هذه هي الحلقة الثانية من رسالة علمية عن "الإيمان قبل قيام الفرق والمذاهب"، وهي تهدف إلى بيان أركان الإيمان في الإسلام، كما عرضها محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم في حياته على الناس، وقبل تفرق الأجيال التي جاءت بعده من المسلمين إلى فرق ومذاهب. إنها رسالة تسعى إلى بيان العقيدة الإسلامية بلغة واضحة ومبسطة يفهمها المسلمون وغير المسلمين في القرن الهجري الخامس عشر، الحادي والعشرين للميلاد، ومن يأتي من بعدهم، بالإستناد إلى القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية الشريفة. هذا وبالله التوفيق، هو المستعان، وعليه التكلان. مادام القرآن الكريم محل إجماع المسلمين فإن المنطق يفرض التوافق والإجماع بينهم حول حقيقة الإيمان الإسلامي. ذلك أن أوضح موضوع في القرآن الكريم، وأعظم شأن تواترت فيه الآيات في مواضع كثيرة من السور، هو الإيمان بأركانه ومقتضياته ومظاهر التعبير عنه. أما خلافات طائفة من علماء المسلمين في القرون الهجرية الأولى حول هذا الموضوع، والمتوارثة في عصرنا، فليس لها أو لنتائجها قدسية تمنع عرضها على القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية ثم أن نرمي عرض الحائط بكل أمر فيها يخالف هذين المصدرين الصحيحين. من تجاربنا المعاصرة، نعلم علم اليقين أن النخب العلمية في كل عصر من العصور تواجه تحديات فكرية مرتبطة بزمانها ومكانها، ثم تتفاوت استجابة هذه النخب لتلك التحديات. بعض العلماء ينبهر بها، وبعضهم يخضع لضغوطها، خاصة إن كانت ذات طابع سياسي، وبعضهم يثبت ويصمد بما ترسخ في عقله وقلبه من أنوار الحق كما ينطق به القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة. لا يوجد سبب وجيه مطلقا لنعيش في جلباب العلماء السابقين لنا وأجواء خلافاتهم ومساجلاتهم، ليبقى الإنقسام حيا مستمرا في صفوف المسلمين، ما دام المصدر الأصلي للعلم والهداية بين أيدينا، يخاطبنا بلساننا العربي، غير ذي عوج، ومن دون طلاسم تحتار أمامها الألباب. أما الذين يحاولون الإستنقاص من حجية القرآن الكريم بوجه خاص في أمر العقيدة، فإنهم يسيؤون لأنفسهم، ويتجاهلون آيات صريحة لا لبس فيها ولا غموض. فإذا سألت: لم يفعلون ذلك؟ يكون الجواب صريحا لا لبس فيه: إنهم يفعلون ذلك لأنهم وجدوا آيات القرآن الكريم الصريحة مخالفة لاجتهاداتهم وأقوالهم في شأن الإيمان، فلم يبق لهم إلا تأويلها، ثم الإدعاء بأن التأويل من اختصاصهم واختصاص من هو على نهجهم، وأنه ليس من حق جمهور علماء المسلمين، وعامة المسلمين، أن يقرؤوا القرآن الكريم ويفهموه بظاهره الواضح المبين. وعلى كل حال، فإنه بالمثال يتضح الأمر من دون حاجة لكثير استدلال. هذا كتاب الله بين أيدينا، وهذه آياته قوية واضحة ناصعة، تقيم الحجة البالغة على كل منصف عاقل باحث عن الحق. وقد بدا لي في هذا البحث أن أبيّن أركان الإيمان الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من خلال عدة آيات في كتاب الله. أعرض الآية أو الآيات، وأتوقف عند مضمونها، وفي نهاية المطاف، تكون أركان الإيمان قد اتضحت وظهرت بشكل جلي لا يمكن رده. وأبدأ بالآيات الأولى من سورة هود عليه السلام، راجيا من الله التوفيق والسداد. سورة هود سورة مكية، نزلت بعد سورة يونس، ومن قبلهما نزلت سورة الإسراء. كل هذه السور نزلت وحيا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصعب مراحل الدعوة الإسلامية. كان النبي صلى