كنت أهم بمغالبة النفس والصبر على ماتذكره الحكومة التونسية هذه الأيام عن المعارضة التونسية ونشطاء مجتمعنا المدني ... , ولكن حين تحول الأمر الى تقسيم المعارضة الى صنفين: واحدة قيل في وسائل اعلامنا أنها وطنية , والثانية تم قمعها وهرسلة مناضليها وتشريدهم بين منفى وسجن أو حصار ثم اتهمتهم حكومتنا الموقرة بالعمالة وبيع الذمة والضمير للقوى الأجنبية ... حين يقع هذا أجد نفسي كاعلامي ومراقب للشأن العام معنيا طبعا بهذا الخطاب وهذه الاتهامات التي وصلت حد السفاهة والسفالة صباحا مساء ..! اذا كانت الموالاة والمشاركة في قبة البرلمان على أرضية السكوت على القهر والظلم والاستبداد وغمط الحقوق وطنية , فبئس الوطنية ! واذا كان الصدع بالحق والوقوف في وجه انتهاكات حقوق الانسان وأشكال القمع التي تمارسها بعض الجهات الأمنية والسياسية,والمطالبة بالاصلاح والشفافية واحترام القانون عمالة وخيانة ! , فمرحبا بالعمالة للحق والعدل والقيم النبيلة ... عجيب أمر حكومتنا !,حين تصرف القروض بمليارات الدولارات للنظام السياسي التونسي وحين تسكت أوربا وأمريكا عن قمع المعارضين والحقوقيين والصحفيين والنقابيين طيلة عقدين , وحين يتحدث شيراك عن سعادته بالتجربة التونسية وعن ديمقراطية الأكل والشرب في مقابل مصادرة حقنا كشعب في الاصلاح السياسي واحترام القيم الكونية لحقوق الانسان والحرية والعدالة والكرامة ..حينها ترحب الحكومة التونسية وتتحدث للعالم بملئ شدقيها عن النجاح الرائد عربيا وافريقيا وعن المعجزة الاقتصادية وعن النموذج التنموي السباق عالميا بمقاييس دايفوس أو ماشابهه من أسماء ..! بعد مايزيد عن العقدين لازلنا في تونس , أمام ثقافة سجن الصحفيين والاعتداء عليهم جسديا وأمام ضرب المحامين وتهديدهم في مطار تونسقرطاج ..! , مازلنا أمام ممارسة سياسة النفي القسري على المعارضين وحرمانهم من زيارة الوطن والأهل والأصحاب ! , مازلنا أمام ممارسة الكوتة الانتخابية بناء على ضرب البندير والمزمار , فمن اتقن صناعتهما أكثر فهو في قبة مجلس المستشارين أو في قصر باردو أو ربما حتى مقربا من قصر قرطاج ! كل من يتوافقون على المدائح والأذكار في الأحزاب الأليفة يقع تكريمهم في الصحف والاذاعات والقنوات التلفزية ومؤسسات الدولة , بل يقع توسيمهم وترقية منازلهم واعلاء شأنهم في كل حي وقرية ومدينة..! كل من يفتح فمه ويرفع صوته عاليا مستنكرا واقع الحيف والظلم والأبارتايد الذي يمارس على المعارضين والحقوقيين والاعلاميين والشرفاء يكون مهددا في لقمة عيشه أو في سلامته الجسدية أو حريته وحرية اهله وذويه ! وحين تكلم الحزب الاشتراكي الفرنسي عن اعتقال الزميلين زهير مخلوف وتوفيق بن بريك والاعتداء على الصحفيين ووصل الأمر الى سدة الخارجية الفرنسية وبعض منابر الاتحاد الأوروبي بعد أن احتجت المعارضة على طول الصمت الغربي والأوروبي في ظل امضاء تونس على اتفاقات وتعهدات دولية في مضمار الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان .., حينها صاحت حكومتنا الموقرة بأن هذا يعد عمالة واستقواء بالخارج والأجنبي !!! هل يمكن في زمن القرية العالمية وثورة الاتصالات وانفجار المعلومات أن تخفي الحكومة التونسية مصادرتها للحرية عن شعبها وعن مواطنيها طيلة عقدين كاملين دون أن يعرف العالم ان في تونس مشكلة حقيقية ومزمنة تتعلق بوجود نظام سياسي لايريد الاصلاح ولا التداول على السلطة ولاحتى احترام أبسط الحريات السياسية والفكرية في زمن العولمة والحداثة بمفهوم دولة القانون والمؤسسات !؟ سؤال طويل وعريض ووجيه ومنطقي لايمكن قمعه طرحا واستفسارا بعد أن اثرت الصمت رغبة في تبين اتجاهات مجاري الخطاب السياسي والاعلامي بعد انتخابات 25 أكتوبر 2009 ... الخطاب الرسمي التونسي يفر اليوم باتجاه وطنية كاذبة في مقابل وطنية مقموعة ومقهورة بأساليب ملتوية تعتمد الحل الأمني والخطاب الشعبوي الديماغوجي المستفيد من احتكار وتسطيح وتزطيل وتشطيح وسائل الاعلام...! وبعد هذا كله وحين قالت فرنسا الشعبية والرسمية كلمة حق بخصوص أوضاعنا السياسية تحرك الحكومة أشخاصا وهيئات في توقيت مشبوه من أجل الاعتذار عن حقبة الاستعمار ... ولماذا لم تطالب هذه الجهات بهذا الاعتذار من ذي قبل ؟ , ولماذا لم تفتح فمها بخصوص مايحصل من مسالخ ومجازر بحق الشعب الفلسطيني أو ماجاوره من شعوب المنطقة , ولماذا لم ترفع صوتها بخصوص الوضع الحقوقي والسياسي الوطني ؟!!! أحزاب تسمي نفسها معارضة وهي من جماعات الموالاة تتقاسم ادوار الدفاع عن القهر والظلم من خلال مقايضة بمقاعد برلمانية وأخرى في مجلس المستشارين ! , أما المعارضة الحقيقية فهي موزعة مابين سجن ومنفى ومحاصرة يوميافي قرى وشوارع تونسية...! وبعد ذلك تفر الحكومة الموقرة الى الأمام لترفع شكوى الى الاتحاد الافريقي واتحاد المغرب العربي وربما تجمع دول الساحل والصحراء ! , وهو مايعني ارتماء الديمقراطية التونسية المصادرة في أحضان لبيبا ومنظومة سياسية لم تعرف اطلاقا طريقها نحو الحداثة والتقنين والمأسسة ! أصبح نموذجنا السياسي مستنجدا بالعقيد القذافي ومصالح أنظمة سياسية تتبادل خبرات مصادرة الحرية وتطلعات العدل واحترام القانون وقواعد المساواة ..! هذا هو واقع الحال تونسيا دون تزييف أو رتوش أو مساحيق , ومن قال بغير هذا فهو اما مقهور مكره واما منافق ذي لسان عليم وقلب أعمى بلا ضمير .. والى أن تعود القاطرة التونسية الى تعهداتها في الميثاق الوطني وفي البند الثاني من اتفاقية شراكة برشلونة والى العقد الاجتماعي من منظور مونتسكيو وجان جاك روسو وقادة الاصلاح الوطني العظام والى ارادة الحياة في روح قصائد الشابي , الى ذلكم الحين اقول لكم دمتم في رعاية الله ...