يرى السيد زين العابدين بن علي أن لا عظمة تفوق عيادته للشاب محمد بوعزيزي الذي أحرق نفسه بالكاز، وقد يبقى شاهداً حياً على بشاعة الواقع الذي دفعه إلى صرخة اليأس التام تلك، الممزوجة بالاحتجاج والرفض. يرى موظفو النظام التونسي أن الصحف التي نشرت الوقائع الجارية "بالغت"، ثم انها لم تقدِّر حق قدره استقبال الرئيس في قصره الجمهوري لعائلات الضحايا والاستماع إليهم ومواساتهم. ويرون أن الرئيس فعل ما ينبغي إذ أقال حكام بعض الولايات، محملاً إياهم المسؤولية (!)، وأقال أيضاً وزير الإعلام الذي لم يُجِدْ احتواء الموقف. بل هو وعد بمعالجة بؤس الناس، فظهرت فجأة مخططات لمشاريع صناعية، أوروبية ومحلية، ستستثمر في المنطقة المنكوبة وتوظف الآلاف. في أي كهف يعيش أهل تلك الأنظمة؟ وقد خطر لهم أن مزيج القمع والإفقار والإفساد وصفة سحرية، وأن إفراغ الساحة من المعارضة الجدية يتيح خنق البدائل، فيمكن أن تدوم لهم. خطر لهم انه يكفي بعض الكلام المنمق عن "المعجزة الاقتصادية" التونسية لخداع الناس في الداخل والخارج، أو للدقة، لامتلاك خطاب معتمد، وإن كان تبريرياً، فيما تتوالى انتفاضات الخبز في البلاد، ويسطع واقع أن النمو المذكور يخص شريحة بالغة الرقة، تستفيد في بعض المدن الساحلية من النشاط السياحي وتوابعه، فيما المجموعة الحاكمة تمارس نهباً فجاً لكل إمكانات البلاد، وفي كل القطاعات، فتصادر ما يروق لها وتستكتب باسمها ما يروق لها، وتأخذ سمسرة من الشركات العالمية على كل استثمار وعلى كل تجارة في الاتجاهين، تصديرا واستيراداً، ثم تبذل عائداتها على البذخ فحسب... هؤلاء حكام وظيفتهم خدماتية، يتقاضون عمولات لقاء وكالتهم عن "الخارج"، متعهدين بضبط الأوضاع لمصلحة تأمين استمرار نظام النهب العالمي غير المحدود والاستباحة الكاملة. ليس ثمة ما يفوق أهمية أن المنتحر بالنار، وحسين فالحي، الشاب الآخر الذي تلاه وانتحر على رؤوس الأشهاد بالصعقة الكهربائية، أرادا القيام بفعل عام، علني، وهذا سلوك احتجاجي وسياسي بالمعنى العميق للكلمة، بينما القنوط وحده كان ليدفعهما إلى الانتحار بصمت. ثم ينبئ انفجار تونس من أقصاها إلى أقصاها عن الغيظ المكتوم، وعن تمثيل أوجاع هذين الشابين لسواهما، للأغلبية العظمى الذين لا يجدون عملاً رغم الشهادات العليا التي يحوزونها (اطمئنوا: يجري بحمية عالية تفكيك نظام التعليم العام الذي أنشئ هنا وهناك في المنطقة العربية في ستينيات القرن الماضي، حين كانت سمات مشروع تحديثي ما تطل برأسها، أو كان من الضروري توسيع الطبقة الوسطى لأسباب عديدة. سيصبح الشباب متبطلين وأميين. من لا يذكر كيف هتف عشرات ألوف الشباب الجزائري أثناء زيارة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك لبلدهم، "فيزا، فيزا"، فكان العار كله، حيث أصبحت المنى، الهجرة إلى بلاد المستعمر السابق الذي جرت مقاتلته وطرده، وما زالت وقائع استعماره والعنف الذي صاحبه موضع صراع بين البلدين، وما زال الجزائريون يعتبرون تحررهم من ذلك الاستعمار مفخرتهم الكبرى. فهل السلطات التي تعاقبت عليهم وأدارت البلاد، ذات الإمكانات الهائلة، بطريقة سيئة الخيارات، ومستبدة وبيروقراطية ثم فاسدة، "قصدت" نزع كل ذلك من عقولهم وذاكرتهم الجمعية، وتكفيرهم بالمليون ونصف مليون شهيد؟...تكفيرهم بأنفسهم! فحيث مجال للانقسام على أسس مذهبية أو إثنية أو جهوية أو عشائرية (وليس ذلك حال تونس المنسجمة انسجاما عالياً)، تطفو تلك الانتماءات على السطح وتشرذم البلاد، في إعلان واضح عن سوء الحال البالغ، وعن فشل مشروع البناء أصلاً، فكيف يكون مشتركاً، مرضياً، أو فاتحة ثقة بالمستقبل؟ هل يمكن مقاربة ما يجري بعنف في السودان واليمن، وبعنف أقل في أماكن أخرى، من دون اعتبار هذا البعد، ومعه انسداد السلطة وتمحورها حول عصبة تتزايد ضيقاً لتصبح عائلية أو يكاد؟ ليس ما يفوق أهمية، لتونس كما لسائر البلدان في المنطقة التي تتقاسم معها السمات الرئيسية لسلطات الإدارة بالوكالة/النهب، أن قتل المعارضة بإنشاء نظام بوليسي متكامل ومعقد لا يقمع قمعاً عارياً فحسب، بل يتغلغل في يوميات الناس ويُحوِّر النسيج الاجتماعي نفسه، ويشتري بعض النخب... كل ذلك لم ينجح إلا نسبياً: لعله عطل جهوزية البديل ولكنه لم يسحق الاحتجاج. وهو، هذا الأخير، جسر عبور دائم نحو التشكل، ونحو الأمل. هكذا ولدت "كفاية" وأخواتها في مصر على سبيل المثال. وهكذا توالت ظواهر لا تنقطع من الاعتراض، لم يخل منها بلد من المحيط إلى الخليج. وفي تونس، انضمت روابط المحامين والأساتذة إلى الاحتجاجات، وتوسعت الدائرة أفقياً وعمودياً، وتبلورت مطالب محددة تتعلق بحرية التنظيم النقابي والأهلي والسياسي، وبفرض "تفاوض" السلطة مع حركات الاحتجاج. وبرز أن التفاعل بين ما هو عفوي وما يمكن أن يصبح منظماً ليس معدوماً. للحديث تتمة، تطرح نفسها موضوعياً. فهي حاجة سياسية/فكرية لبلورة كيفية استعادة ملامح مشروع وطني عام. ثم يأتي دوماً شبان كبوعزيزي وفالحي، يفرضون بدمائهم الالتفات إلى ذلك الصوب.