الليلة.. الحرارة تصل إلى 32 درجة    هيئة الشارقة للكتاب تفتح باب الترشح لجائزة "ترجمان 2025"    زغوان: الموافقة على تمويل 11 مشروعا لفائدة الفئات الضعيفة بقيمة 110 آلاف دينار (المدير الجهوي للتشغيل)    قبلي: تقدم هامّ في عملية تغليف عراجين التمور رغم الصعوبات المسجلة في التزود بالناموسيات مطلع موسم حماية الصابة    صفاقس: اندلاع حريق بالطابق الثالث بالمستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة دون تسجيل خسائر بشرية أو مادية    إتهمتاه بالإساءة: "انستغراموز" وشقيقتها تُسقطان شكاية في حق صانع محتوى    غار الدماء: سيارة نقل ريفي تضع حدا لحياة خمسيني    الشبيكة: العثور على جثة شاب مطعون و الإحتفاظ بخالته وطفل عمره 15 سنة    عاجل/ انتخابات عمادة المحامين ومجلس الهيئة: تفاصيل الترشحات    حفل غنائي لفضل شاكر في مصر: إدارة أعماله تحسم الجدل    بعد أشغال ترميمه : المعلم التاريخي جامع بن معزوز بجزيرة جربة يستعيد رونقه وبريقه    سهرة فلكية للتأمل في الخسوف الفلكي الكلي للقمر يوم 07 سبتمبر القادم بمدينة العلوم    سهرة فلكية بمدينة العلوم لمواكبة الخسوف الكلي للقمر    عاجل/ ألمانيا ترفض الإعتراف بدولة فلسطين    قرارات جديدة: إنهاء تكليف هاذين المسؤولين    الوكالة اليابانية للتصنيف تُعلن مراجعة ترقيم تونس من سلبي إلى مستقر    عودة مدرسية: حجز أكثر من 7 آلاف قطعة طباشير و 20 الف قلم شمعي    تنظيم الدورة الثانية للصالون الدولي للسياحة الصحراوية والواحية في ديسمبر المقبل    تقدّم أشغال مشروع إزالة كاسرات الأمواج بشاطئ حمام الأنف بنسبة 60 المائة    هذا معدّل كُلفة العودة المدرسية للتلميذ الواحد.. #خبر_عاجل    الرابطة الأولى: برنامج النقل التلفزي لمواجهات الجولة الرابعة ذهابا    نقابتا التعليم الأساسي والثانوي تنفذان تحرّكا احتجاجيا الخميس المقبل أمام وزارة التربية وتحذران من عودة مدرسية "مرتبكة"    عاجل/ جريمة مروعة: فاجعة جديدة تهز هذه الولاية..!    توسعة المدخل الجنوبي للعاصمة..هذه آخر مستجدات الأشغال..#خبر_عاجل    عاجل/ ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الصهيوني على غزة الى أكثر من 62 ألف شهيدا..    عاجل/ سريعة الانتشار: خبير يكشف أعراض السلالة الجديدة من فيروس كورونا..    كرة اليد: اعتزال اللاعب الدولي التونسي جهاد جاء بالله    سليانة: السيطرة على حريق نشب بجبل فروحة بمنطقة بوعبد اللّه من معتمديّة كسرى    العثور على جثة شاب تحمل آثار طعن في القيروان    خزندار: الإطاحة بشبكة لترويج المخدرات    مصر تصدر بيانا بعد القبض على حامي السفارة في لندن    اكتشاف سلالة بشرية غير معروفة من قبل في كولومبيا    دراسة.. مرضى "كوفيد طويل الأمد" يعانون من تدهور شديد في جودة الحياة والوظائف اليومية    عاجل: إنخفاض أسعار لحوم الدجاج بداية من الأسبوع المقبل    محيط قرقنة يعزز صفوفه بأربعة لاعبين لاعبين جدد    خطير/ الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يؤثر على شريان رئيسي بالقلب..    طقس غير مستقر اليوم...وأمطار محلية قد تمتد إلى المنستير والقصرين    أحلام: ''رجّعوني على تونس...توحشتكم''    إيران ترفض اتهامات أستراليا وتتعهد بالرد على طرد سفيرها    إتحاد بن قردان: تعزيز الرصيد البشري للفريق ب3 لاعبين    الرابطة الأولى: لاعب الترجي الرياضي يعزز صفوف الشبيبة القيروانية    قيس سعيّد: ''الحقّ حقّ لن يسقط بالتقادم...