سعيد يسدي تعليماته بإعادة هيكلة عديد المؤسّسات التي تستنزف أموال المجموعة الوطنية    وزارة الصحة تعقد اليوم جلسة تفاوض جديدة مع الأطباء الشبان..    بلدية تونس تدعو متساكنيها الى الاسراع بالانتفاع بالعفو الجبائي لسنة 2025    مقتل 4 أشخاص وإنقاذ 23 إثر غرق عبارة قبالة بالي    الكونغرس يطالب البيت الأبيض بتوضيح سبب تعليق شحنات الأسلحة لأوكرانيا    روسيا توقف لجوء العلويين وتستعد لتسليم مطار حميميم لدمشق    عاجل/ هذا الفريق الرياضي لكرة القدم يعلن عن قرار هام..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    كولومبيا تضبط لأول مرة غواصة مسيّرة لتهريب المخدرات    أكثر من 30 شهيدا في غارات إسرائيلية على قطاع غزة منذ منتصف الليل    محمد الرابحي يطمئن التونسيين حول سلامة الدلاع ويحذّر من التسممات الصيفية    محمد صلاح يتصدر قائمة أغنى اللاعبين الأفارقة لسنة 2025 بثروة قدرها 110 ملايين دولار    عاجل: صفقة جديدة للنادي الإفريقي    وزير الخارجية ونظيره العماني يؤكدان على ضرورة متابعة تنفيذ توصيات الدورة 16 للجنة المشتركة التونسية العمانية    اليوم: ارتفاع درجات الحرارة ...والشهيلي حاضر    طقس الخميس: الحرارة تتجاوزال 40 درجة وأمطار بهذه المناطق    لي سيو-يي.. رحيل مفاجئ لنجمة الدراما الكورية يثير التساؤلات    ما تخبئه الكواكب ليوم الخميس 3 جويلية: يوم حاسم لمواليد الأبراج المائية والنارية    كوريا الشمالية تصعد لهجتها ضد الولايات المتحدة    رئيس الجمهورية يستقبل وزير خارجية سلطنة عمان: علاقات تاريخية متميزة    تركيبة الهيئة المديرة الجديدة للنادي الإفريقي    تونس وسلطنة عُمان تعتمدان خطة عمل استراتيجية لتعزيز التعاون الثنائي    المنظمة العالمية للأرصاد الجوية: من المتوقع موجات حر أشد وأكثر تواتراً    أوروبا: موجة حر تودي بحياة أربعة أشخاص في إسبانيا وفرنسا    باجة: رياح رملية قوية وتحذيرات من تقلبات جوية وأمطار غزيرة    وزير التجهيز: تقدم ملحوظ في أشغال الطريق السيارة تونس-جلمة [فيديو]    تونس – نحو توسيع محطة تحلية مياه البحر بقابس    تراشق فايسبوكي بين خميس الماجري ومحجوب المحجوبي: اتهامات متبادلة بالتكفير والتطبيع و«الإفتاء للراقصات»    بعد ضجة كبيرة ...الأمن الفرنسي يفرج عن البلايلي    بعد حجز 47 كيلوغرام من الكوكايين ب13 مليار ... كلّ الأسرار عن صفقة بيع المخدرات    القضية الفلسطينية اهم محاور لقاء سعيد بوزير خارجية سلطنة عمان    أخبار الحكومة    مجلس الجهات والاقاليم يحيل مشروعي قانون يتعلقان باستغلال المحروقات على اللجان    وزارة الفلاحة تُحذّر    بنزرت: حجز 34 ألف بيضة مخبأة بمستودع عشوائي ببنزرت الجنوبية    مستقبل المرسى يتعاقد مع المدافع يسري العرفاوي لمدة موسمين    تاريخ الخيانات السياسية (3) خيانة بني أبيرق في عهد رسول الله    صيف المبدعين .. الكاتبة عائشة السلاّمي .. لم أكن أرحّب بالعطلة... كان السّجن في انتظاري    5 خرافات عن الماء... تعرّف عليها للحفاظ على جسمك    التحقيق مع راغب علامة بقضية "المكالمة الهاتفية" المسرّبة    مستقبل المرسى يعزز صفوفه بالحارس سامي هلال    عاجل/ تغييرات في رحلات "تونيسار" من وإلى فرنسا خلال هذه الفترة    السجن 12 سنة لتونسية هرّبت الكوكايين من تركيا داخل حقيبة سفر    الدورة 20 لمهرجان أيام السينما المتوسطية بشنني قابس من 15 إلى 19 أكتوبر 2025    وفاة مفاجئة للمطرب المصري الشاب أحمد عامر    هل الجلطات تقل في الصيف؟ هذا ما تقوله الدراسات    صادم: فيديو تحرش بفتاة في مكتب بريد بهذه الجهة..