة؟ قلت : هوّن عليك قد عرض لي طارئ فنسيت العريضة قال : يجب أن تسرع، فقد سبقك الكثير، ويجب الآن حجز مكانك، فقد أصبحت الطوابير طويلة! قلت : لا عليك، إني أريد أن أنبأك بسرّ أرجو أن يظل جاثما على صدرك، وأن لا تبوح به لأحد، حتى وإن خيروك بين الكفر والإيمان... استوقفني واصفر وجهه وغاب نطقه لحظة ثم أراد الكلام فتلعثم وسكت... قلت مطمئنا إياه ورافعا الغشاوة عن ظنونه وحازما في موقفي : لم أعد أطيق العرائض!!! نظر إليّ باشمئزاز وبعض القرف يشوبه بعض الحنان وقال :... اخفظ صوتك فقد بدأت تطرق أبواب الخيانة ونكران الجميل والإحسان للأهل ونسيان الوطن، فحذار من السقوط! حذار من مغادرة السفينة والبحر عميق! قلت مستغربا : وهل الإمضاء على العريضة عقيدة، من تخلى عنها فسد دينه ومرق منه كما يمرق السهم؟ أم هي طريقة، من نبذها فقد نبذ الشيخ والمريدين وطلق حلق الذكر والمجذوبين، فاستُحِلَّ دمُه، وصودر تاريخه ومتاعه، و رُميَ بحاضره في سلة المنسيات فلا هو كان ولا سوف يكون؟ قال غاضبا : يكفي تهكما فالعريضة هي ما بقي من ماء الوجه، هي القليل المستطاع، هي آخر جعابنا، هي رغيف الفقير وكوخ المسكين وأمل الحيارى والمستضعفين، ليس وراءها إلا الجدار والصمت الرهيب والصحراء القاحلة.. هي أداة الغريق والضال واليتيم بدون وطن.. العريضة يا سيدي عليها نحيا ولولاها نموت... قلت : هل العريضة بدل الموت أم الموت مع العريضة؟ ألا ترى يا صاحبي أن العريضة أصبحت مسكّنا لآلامنا وإرضاء لحالنا وإراحة لضمائرنا واعتقادا كاذبا بأننا مازلنا نناضل ولم نمت! إن اسمي أصبح يتجول بين القوائم كالمرأة العانس تبحث عن رب بيت يحميها في وحدتها ويخفف عليها وحشتها، فأصبحت العريضة تحمينا بدل أن نحميها، تدافع عن وجودنا بدل أن ندافع عن وجودها...حتى أني لم أعد أعرف من ساندت ومن لم أساند، ولماذا ساندت ولماذا لم أساند... إن العريضة كما أراها محطة في مسار وليست نهاية مسار... إني قررت اليوم وبعد تفكير مرير الثورة على العرائض فلن أساند عريضة بعد اليوم وسأدعو الناس إلى التجاوب مع قراري ومساندتي في محنتي أن أعيش بلا عرائض... وسأكتب في ذلك عريضة!