العجيب في المشهد الغزاوي هذا الأسبوع ليس القوة الغاشمة الصهيونية التي تقصف أبرياء الشعب الفلسطيني و تدك البيوت الأمنة و تقتل الأطفال و النساء، و لا العجيب هو الدعم الغربي الجائر الذي يواصل التكفير عن ذنوب الجيل الألماني و الفرنسي السابق الذي اضطهد اليهود و أباد منهم مئات الالاف مابين 1939 و 1945. العجيب في المشهد المرعب ليس أيضا الصمت العربي الرسمي الذي أعطى لانتقام الصهاينة ما يحتاجه من المساندة السلبية و غلف جريمتهم بالنسيان . كل هذه الحالات العجيبة تعود عليها المناضلون الفلسطينيون و خبروها منذ عقود و تحولت جهودهم الى تعبئة الداخل و اغلاق باب الانتظار الطويل للذي لا يأتي. و أدرك الفلسطينيون بأن ميثاق الدفاع المشترك الذي يزين واجهة جامعة الدول العربية و الذي وقعه العرب في عهد يسميه التقدميون و الجمهوريون العرب المساكين بالعهد البائد أي عهد الملوك العرب عندما عقدوا العزم في مارس 1945 و أسسوا جامعة الدول العربية واتفقوا على أن يكون أمينها العام الرجل المثقف الوطني العروبي عبد الرحمن عزام باشا ( الجد للأم للدكتور أيمن الظواهري !) و حين علقت العروش العربية تعاونها مع الغرب على شروط العدل الدولي في قمة أنشاص بمصر التي دعا اليها طيب الذكر الملك فاروق ملوك و زعماء العرب في مايو 1946 و أنشدت لهم أم كلثوم قصيدة من شعر حافظ ابراهيم التي يقول في مطلعها: هذي يدي عن بني مصر تصافحكم فصافحوها تصافح نفسها العرب بني العروبة هذا القصر كعبتكم و ليس منكم من الحجاج مغترب. و العجيب في مجازر غزة التي أعطاها الجيش الاسرائيلي عنوان رأس الحربة ليس كما يعتقد المراقبون الدوليون استحلال الدم الفلسطيني و اقامة محاكمة مهزلة للشخصيات الحماسية المنتخبة من وزراء و نواب الشعب حتى أن المؤرخ و المفكر الفرنسي فرنسوا بورغا كتب في الصحف الأوروبية يقول : تصوروا قصفا جويا لقصر الايليزي و قصر ماتينيون و اختطاف رئيس حكومتنا دومينيك دو فيلبان ورئيس برلماننا جون لوي دوبري بسبب احتجاز جندي عدو في الحرب أثناء الاحتلال ! هذا هو الذي يقع لفلسطين اليوم ! و العجيب اليوم لم يعد كذلك استعمال القصف بالطائرات ضد القرى و الأحياء المدنية في مخالفة اجرامية مبيتة لكل المواثيق الأممية و كل معاهدات القانون الدولي الموقعة و كل نواميس الحرب بحجة استرداد جندي عدو واحد متواجد على أراض أعلنتها منظمة الأممالمتحدة أراضي محتلة و شرعت الدفاع عنها و تحريرها بكل الوسائل المتاحة كأي أرض محتلة. و العجيب ليس كذلك أن يقف الشباب الفلسطيني وحده و بأيد عزلاء في مواجهة أعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط، فقد كان ذلك حاله منذ 1948 عام النكبة. كما أن العجيب ليس البيان المتردد الذي أصدرته منظمة كوفي عنان وهو غير ملزم يعاتب فقط الدولة العبرية على عدم التلاؤم بين الأسباب و الوسائل المستنفرة ! في لهجة تعودنا أن نسمعها من واشنطن و ليس من نيويورك ! و من البيت الأبيض و ليس من بيت الأمم ! أما العجيب حقا فهو الفرق بين عرب 1946 و عرب 2006 . ستون عاما تم خلالها القضاء على المجتمعات المدنية العربية التي كانت تتأثر بعفوية و ترد الفعل بسرعة و تعبأ نفسها للذود عن الثوابت و القيم و المصير و تناصر الأخوة و الأشقاء دون تردد. و أنا أذكر في أيام الصبا حين تم اغتيال الزعيم النقابي و الوطني التونسي فرحات حشاد في تونس يوم 5 ديسمبر 1952 فاذا بمظاهرة عارمة تخرج في الدارالبيضاء بالمملكة المغربية يستشهد خلالها على يد نفس الاستعمار الفرنسي ثلاثة أبطال مغاربة، و لم تكن لدى الناس لا فضائيات و لا شبكة أنترنت تنقل الأخبار بسرعة اليوم. بل حتى حين لم تكن لدى العرب سوى قوافل البعيرمنذ ألف عام خرج الامام الدمشقي أبو سعد الهراوي من منبر المسجد الأموي حين سمع بأن الصليبيين دخلوا بيت المقدس و قتلوا المسلمين عام 1099 عاري الرأس حافي القدمين يتجول بين ملوك العرب و قبائلهم داعيا للجهاد و الدفاع عن أول القبلتين و ثالث الحرمين. أو حين خرج عام 1800 البطل الاسلامي سليمان الحلبي من الشام ليصل مصر فيقتل قائد الحملة الفرنسية الاستعمارية على مصر و الشام الجنرال كليبير بعد أن بلغته أنباء استشهاد علماء و طلاب الأزهر الشريف! أين المجتمعات المدنية العربية التي قاومت الاستعمار و حملات التنصير و كسرت شوكة الطغاة العنصريين؟ لماذا أصبح كل المجتمع في الجمهوريات العربية يتحرك ضمن الحزب الحاكم و في قوالبه و حسب مشيئة الحاكم مما أفقد شعوبنا حرارة الصدق وأخمد لديها جذوة الكفاح فعزت النصرة للمظلوم و عز النصر لصاحب الحق. انها المصيبة الكبرى التي تنذر بتفكك العصبية التي ذكرها العلامة ابن خلدون و التي سماها الكواكبي انفجار الحب و النوى في النفس الأبية و أطلق عليها هذه الأيام أستاذنا محمد حسنين هيكل عبارة طريفة و لكنها صادقة هي هروب العرب من التاريخ !