والباطل باطل ولو غُلّف بشرعيّة صوريّة''    البطولة الإسبانية: فوز جديد لأتلتيك بيلباو وخيتافي    بناته أم حفيداته؟ قضية "زنا محارم" عبر أجيال تهز الشارع المغربي    الولايات المتحدة تطلب من فرنسا تسليم لاعب كرة السلة الروسي كاساتكين    بسبب التطرف اليميني.. تسريح ما يقرب من 100 جندي من الجيش الألماني    الفنانة أنغام تعود إلى منزلها بعد فترة علاج في ألمانيا    تاريخ الخيانات السياسية (57) .. .الخليفة الطائع من القصر إلى الحجر    مهرجان الفستق بماجل بلعباس ..تثمين ل«الذهب الأخضر»    إطلاق أول مسابقة وطنية لفيلم الذكاء الاصطناعي    فتح جسر على مستوى الطريق الجهوية رقم 22 يربط مستشفى الحروق البليغة ببن عروس بمداخل المروج    قابس : برنامج ثقافي ثري للدورة السابعة لتظاهرة " أثر الفراشة "    شكري حمودة يوضح: التنسيق مع المصانع المحلية والدولية يحمي المخزون ويواجه النقص الظرفي    كرة القدم العالمية : على أي القنوات يمكنك مشاهدة مباريات اليوم الإثنين ؟    تاريخ الخيانات السياسية (56) .. أفتكين و بختيار وسطوة الترك    وفاة مفاجئة لفنان مصري.. سقط أثناء مشاركته بمباراة كرة قدم    هام/ كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية..    أولا وأخيرا .. هاجر النحل وتعفن العسل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة من موسكو : عندما نأكل مع الجثث
نشر في الوسط التونسية يوم 22 - 01 - 2008

الساعة تشير إلى الخامسة صباحا . هذه الصبيحة مظلمة والمكان قاتل. رأيت وكأنني دخلت قلب المدينة التي زرتها أكثر من مرة، لكن سنوات عدة أصبحت تفصلني عن آخر زيارة لها. لم أنس أنني كنت هناك، قرب علاماتها و حروفها، أمام بعض الوجوه التي كانت في يوم ما موجعة. عثرت عن مكان غيروا اسمه من حانة الحرية إلى مقهى الناس. كان صديقي في زاويته المعهودة . وبالرغم من أنني لم أتبادل أطراف الحديث معه منذ أكثر من عشرين عاما، تعرفت على وجهه. الزمن يمر بسرعة ويفعل فعلته حتى يخلق فينا الإحساس بأننا أحياء ونعيش ككل الكائنات. آه ، كيف اشتعل رأسه شيبا. تغيرت ملامحه ، لسانه مازال محافظا على حرارته . قبلت جبينه و قلت له:
هل تذكرت ملامحي أيها الشيخ ؟
أجابني بضحكته المعهودة بعدما فتح فاه وارتسمت على أسنانه المصفرة ثلة من الذكريات:
أين تلك البذلة التي كنت تحملها عل جسدك النحيف أيام العربي و فطومة ؟ أين المصباح الجميل ؟ ربما ضيعته ؟ ستنزعج جدتك و سترتفع جثثها إلى السماء حتى ترى كتب القدماء تنادي بالخلاص.
ناديته بلقبه الذي يعرفونه الكثير من أحباب الهوى. أجابني بلطف :
هو أنت مرة أخرى...تتبع خطواتي .....آه عليك يا العفريت !
نعم، أنا لكن لست أنا الذي تعرفه أقدامك و صوتك...
لماذا أتيت إلى هذه المقبرة ؟
لقد قررت العودة ...
أصبت بمرض لن يعالجه إلا الحكماء، و أين هو حكيم زمانك في هذا العالم !
مرضي هو عودتي الضالة و الموت شهادتي الأولى و الأخيرة .
تفضل يا المسخوط. الجلسات هنا لها طعم خاص ممزوج بموسيقى تسمع لأول مرة قبل توزيعها على الورق !
غريب أمركم هنا، لكن قل لي ما حكاياتك الأخيرة ؟
كيف أبدأ و كيف سأنتهي ؟
ما أخبار عائلتك أطفالك و زوجتك ؟
لقد تركتهم ... لم أراهم منذ سنوات. الوجوه أصبحت قبيحة ولا تترك لنا فرصة للنظر في المرآة والاستمتاع بأقرب الناس . أبحث الآن عن شيء اسمه ما وراء الحياة.
وهل اكتشفت ملامحه ؟
مازلت في طريقي إلى مكانه. أجلس على الجمر، أضحك مع النادمين و السكارى و أبكي مع سعداء الزمن المقلوب طيلة النهار.
