تحول الخلاف بين صحافيين تونسيين يعملون في إطار "المجلس الوطني للحريات" الى فضيحة اكدت المخاوف من ان الدعم الخارجي لبعض الجمعيات المدنية يسيئ الى قضايا حقوق الإنسان، ويثير الاحباط في صفوف الساعين الى تعزيز مكانتها في المجتمع. وكان الجدل والتراشق بالبيانات بين السيدة سهام بن سدرين رئيسة "المجلس الوطني للحريات" والمشرفة على مجلة وراديو "كلمة" وبين السيد الصحبي صمارة رئيس قسم الأخبار في "كلمة" انطوى على اتهامات بالمتاجرة والتكسب من وراء الدفاع عن حقوق الإنسان من جهة، وعلى ارتباطات بأجهزة مخابرات من جهة أخرى. ويكاد من العسير التقين من صحة الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، إلا انها أثارت ما يكفي من التساؤلات حول ما إذا كان من الجائز تلقي أي دعم، مادي او معنوي، من الخارج من جانب جمعيات او مؤسسات مدنية يفترض ان تكون صدى لتطلعات اجتماعية محلية. وتحرم التشريعات التونسية تلقي الأموال من الخارج. وتضمن هذه التشريعات تقديم الدعم للعديد من الجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية المعارضة. وفي حين ان تمويل الجمعيات الخارجة كليا على النظام العام، ما يزال جزءا من منطقة رمادية في العلاقة بين هذه الجمعيات ومؤسسة الدولة، فان مصادر رسمية عديدة ألمحت مرارا الى ان التمويل الخارجي يشكل معضلة سياسية حقيقية تجعل من هذه الجمعيات تبدو كما لو انها "حصان طراودة" داخل المجتمع المدني، وليست بالضرورة صوتا نابعا من إرادته. وسواء صحت الاتهامات حول التمويل الخارجي لهذه الجمعية او تلك، أم لا، فان المعضلة الأكثر تعقيدا تصيب في الصميم الإطار الأخلاقي لقضايا الدفاع عن حقوق الإنسان. فالتمويل الخارجي يجعل من أي جهة صدى لطموحات وسياسات واجندات مصادر الدعم. في حين ان قضايا الدفاع عن حقوق الانسان يجب ان تتسم بالنزاهة الكلية، وبخاصة في شؤون المال، لتكون نضالا اجتماعيا حقيقيا. والسؤال: من أين لكم هذا؟ يكفي بحد ذاته لرسم الحد الفاصل بين جهة تحوّل حقوق الانسان الى تجارة، وبين جهة تقصد تحقيق تقدم فعلي في تطبيق ومراعاة القوانين المتعلقة بحماية حقوق الإنسان. وتعد تونس واحدة من أكثر الدول العربية تقدما من ناحية التشريعات المتعلقة باحترام وحماية حقوق الإنسان. وفي حال توجه المتنازعون في مجلة "كلمة" و"المجلس الوطني للحريات" الى القضاء للفصل في الاتهامات، فان الأمر قد يوفر مناسبة مهمة للكشف عن الحقائق. إما إذا اقتصرت التهديدات على ملاحقات قضائية في الخارج فانها ستعد مسعى لتحاشي المواجهة مع المعنيين من "اهل طروادة". وكان صمارة أصدر بيانا مؤخرا وزعه على وكالات الأنباء والعديد من الصحف التونسية يعلن فيه الاستقالة من "رئاسة تحرير" النشرة الالكترونية "كلمة" وهيئة المجلس الوطني للحريات الذي تديره السيدة بن سدرين، واحتج في بيانه على ما وصفه «وجود فئة من الأفراد الانتهازيين تلوث المشهد الحقوقي التونسي»، متهما السيدة بن سدرين بانها «تعاملت مع فريق مجلة وراديو «كلمة» الالكترونية بأفظع أشكال الاستغلال والخداع وهي ممارسات تتنافى مع ما تدعيه من خطاب حقوقي مزيف». وقال صمارة، من دون ان يقدم أدلة كافية، "ان بن سدرين حوّلت التظلم من المضايقات إلى صناعة رابحة للحصول على تمويلات أجنبية". وألحق صمارة احتجاجه بالاعراب عن تضامنه مع زميلة قال انها تعرّضت للتنكيل والطرد. وقالت الصحفية المطرودة خولة الفرشيشي من جهتها في بيان وزعته على الصحف المحلية "أنها لن تسكت عن المظلمة التي تعرّضت إليها من قبل السيدة بن سدرين متهمة إياها أيضا بتضليل الرأي العام الداخلي والخارجي". وردت هيئة تحرير "كلمة" على اتهامات صمارة بالقول "إن الافتراءات التي وقع تداولها دبرت في مخابر المصالح المختصة بتونس"، وذلك في إشارة الى ارتباطه باجهزة مخابرات لم يتم تحديدها. ولم تقل "كلمة" كيف علمت بتدبير "مخابر المصالح المختصة" لتلك "الافتراءات"، كما انها لم تكشف الأدلة التي توفرت لديها لتوجيه هذا الاتهام. وقالت ان السيد صمارة لم يكن يوما لا رئيس تحرير "كلمة" ولا عضوا في المجلس الوطني للحريات، بل كان واحدا من الشباب الذي وقع انتدابه في شهر اغسطس/آب الماضي في راديو "كلمة" لتدريبه على البث الاذاعي على الانترنت والعمل ضمن فريق يعمل من اجل اعلام بديل مستقل ونزيه". وأضافت "نحن نحتفظ من جهتنا بحقنا في الالتجاء إلى القضاء وإلى جميع الجهات التي تملك مبدئيا أو فعليا صلاحيات إنصافنا من جميع الإطراف التي يثبت تورطها في نشر الأخبار الزائفة قصد تشويه سمعة فريق كلمة بصورة عامة". ورد السيد صمارة على هذا البيان بالقول "ان السيدة بن سدرين أنكرت أن أكون قد عملت معها بصفة رئيس قسم الأخبار في راديو ومجلّة "كلمة" وتنكّرت لعضويتي في المجلس الوطني للحريات". وقال "ان السيدة بن سدرين "تتقاضى باسم الراديو والمجلّة والمجلس منحا تفوق مليون يورو في العام فيما يتراوح أجر أفراد الفريق العامل بين 200 و300 يورو". وأضاف "إن إطلاق التهم جزافا حول الارتباط بأجهزة السلطة في تونس لن يعفي السيدة بن سدرين من ضرورة أن تجيب على التساؤلات الملحة المطروحة حول ارتباطاتها المشبوهة والمدفوع أجرها مع عدد من الأجهزة الأجنبية هي تعرفها". واعرب السيد صمارة عن استعداده لمواجهة القضاء، مضيفا "أقول هذا قبل أن أعرض ملفّي على نقابة الصحفيين وعلى القضاء لإثبات حقيقة كلامي وزيف ادّعاءاتها". ويعتبر العديد من الإعلاميين في تونس وخارجها ان حمل ملف هذه القضية ليطرح امام القضاء بالفعل ربما يكون هو الفائدة الوحيدة التي يمكن توخيها من التراشق بالبيانات. فالطرفان المعنيان قد يتعلمان شيئا مفيدا ومتبادلا، هو ان إطلاق الاتهامات من دون دليل، جناية قائمة بذاتها. ولعله سيتاح لأهل "طراودة" أن يتأكدوا من ان حصان الدفاع عن حقوقهم، حصان بالفعل، لا مجرد فخ للإطاحة باستقلال وحرية بلادهم.