فتح تحقيق وايقاف المتهم..    محاضرة بعنوان "حوار على ضوء القيم ... عندما يصبح التسامح ثقافة والسلام خيارا" بمقر الالكسو    جوان 2025: استقرار معدل نسبة الفائدة في السوق النقدية في حدود 7.5 بالمائة    3 حاجات لازم تخليهم سرّ عندك...مش كلّ شيء يتقال    في تونس: الإدمان لم يعُد حكرا على المخدّرات...تفاصيل صادمة    سخانة غير عادية تستنى فينا ابتداء من النهار هذا    كأس العالم للأندية: برنامج الدور ربع النهائي    ماهر الهمامي يدعو إلى إنقاذ الفنان التونسي من التهميش والتفقير    كيفاش تستغل دارك والا محلك وتدخل منهم فلوس؟    وزير السياحة يلتقي ممثلي الجامعة التونسية للمطاعم السياحية والجمعية التونسية لمهنيي فن الطبخ    كيف تؤثر حرارة الصيف على مزاجنا وسلوكياتنا اليومية؟    تاريخ الخيانات السياسية (2)... قصّة أبي رُغال في هدم الكعبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حليم


:
كان حليم واقفا يواجه تحدي الأسوار المزركشة بلغة التمرد، عبارات جنسية و كلمات عارية تشكل واقع الخوف اليومي. أناقته تزداد جمالا عندما يلقي نظرته الحزينة على سطوح بيوت الحومة، ينظر إلى الضاوية و هي غارقة في الغسيل تتنهد قائلة بصوتها المدوي: الله يعفو علي من هاذ العذاب.يحرك حليم رأسه، يدقق نظراته في الباب الذي يفصل بيت الفقيه سي بوشعيب و غرفة امباركة اليتيمة فيصدمه الفراغ القاتل.
كان صوته الهادىء مثالا لعشاق الهوى الليلي، هندامه يذكرني بالرجال الأحرار أيام العز. حليم أو أخ البنات كما يسميه الجيران يسكن قلوب الناس بسرعة وحبهم له يزداد يوما بعد يوم. كل فتيات الدرب يقفزن على ظهره المقوس ويداعبنه حتى يسقط أرضا، زوجته السعدية لا تزعجها لمساته اليومية لأيادي البنات. خجله يعيق تواصله مع أجمل جميلات الحومة. لا يخرج من منزله إلا و هو يحمل ركاما من الجرائد و الكتب البالية،و عندما تسأله الجارة عائشة عن حاله يجيبها مبتسما وهو يمر بمحاذاة رجليها الممدودتين خارج عتبة الدار:
هذه الأوراق أقدسها و أعشق رائحتها كالفأر...
آه من تلك الأيام التي كان فيها حليم يوجه هجاءه ضد مصاصي الدماء والضاحكين على الذقون، لا أحد يقاوم كلماته النارية.،ينطق بلغة موزونة بالمعاني و كأنه الحق ينبعث من حنجرته، الجمل التي يوظفها تخرج من فمه كغصة تخنقه و هو يريد أن يتحرر من عذابها، حليم لا يدخل البيت إلا بعدما يخترق الجيران عالم نومهم العميق، يأتي سكرانا لكن لا أحد يقدر على كشف علامات انتشائه، يغني في صمت و يتنفس أوكسجين الحياة بهدوء مطلق حتى لا يزعج أهل دربه، وحتى إذا غلبته حرقة الزمن، فيفضل أن يفرغ دموعه في الحانة قبل ولوج غرفته.
كنت أنتظر حليم كل يوم لأستمع إلى حكمه، لم أكن كتلك العيون التي يعد أصحابها حركات يديه و هي تفتح باب البيت الذي يؤويه رفقة والديه و إخوته. كنت أخرج لأواجهه و أتذوق مقاطع جلستي معه، أوقفه عند مدخل زنقة المنحوسين و أبدأ في الإنصات إلى حديثه عن القهوة المرة الآتية من أدغال أفريقيا، كان يسميها بالقهوة الميتة لأنها بدون روح و تشرب بدون سكر. لا يتكلم عن أحوال الناس لكنه يحلل كيف تحولت مقابر البلدة إلى برك مائية يغزوها المطر من كل حدب و صوب، يصف الأموات و قد أغرقتهم المياه من حيث لا يدرون. كان ينطِّق الأمكنة و يجمِّلها. كاد أن يصير كاتبا أو فيلسوفا لكنه فضل البقاء في ظل عالمه الجنوني، أحاديثه عن النساء جميلة و مثيرة، يرى حليم بأن المرأة و المروءة أختين رضيعتين، أما الرجولة فهي جزء منهما، يلعب بالألفاظ و يبدع فيها، ومن العسير أن نتخيله صامتا أو حزينا.