قضاء ساعات في هذا المكان يعد أمر عجيبا. أحس وكأنني قضيت هنا عقودا من الزمن . لم أقاوم النظرات التائهة. اضطررت إلى تقبيل جبين صديقي مرة أخرى .رائحة شعره كانت تشبه رائحة الزعتر . همست في أذنه :
أودعك سيد الشيخ، لو عرفتك أنك تحب الكلام المعسول، لطردت اللعنة ومكثت في غرفكم الجميلة إلى الأبد.
غادرت المكان من جديد . أتسكع في شوارع هذه المدينة المجنونة حتى أصبحت الكلاب تعرفني . أتمحص في كل شيء ، دروب آيلة للسقوط ووجوه تشير إلى ألف علامة ودليل . كدت أضيع في مساحة المعاني، لولا أنني التقيت صديق يبدو لي أنه مريض جدا. لقد تذكر ابتسامتي وحركة عنقي عندما أحركه إلى الخلف. عندما رآني ،ردد تلك العبارات التي كنت أطلقها كالبارود ،عندما أصل إلى ذروة النشوة رفقة علال و المعطي و المجموعة . طرقت باب بيت الصديق المنسي. قال لي وهو فرح بقدومي :
أه ، كم من قبة تزار و صاحبها حمار !
أخذني بين ذراعيه مُرحبا بقدومي. كان معطفه ساخنا تنبعث منه رائحة الحنان. كان واثقا من نفسه و كأنه يعرف كل شيء عن زيارتي. حملت الخبر الذي كانت تضعه أمه بين ثدييها. ساعدت أبوه في الوقوف والجلوس على كرسي متآكل اغتالته الرطوبة. ناداني الأب اللطيف :
ألف مرحبا . ستأكل معنا اليوم العدس !
المكان ضيق جدا . خال من كل شيء ضروري للعيش. يوجد فقط صحن يتيم على الأرض و قطع ضائعة من الخبر اليابس. أما كأس الماء فكان فارغا يتنزه فوقه الذباب. سألت نفسي ربما أعثر على الجواب الشافي:
ولماذا سيرقص الذباب فوق الكأس بعيدا عن العدس ؟
لم استمتع بأسئلتي التائهة . صديقي طلب مني أن أضع يدي مع الجماعة. الأب رد عليه بصوت فيه هبة فريدة:
إن الله مع الجماعة .
لم أتردد في النطق و الكلام . خرجت الألفاظ من غير سابق إعلان :
ذكرياتكم لم تندثر. أصواتكم مازالت ترن في نفسي . لقد سألت عنكم ألف مرة وأنا هناك . قالوا لي بأنكم رحلتم عن البيت وتركتم لعنة الجرذان . أما حالكم فظل على ما هو عليه . لم تتغير أمور كثيرة في هذا البيت . كنت أود أن أقول أشياء ، لكن المكان و الزمان و هبة الأب لا تسمح بذلك...كنت أود أن أفصح عن حقائق تهم ابنهم الذي لم يعثر على عمل و قرر الزواج لتجديد النسل، قبل ترك زوجته و ابنه. إنه يحلم بالهجرة خارج مدار بلدته. لقد فضل أن يبيع القارورات الزجاجية الفارغة ،بدلا من بيع ضميره أو الوهم لبعض الجبناء !
العدس أنساني لذة الحديث واستنشاق هواء التاريخ ،في بيت مغمور بالحب و العشق الأبدي . انتهى زمن الأكل و الكلام وجاءت لحظة الوداع النهائي. لقد قبلوني جميعا قُبلا سمعت أصواتها خارج الدار ! كانت اللحظة قاسية وكأنها المرة الأخيرة التي سأرى فيها هذه العائلة . لم أتحمل العبارات . سقطت بعض الدموع الباردة على وجنتي ،وأنا قرب الباب الخلفي للبيت . كانوا كلهم ينظرون إليَّ و كأنني قمت بعمل يتناقض مع القواعد و التقاليد المحلية. بدأت أتمايل، قصدت مكان ما في المدينة دون أن أعرف وجهتي.
كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساء بالتوقيت المحلي لمدينة برلين . نهضت على صوت موسيقى موتسارت الذي اخترق جدران غرفتي .فتحت الباب قصد التأكد من ظلام الليل. حملت صورة أبي على كتفي ثم ألقيت بنفسي فوق السرير وكأنني استسلمت لصور الموتى. اكتشفت أنه مازال في نفسي قليل من رائحة الجثث التي شربت معها و أكلت عدسها و قبلت وجوهها الملساء. قررت دخول الحمام عسى أن أغتسل و أتخلص من رائحة يعشقها الكثيرون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.