يمكن القول بأن السنة السياسية في تونس انتهت دون أي مفاجآت. فالخطاب الذي ألقاه الرئيس بن علي بمناسبة ذكرى إعلان الجمهورية تضمّن تأكيدا على أن "الخيار الديمقراطي يبقى دائما أول مقوِّمات المشروع السياسي" للنظام. لكنه – أي الخطاب – خلا من أي إجراء سياسي، يترجم الالتزام المبدئي إلى ممارسة على أرض الواقع. راجت قبل يوم 25 يوليو الماضي أخبار وعدت بأن الخطاب الرئاسي التونسي سيشكل "خطا فاصلا بين مرحلتين". وقد أصبح الخطاب السياسي الرسمي يجنح إلى تمجيد المكاسب وإبراز الجهود التي بُذلت على جميع الأصعدة، خلافا للمرحلة الأولى من حكم الرئيس بن علي. لقد تميّزت تلك المرحلة بحِرص رئاسي على تضمين كل خطاب يُلقى في المناسبات الكبرى، عددا من الإجراءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ذات المضمون الإصلاحي. ورغم أن المعارضة كانت تصف بعض تلك الإجراءات ب"الجزئية"، إلا أن ذلك كان يُوحي بأن النظام يمتلك خطّة سياسية تعتمد على التدرج والمرحلية. لكن مند بضع سنوات، وبالرغم من ارتفاع سقف احتجاج المعارضة والمجتمع المدني، فقد بدا وكأن مشروع السلطة قد اكتمل أو أن جزءا من مكوِّنات نظام الحُكم قد أصبح يتمتّع بقدرة كافية للحيلولة دون تطويره من داخله. في مقابل ذلك، شهدت هذه السنة السياسية مند انطلاقتها حالة من التجاذب والاشتباك بين السلطة وعدد من فعاليات المعارضة والمجتمع المدني. تم منع انعقاد مؤتمر الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. هذه المنظمة الحقوقية التي يُجمِع كل التونسيين على ضرورة الحفاظ عليها، وجدت نفسها غير قادرة، قانونيا وسياسيا وأمنيا، على عقد مؤتمرها السادس في مناسبتين. وإذ تنفي السلطة أية صلة لها بعملية المنع، بحجّة أن الخلاف القائم هو داخلي يخصّ أعضاء الرابطة وحدهم، فإن الهيئة المديرة والجمعيات والأحزاب المساندة لها تُحمِّل الحكم مسؤولية المنع، مشيرة إلى دور القضاء من جهة، وتدل الأمن السياسي بكثافة من جهة أخرى، وهو ما تسبب في شللٍ شبه كامل لمُعظم هياكل الرابطة. ويتّفق المطّلعون على خفايا الملف على القول بأن هذه المنظمة الحقوقية العريقة تمر بأزمة حادّة بعد أن أصبحت عاجزة عمليا عن القيام برسالتها. غير أن السلطة في المقابل، تواجه بدورها مأزقا لا يقل حدّة كلّفها الكثير على الصعيدين، الدبلوماسي والإعلامي. فالاتحاد الأوروبي، رغم لوم المنظمات الحقوقية الأوروبية والمحلية، إلا أنه جعل من ملف الرابطة نُقطة مطروحة بشكل دائم على جدول الأعمال في مختلف محادثاته مع الحكومة التونسية، مهما كان طابعها، سياسيا أو اقتصاديا أو تجاريا، وهو ما أصبح يشكّل إزعاجا مُتواصلا للحكومة التونسية. وتفيد بعض المصادر بأن إلحاح الاتحاد سيزداد خلال الأشهر القادمة من أجل حلّ معضلة الرابطة، حتى لو أدّى ذلك إلى تقديم تنازلات متبادلة. ومن جهة أخرى، عاد الحديث من جديد على مبادرات وساطة قد تتولاّها شخصيات سبق لها أن تحمّلت مسؤوليات قيادية في الرابطة، ويتمتّع بعضها بعلاقات جيدة مع السلطة. شكّلت "حركة 18 أكتوبر" محاولة جديدة أقدَمت عليها بعضُ أطرافِ المعارضة من أجل تجاوز الخلافات الأيديولوجية والسياسية التي تشقُّها، وتوحيد