عروسان يحييان عرسهما بختمة قرآنية، وآخران يكتفيان بعقد قرانهما في المسجد، وغيرهما يلجآن لفرق الأفراح الإسلامية التقليدية المعروفة في تونس ب"السلامية" والتي رغم التزامها باستخدام الآلات الإيقاعية فقط فإنها كثيرا ما تتحول إلى الأغاني من شاكلة "وسطك ولا وسط كمنجة". ما سبق هو بعض الحلول التي بات الشباب التونسي الملتزم دينيا يلجأ إليها كبدائل للفرق الإسلامية التي غابت عن الساحة منذ تسعينيات القرن الماضي، وذلك في محاولة منهم لتفادي مشكلة "الفِرقة" التي كادت أن تتحول إلى سبب ل"الفُرقة" بين العروسين وذويهما. كريم ونهى نموذج لتلك الفئة من الشباب التونسي الذي يرغب في إقامة عرسه "وفقا للسنة النبوية المطهرة" و"دون مخالفات شرعية"، وهو ما أدخلهما في جدال حاد مع عائلتيهما منذ بداية الصيف الحالي حتى كاد عرسهما أن يتحول إلى نكد بدل الفرح، بحسب قولهما. وفي تصريح خاص ل"إسلام أون لاين.نت" قال كريم: "ترفض عائلتي وعائلة خطيبتي رفضا قطعيا أن يتم العرس دون زفة وفرقة موسيقية وفستان زفاف، والأدهى من ذلك أن عائلة العروس اشترطت أن تحيي العرس فرقة بعينها، وإلا فسيلغون الفرح أصلا". وبينما يرى كريم أن "هذه الفرقة الموسيقية بما تقدمه من أغان ماجنة لا تحترم الضوابط الشرعية"، تبرر والدة العروس اشتراطاتها قائلة: "نهى هي أول فرحتنا، وابنتنا الوحيدة، التي رحنا نمني أنفسنا منذ مولدها بإقامة عرس لها لم يسبق له مثيل في العائلة، وإذا زوجتها بفرح تقليدي بسيط فسيحرجنا ذلك مع العائلة والأصدقاء". "حيرة عرسان" من جانبها أعربت نهى ل"إسلام أون لاين.نت" عن حيرتها بين "قناعتها وواجباتها الدينية التي تفرض عليها التزام الضوابط الشرعية في كل فعل بما في ذلك الزواج وحفلة العرس، وبين ضغط العائلة، وخاصة أمها". وأضافت: "أحيانا أكاد أقتنع أن ما تطلبه أمي قد يدخل في باب الضرورات التي تبيح المحظورات، لكن سرعان ما أتراجع عن تلك الفكرة، خاصة مع تصميم خطيبي على إقامة فرح بلا مخالفات شرعية". أزمة نهى وغيرها من "العرسان" التونسيين المتدينين زادها غياب بدائل واقعية عن الفرق التقليدية، تضمن الالتزام بالضوابط الشرعية من جهة وتحترم ضرورات الفرح ومستلزماته من جهة ثانية. وأدى غياب الحركة الإسلامية المؤسّسية ممثلة في حركة النهضة -التي حظرتها السلطات التونسية منذ تسعينيات القرن الماضي- إلى اندثار التجارب والمحاولات التي أنتجها أبناؤها لخلق بدائل إسلامية ممكنة للأعراس التقليدية. لا ل"المزود والزكرة" ومنذ بداية الصحوة الإسلامية بتونس في سبعينيات القرن الماضي بدأت حيرة الشباب المتدين المقدم على الزواج بين رفضه لفرق "المزود" (آلة نفخية) و"الزكرة" (المزمار)، وبين ضغط العائلة التي لن تستوعب كيف يمكن أن يقيموا عرسا يتجمع فيه الأقارب والأباعد دون عزف أو موسيقى. لكن سرعان ما تم تجاوز تلك الحيرة في السبعينيات من خلال إيجاد بدائل إسلامية لفرق الأعراس الموسيقية التقليدية، وبدأت التجربة بدخول أشرطة الأناشيد الإسلامية، وخاصة السورية منها، مثل أشرطة المنشدين أبو الجود وأبو راتب وأبو دجانة إلى تونس؛ ما أفرز تجربة