في مفترق السيدة المنوبية في حدود شهر أفريل من سنة 1982 ضبطتّ موعدا في الكلية مع زميل لي، لأنسخ عنه المحاضرات الدراسية، استعدادا لإجراء الامتحانات الجامعية لدورة جوان. كان زميلي في الموعد، وأنجزنا عملية النسخ، ثم ودّعته وبين يديّ حمل كبير من المطبوعات، لم أحسب له حسابا، ولم أتسلّح لحفظه بحاوية، وغادرت متوجها إلى منزل خالتي، السجينة السياسية سابقا حدة العبدلي بمنطقة السيدة المنوبية، أين كنت أستقّر وقتها. ولما تجاوزت المفترق المحاذي لمعهد محسن العياري، اهتزّت نفسي لشخص أحكم قبضي من الخلف، قائلا: " لقد وقعت ياابن ال...." بلغة رقيقة انتحلها من أدب ما تحت الصرّة، وسرعان ما تبيّنت، أنه أحد عونين كانا بالمفترق ينظّمان حركة المرور، وكان يعتقد حين لمحني من بعد، أنّني أحمل مناشير سياسية، لتوزيعها في الأحياء الشعبية المترامية حول العاصمة. خاطبني بخشونة وهو يرجّني بين يديه رجّا: " هل بلغت من الوقاحة ما جعلك تروّج المناشير في وضح النهار وعلى مرأى من أعوان الأمن؟" عجّلت بالإجابة لدفع الشبهة فقلت له: خذ، اقرأ ما في الأوراق، ودفعت بين يديه المحاضرات، فجعل يحرّك شفتيه محاولا القراءة، وأعاد ذلك مرات، ثم قلّب الصفحات: الأولى والثانية والثالثة والرابعة، ثم جعل يتمتم ويغمغم، ثم رفع رأسه برهة وهو يرمقني بنظرة توحي برغبة في السؤال، ثم عاد يلامس الأوراق وهو يتمتم ويغمغم، يحاول القراءة من جديد، ولمّا استحال عليه الفهم خاطبني: قل لي يا مصيبةُ، ما هذا؟ تعال، اقرأ هنا؟ قلت له: اقرأ بنفسك لتتأكد أنّها ليست مناشير. فجعل يتلعثم ويتعثر في القراءة بصوت مسموع، وهو يقول: "بنام خدا واند" ثم توقف فجأة، وهزّ رأسه وقد لاحظ أنّني كنت بصدد الابتسام وقال: "تعال يا سي...، اقرأ ما هو مكتوب هنا " وقد انسابت من فمه مفردات لطيفة مختارة بعناية كان لها وقع مدوّ في نفسي كوقع الصواعق. قرأتُ في مطلع الصفحة الأولى: "بنام خدا واند بخشند مهربان" فعلّق سريعا قائلا أنّه لم ير في حياته لغة عربية بهذا الشكل، غير أنّني أخبرته بأنّ ما حيّر أمره هي اللغة الفارسية وليست العربية، وأنّ حمولة المطبوعات التي كنتُ أحضنها ليست إلا محاضرات جامعية. عندها ثارت ثائرة ذلك العون لابتسامتي السابقة، وقد قرأ فيها سخرية منه، فانهال عليّ صفعا ولكما، الأمر الذي بعثر أوراقي ونثرها على الأرض، والمارةُ في ذهاب وإياب يسترقون النظرات، وتوعّدني بلسان الجادّ الواثق بأنّه " س...أمي، لينسيني قلّة أدبي"، مضيفا: "أنّ الطالب ليس... كبيرة ". ثم سحب منّي بطاقة تعريفي الوطنية وبطاقة الطالب، وأشار عليّ بالوقوف تحت الحائط، حتى ينظر في شأني، ويجعلني عبرة لمن يعتبر. حاولت تصحيح الصورة لديه، لأخلص من الورطة التي أوقعت نفسي فيها، وما إن هممت بالحديث إليه حتّى ركلني برجله، وصاح في وجهي: " انتظر هناك حتى أعود إليك" وكان يشير بيده إلى واجهة محلّ لبيع المرطبات على مقربة مناّ. والتحق بزميله في مفترق الطريق، وبقيت أنا منكودُ الحظ متكئا على الجدار، مردّدا في نفسي المقولة الشائعة " يأتيك البلاء يا غافلُ". ظللت في ذلك المكان أعدّ المارة، وأشغل نفسي بأطوار غريبة كان يأتيها بعض المجانين المترددّين على مقهى مجاور لي، ومن حين إلى آخر كنت أعود إلى نفسي، فأهزّ رأسي سريعا لأرصد حركات ذلك العون وهو يستخدم جهازه اللاّسلكي، متوقّعا بين الفينة والأخرى أن يستدعي لي عربة الأمن، لتأخذني إلى حيث لا أعلم. بقيت على تلك الحال ساعات، منتظرا ما سيتقرر في شأني، إلى حين انتهاء توقيت عمل الدورية. وما إن حلّت عربة الأمن بالمفترق لتركيز الدورية الجديدة، حتّى رفع ذلك العون رأسه، وأشار إليّ من بُعد بسبّابته يطلبني بالعجل. انطلقت نحوه برجفة في نفسي وخفقان متزايد في قلبي وقد تأكّدت، من أنّه سيزجّ بي في سيارة الأمن، ويأخذني إلى المجهول، وما كدتُ أقتربُ منه حتّى قذف في وجهي بطاقتي الطالب والهُويّة قائلا: " خذ أوراقك يا ولْد... لو لم يشفع لك زميلي لأوقفتك بتهمة التطاول على عون أمن أثناء القيام بواجبه"، قال ذلك بلسانه الرطّب وبألفاظه البليغة. جمعتُ بطاقتيّ من الأرض، وانطلقتُ مُبهجا خفيف الحركة، يُغذّيني إحساس جميل بالحرية، وفي نفسي أثر سيئ من تلك الحادثة، وفي ذاكرتي صورة قبيحة لرجل الأمن في وطني، ولكن كان المُهمّ عندي زمنئذ أن أعود إلى المنزل كسائر من يعودون إلى منازلهم وأن أبيت فيه كسائر من يبيتون، أما دون ذلك فقد كنت أراه من صغائر الأمور. - يتبع جيلاني العبدلي: كاتب صحفي