تلك الليلة صرخ في وجهي قائلا:
أنا سكران و لا أريد أن أستفيق...
بدأ في ترديد أغنية فريد الأطرش دون أن يساير عزف جوقة:
الحياة حلوة بس اللي يفهمها...
سكت هنيهة، اقتربت منه حتى أتأكد من سكره، لم تكن رائحة الكحول تتسرب من أسنانه المتكسرة، بدأ يئن ثم انطلق ثانية في ترديد أغنية أخرى:
أيها الراقدون تحت التراب...
لم أكن أصدق أن صوت محمد عبدالوهاب قد حل في نفس حليم بهذا الشكل الغريب، طال صبره حتى كمل الأغنية فتحول إلى عصفور يتحسس ما يحيط به، كنت أنظر إليه لأصل إلى معنى لنشوته، اعتقدت أنه تمضمض بقليل من الخمر. قلتها له بصراحة و من غير تردد:
دارها دم العاود*
قهقه ثم رد علي:
الخمر و الجهل لا يجتمعان !
لم أفهم هذه المهارة في الكلام، فخاطبته مرة أخرى:
هل هذه نكتة أم حكمة أم تحريك للشوارب ؟
هذا لب ما عرفته البارحة.
ماذا حدث البارحة، تحدث و أطلق العنان للسانك !
جاءت السعدية و طلبت مني نفس الشيء !
زوجتك...
كانت زوجتي منذ خمس سنوات...
ما السبب في هذا الزلزال ؟
لقد تحررت من مرضها و تركتها طواعية...
لماذا ؟ لا أفهم ؟
إنها مريضة وتريد فقط أن تحقق نزواتها ... إنها تعلم أنني لا أرفض لها طلب.
كنت أعرف أن حقائق مرة تخنق صدر حليم وتعيق كلامه، حاولت أن أثيره، فقلت له في صمت:
سرك في بئر و حكايتك سندفنها معا في هذه الأطلال الموجعة.
اصفر وجهه، تدلى أنفه على فمه، أغمض عيناه الجاحظتين ثم انطلق بصعوبة شديدة في حكيه:
السعدية لم تكن زوجتي سوى على الأوراق، ترفض أن أقترب منها، لا تريد أن أضاجعها لأن ذلك لا يعطيها أية ...و لا أتوقف حتى تغرس أصابعها في شعيرات رأسي وتشدني بعنف صارخة بصوت يزعزع بيوت الجيران المجاورة لنا. كانت تلك هذه حكايتي كل ليلة مع السعدية.
بعد هذا الكلام، فهمت لماذا أهل الحومة يتحدثون عن صراخ السعدية و لا يفهمون أسبابه؟ الكثير كان يقول أن حليم الطيب نهارا يأتي سكرانا ليلا فيضرب زوجته. آه من لعنة المجهول!
تحت وقع الصدمة، لم أكن واعيا بما أتفوه به.فهول الحكاية كان أكبر من تصوراتي، قلت لنفسي و أنا منبهر:
يا سبحان الله، كم من سيناريو ليلي نجهله !
غرقت في جهلي لحظات قليلة ثم طرحت السؤال على حليم:
و هل زوجتك مريضة أم أن الأيام هي التي حرمتها من لذة الزمان ؟
لم يجبني حليم، ناداني بالعودة بعدما غادرت مكان جلوسي، لم أكن أنصت سوى إلى نداء داخلي يقول لي:
الموت أفضل من العيش في بوتقة الحسرة.
انتابني إحساس رهيب. بدأ شريط الذكريات يمزق مخيلتي. كانت أمامي صور يوم الختان، يوم اقتادتني عائلتي إلى الحجام* كي ...كان صراخي يتجاوز قوة صوتي، كنت قبالة رجل حامل لمقص أكبر من يديه، أستعطفه بكلام أضحك كل أولئك الذين كانوا يشاهدون حالي:
لقد أوصاني أبي بألا أتركك ...
قبل أن أكمل جملي المتقطعة كانت لعبة المقص قد أدخلتني في غيبوبة ذلك الزمن !
*الحجام: الحلاق
* العاود: الحصان
*


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.