الله عليه وسلم مستضعفا مضطهدا من قبل القوى المتنفذة في مكةالمكرمة، وزاد من معاناته وفاة زوجته النبيلة الكريمة خديجة أم المؤمنين، وعمه الشهم الشجاع أبي طالب. وكذلك كان أصحابه مستضعفين مضطهدين. كان المتسلطون من قادة قريش يضيقون على المسلمين أشد التضييق، ويصادرون منهم حقوقهم الطبيعية المشروعة في حرية الإعتقاد وحرية العبادة. ولم يكن للمسلمين دولة تتبنى مطالبهم وتهب لنصرتهم. كانت عدتهم الوحيدة لمواجهة هذا الظلم الكبير هو إيمانهم بالله وثقتهم بأنهم على الحق، سائرون على الدرب المنير ذاته الذي سار فيه إبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم وأتباعهم، من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم وينزل عليه الوحي خاتما للنبيين. إن كان هناك من ظروف تبرر المساومة على العقيدة، فإن ظروف المسلمين في فترة نزول سورة هود قد تبدو للبعض ظروفا قاهرة تبرر التنازل والمرونة. لكن القرآن الكريم ينزل بالحق المبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا مساومة فيه ولا تنازل، فالأمر أعظم من أن يقبل أي نوع من أنواع المساومة، لأنه يتصل بالحقيقة الأكبر والأعظم والأهم في حياة البشرية وفي الكون كله منذ بدء الخليقة إلى نهايتها. أيها الناس، هكذا معنى الخطاب القرآني الكريم لبني آدم كافة في الآيات الأولى من سورة هود، أيها الناس في القرن الميلادي السابع، وفي كل قرن يأتي من بعد، لقد نزل عليكم قرآن من عند الله الحكيم الخبير، قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مرتب محكم لا خطأ فيه ولا نقصان، مبوب مفصل لكم لكي تفهموه وتتعظوا به، ولكي تقوم عليكم الحجة فلا يتعلل أحد بعد اليوم أنه جهل أو ما وصله الخبر. أيها الناس، أيها الناس، هكذا معنى الخطاب القرآني الكريم لبني آدم كافة في الآيات الأولى من سورة هود، إن هذا القرآن المحكم المفصل، الذي أوحى به الحكيم الخبير لنبيه صلى الله عليه وسلم، يرشدكم، ويأمركم، ويدلكم على ما فيه صلاحكم وسعادتكم، ورأسه وسنامه: ألا تعبدوا إلا الله. هذا هو الأساس. لا تشركوا بالله شيئا. لا تدعوا مع الله إلاها آخر. ولا تجعلوا من بينه وبينكم وسيطا. وتبين الآيات الأولى من سورة هود حقائق أخرى مهمة في عقيدة الإنسان المسلم. إنها تخاطب أهل الكرة الأرضية كافة في كل عصر: اعبدوا الله وحده لا شريك له. واقبلوا التوجيه والنصيحة من مبلغ الخطاب، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، لأنه النذير البشير. الله تعالى اصطفاه واختاره لهذه المهمة العظيمة السامية. فصدقوه ولا تكذبوه. وهذا هو الأساس الثاني الذي تدل عليه الآيات: الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم تقول الآيات للناس: أما وقد وصلكم هذا الخبر اليقيني الصحيح، فبادروا إلى التوبة، وأقلعوا عن الشرك، وأبشروا بفضل الله وعطائه. أما إن كذبتم وأعرضتم، فاعلموا أن الله توعد كل من يشرك به بالعذاب في يوم كبير، هو يوم القيامة، وتيقنوا أنكم عائدون إلى ربكم، راجعون إليه في نهاية المطاف، وأن يوم الحساب آت لا ريب فيه. واحذورا أن يظن أحد أنه مفلت من ذلك اليوم، لأن الله على كل شيء قدير، وسيجمع الناس ليوم الحساب، ذلك أمر لا ريب فيه ولا شك. وهنا ركنان آخران من أركان الإيمان الصحيح: الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بأن الله على شيء قدير، أي أن قدرته مطلقة، وأمر الخلق كله إليه، يقول للشيء كن فيكون.