جهودها في سبيل تحقيق حدٍّ أدنى من المطالب التي تلتقي حولها المعارضة. وقد حققت هذه المبادرة في البداية التفافا واسعا، نظرا لطابعها التوحيدي وإرادتها في التحدّي، غير أنها بعد انتهاء الإضراب عن الطعام الذي قام به عدد من رموز الأطراف المشاركة، تراجع نسق الدعم، وكثُر الجدل داخل الأوساط اليسارية، بالخصوص حول الجدوى من التنسيق أو التحالف مع الإسلاميين وتداعياته المستقبلية على موازين القوى. لكن، رغم الحصار الأمني الشديد الذي اعتمدته السلطة لتحجيم هذه المبادرة وشلّها، فقد استمرّت وصمدت، وتعزّز إيمان أصحابها بضرورة التمسك بخيارهم، والتقدم نحو إنجاز رُؤاهم المشتركة حول عديد القضايا، الفكرية والسياسية ذات الطابع الخلافي. وقد عقدت أطراف المبادرة اجتماعا في أواخر الأسبوع الماضي، اعتبره أحد الذين حظروا لقاءا هاما وضع "النقاط على الأحرف". ويُفترض أنه قبل نهاية شهر سبتمبر تكون الأطراف المشكّلة لمبادرة 18 أكتوبر قد توصّلت إلى أرضية مُشتركة وخُطّة تحرّك للسنة السياسية القادمة. شهدت السنة السياسية المُنقضية تعدّد المؤشّرات الدالة على أن شيئا ما قد طرأ على علاقة الاتحاد العام التونسي للشغل بالسلطة. فبعد الانسجام التام الذي ميّز علاقات الطرفين طيلة التسعينات ومطالع الألفية الجديدة، أخذ النقابيون يتملّصون من التحالف مع النظام ويتّخذون مواقف مخالفة للتوجهات الرسمية، بل ويُظهرون رغبة متزايدة في استعادة القرار المستقل لمنظمتهم. وقد تجلّى ذلك في مناسبات عديدة، مثل احتجاج القيادة النقابية على الدعوة الرسمية التي وُجِّهت إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون للمشاركة في الجولة الثانية من القمة العالمية لمجتمع المعلومات. وكذا، رفْض الاتحاد المشاركة في تركيبة "مجلس المستشارين"، رغم إلحاح الحكومة. كما تصاعدت الحركة المطلبية بشكل غير مسبوق، حيث أقدمت عديد القطاعات المهنية على شنّ إضرابات بتأييد من المركزية النقابية، ونظمت عشرات التجمعات النقابية مُعلنة بذلك عن عودة الحياة لساحة محمد علي، التي تُعتبر المعقل التقليدي للنضال النقابي. كما تعدّدت "الضربات من تحت الحزام وتبادل رسائل "الضغط والتهديد" المشفّرة بين الطرفين، مما جعل البعض يعتقد بأن الحركة النقابية مرشّحة لمغادرة "بيت الطاعة" خلال المرحلة القادمة، وهو أمر – إذا حدث – ستكون له تداعيات هامة على مُجمل المعادلات السياسية والاجتماعية في تونس. رأي عام معادٍ لإسرائيل أصبحت السلطة ترصِد بشكل يقِظ اتِّجاهات الرأي العام التونسي في القضايا ذات الطابع القومي. ويمكن القول بأنها استخلصت الدّرس من ردود فعل التونسيين على الدعوة السابقة التي وُجِّهت رسميا إلى أرييل شارون للمشاركة في قمة المعلومات. فقد تحرّك يومها آلاف التونسيين احتجاجا على تلك الدعوة. وبناء عليه، ورغم التصدّي بالعنف لكل محاولات التظاهر دون ترخيص احتجاجا على العدوان الإسرائيلي على لبنان وفلسطين، إلا أنها سلمت بحق التونسيين في التعبير عن غضبهم، وذلك في مناسبتين، تمّت الأولى بمشاركة الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي)، وهو ما أدّى إلى انسحاب عدد من الأحزاب والجمعيات، وجرت الثانية، يوم الثلاثاء الماضي، 1 أغسطس، التي لم تشارك فيها إلا المعارضة ومنظمات المجتمع المدني. ظهور الصعوبات الاقتصادية رغم نجاح الاقتصاد التونسي في امتصاص الصّدمات المُتتالية، التي تصدّرها أزمة الاقتصاد العالمي، غير أن ذلك لم يحل دون أن تتأثر القدرة الشرائية للمواطنين التونسيين بشكل ملحوظ، ومثير للقلق أحيانا.