فنية متميزة بتأثرها بالفرق الإسلامية الشرقية مع الالتزام بالخصوصية التونسية. ووفقا لعدد من أبناء التيار الإسلامي الذين عايشوا تلك الفترة "فقد بدأت التجربة محتشمة على شاكلة فرق تغيب عنها شتى الآلات الإيقاعية والمعازف، وتتخذ من الجلوس على الأرض شكلا، ومن قصائد بعض الطرق الصوفية التونسية سندا، ومن أناشيد البراعم وأبو الجود وأبو راتب وأبو دجانة خطا ومنهجا". وبحسب هؤلاء "نجحت تلك الفرق فيما مضى في جذب الأنظار إليها؛ لأنها حاولت تلبية احتياجات المجتمع التونسي لإحياء مناسباته بصورة لا تتعارض مع القواعد الشرعية، كما فتحت ساحة أخرى لنضال الحركة الإسلامية وهو النضال الثقافي؛ ما ساعد في بروز أصوات ومواهب فنية إسلامية تونسية بدأت تخوض هذا المجال". تجربة الصحوة ومع صعود نجم الحركة الإسلامية على الساحة الطلابية واكتساحها جميع الفضاءات في الفترة ما بين أواخر السبعينيات إلى تسعينيات القرن الماضي، انتقلت تجربة الفرق الإسلامية إلى الجامعة لتشهد خطابا فنيا أكثر تحررا في تعامله مع الآلات الموسيقية والنصوص الشعرية، وفقا لتقارير المكتب الثقافي لحركة النهضة الإسلامية. وبفضل تجربة الجامعة برزت في ذلك الوقت فرق إسلامية لأول مرة لا ترتبط تنظيميا بمكتب العمل الثقافي في الحركة الإسلامية، وصارت أكثر تحررا، بحيث أنتجت أغاني هي أقرب إلى نصوص وروح الشيخ إمام، ومارسيل خليفة، وناس الغيوان، وجيل الجلالة، كما توسع نشاطها ليشمل مجالات أوسع من مجرد إحياء حفلات الزواج. ومن رحم تلك التجربة ظهرت آنذاك فرق أقرب إلى الفرق الموسيقية الملتزمة منها إلى الفرق الإسلامية، مثل فرقة "الشمس"، و"عشاق الوطن" في مجال الموسيقى، و"أولاد الجنوب" في المسرح بقيادة رئيس الجمعية الثقافية اللاجئ حاليا في سويسرا العربي غريب. من الإيقاع إلى "الركح" وبمرور الوقت تطورت أدوات فرق السبعينيات الإسلامية وتخطت مجرد الإنشاد إلى إشراك الجمهور في مسابقات ثقافية ودينية، بل أدخلت المسرح للمرة الأولى في تونس إلى الأعراس والبيوت، من خلال تقديمها لفقرات وعروض مسرحية أثناء المناسبات التي تحييها. وانتقلت من مجرد تجربة شبه صوفية إنشادية صرفة إلى استخدام خشبة مسرح متنقلة لتقديم عروض تسمى "الرُّكح"، فضلا عن الإكسسوارات والآلات ومكبرات الصوت. وتسبب هذا الانتشار الواسع والتطور السريع للفرق الإسلامية -بحسب تقارير المكتب الثقافي لحركة النهضة- في أن توضع التجربة تحت المنظار الأمني ويتم التضييق على نشاط تلك الفرق وضربها في إطار استهداف النظام التونسي للحركة الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي. واشترطت السلطات التونسية أن تحصل كل فرقة على رخصة للعمل من وزارة الداخلية، كما يقدم كل أصحاب عرس أو مناسبة ما طلبا لوزارة الداخلية قبل موعد العرس بأسبوع يتضمن مكان إقامة الحفل واسم الفرقة وبيانات أعضائها، للحصول على تصريح لإقامة الحفل. وبمجرد اشتباه السلطات في وجود اسم لسجين سياسي سابق أو شخص ذي نشاط إسلامي بين أعضاء الفرقة، ترفض منح التصريح، وتشطب ترخيص الفرقة تماما، وفقا لتقارير المكتب الثقافي لحركة النهضة.