ةوازداد الأمر صعوبة بعد الارتفاع الجنوني لسعر برميل النفط في الأسواق العالمية، الذي دفع بدوره الحكومة إلى رفع سعر المحروقات مرّات متتالية خلال الأشهر الأخيرة. إلى جانب ذلك، تفاقمت ظاهرة العاطلين من أصحاب الشهادات الجامعية، وهو ما أدّى حركة احتجاجية لم تعرفها الساحة التونسية من قبل. وقاد هذه الحركة، التي قد تتطوّر خلال المرحلة القادة وتمتلك مقوِّمات حركة اجتماعية تضم ألاف الأعضاء، وتمس قطاعا واسعا من الرأي العام، مجموعة من هؤلاء الخرِّيجين الذين شكّلوا "اتحاد حاملي الشهادات المعطّلين عن العمل". وقد نظم هؤلاء، ولا يزالون، سلسلة من التحركات الاحتجاجية، منها وقوف أحدهم في الشارع الرئيسي بالعاصمة وعرض الشهادات التي حصُل عليها للبيع! تحرر إعلامي نسبي شهدت الصحافة الرياضية خلال الأشهر الماضية قفزة هامّة ومفاجئة. وانتقلت العدوى من الصحافة المكتوبة إلى القناة التلفزيونية الخاصة الوحيدة (حنبعل)، التي بثت على إثر انسحاب الفريق التونسي من دورة المونديال نقاشات صريحة وجريئة على الهواء، تضمّنت انتقادات لاذعة للتلفزيون الرسمي، بلغت حدّ مطالبة وزير الشباب والرياضة والتربية المدنية بالاستقالة. كما تطرقت تلك المناقشات إلى إشكالية تداخُل السياسي مع الرياضي، مما زاد من أزمة النوادي الرياضية وجعل مُعظمها يعيش حالات احتقان متجددة. وإلى جانب الصحافة الرياضية، بدأت القيود تخف قليلا على الأركان الثقافية بعديد الصحف التونسية، وهو ما سمح "برفع الحظر"، حسب تعبير البعض، عن عدد من الجامعيين والمثقفين الكبار، الذين عادت أسماؤهم وصورهم وأفكاركم لتُنشر من جديد في الصحف المحلية. كما تراجعت مضايقة صحيفة "الموقف"، الناطقة باسم (الحزب الديمقراطي التقدمي) المعارض، رغم نبْرتها النقدية العالية. هل تكون السنة القادمة أفضل من سابقتها؟ تلك أبرز ملامح السنة السياسية المنقضية. أخذ وردّ، خطوات متردِّدة، واستعمال مكثف للأمن في القضايا السياسية، مصحوبة باشتباك متجدّد مع النشطاء. وقد بلغ هذا الاشتباك أحيانا حدّ الإهانة غير المبررة والمس من الشرف، مثلما حصل قبل أيام مع الكاتبة المعارضة (أم زياد)، حسب شهود عيان. لكن، في المقابل، لوحظ حدُوث تراجُع بلغ ذِروته مع تغيير لافت لمسؤولين أمنيين رفيعي المستوى، دون أن يتحوّل ذلك إلى تغيير واسع في أسلوب التعاطي مع الخصوم، حيث تواصلت خلال الأشهر الماضية ظاهرة إضراب المساجين السياسيين عن الطعام بشكل مكثف وخطير، دون أن ينجحوا في تحقيق حتى المطالب البسيطة والعادية. ذلك هو المشهد السياسي التونسي مع نهاية هذه السنة السياسية. البعض يتحدّث عن أزمة نظام توقّف عن النموّ. لكن المؤكّد، أن تغييرا هادئا يجري، وهو ما يفتح المجال للتكهُّن بأن السنة السياسية القادمة قد تشهد تدافعا أكثر نُضجا، يجعل الحُكم أقلّ تردُّدا وانكماشا.