بدأت سنة 2007 بحادِثة الاشتباك المسلّح بين الشرطة وعناصر مجهولة، وهي الحادثة التي فاجأت السلطة والرأي العام. وها هي السنة نفسها تنتهي بمُحاكمة من بقي حيا من أولئك العناصر، الذين أصبحوا يعرفون ب "مجموعة سليمان"، رغم أنهم يفضلون أن يُطلق عليهم "جند أسد ابن الفورات". كان المحامون يأملون في تأخير القضية لمدة شهر على الأقل، للإطلاع على ملفات موكِّليهم، لكنهم اصطدَموا بإصرار قضائي، وربما سياسي، على طَي صفحة هذه المجموعة قبل نهاية العام أو في أقصى تقدير، مع مطلع السنة الجديدة. ويمكن القول بأن العام المنقضي، كان بامتياز عام المواجهة المتصاعدة، بين السلطة والتيار السلفي. الشاهد على ذلك، حملة الاعتقالات الواسعة، التي تمت في صفوف المتأثرين بما يجري في العراق خُصوصا. وبالرغم من غياب رقم دقيق لعدد الموقُوفين، إلا أن الأوساط الحقوقية تتحدّث عن اعتقال أكثر من ألفي شخص ضمن الحملة المُدرجة فيما يُسمى ب "مكافحة الإرهاب"، كما أن هناك وتيرة متسارعة لمحاكمة الكثير منهم، حيث صدرت خلال الأشهر الأخيرة أحكام قضائية، تراوح معظمها بين سنتين و12 عاما، ومنهم من تجاوز نصيبه العشرين سنة. كما كشفت التحقيقات والملفات أن هؤلاء لا يجمعهم تنظيم حزبي أو قيادة موحدة، وإنما هم أفراد أو مجموعات صغيرة من شباب لا تزيد أعمارهم عن 26 عاما، تأثروا بما يجري في بلاد الرافدين وتفاعلوا مع خطاب سياسي ودِيني أثار حمَاسهم، وجعل الكثير منهم يُقرر الالتحاق بما تصوروه مقاومة مشروعة في العراق. اعتُقل بعضهم في سوريا وآخرون في الجزائر، وصِنف ثالث لم يغادر تونس أصلا، وباستثناء جماعة "سليمان"، التي قرّرت أن يبدأ "الجهاد" من تونس، فإن الأغلبية الساحقة من أبناء هذا التيار غير المنظم، لم تكُن معنِية بالشأن التونسي ولم تفكر في مُمارسة العُنف ضد أيّ جِهة داخلية، وإنما الذي شغلها وحرّكها، نفس المشاعر التي حرّكت آخرين قدِموا من بلدان كثيرة لمنازلة الأمريكان على أرض العراق. ما أثار الحيرة ولا يزال في صفوف المراقبين، هو أنه بعد عام كامل من تاريخ القضاء على مجموعة "سليمان"، فإن الغموض لا يزال يحيط بجوانب من هذه القضية، إذ بالرغم من أن الجهات الرسمية سبق لها وأن ذكرت بأن هدف المجموعة كان التخطيط للاعتداء على سفارات أجنبية، وتحديدا سفارتي الولاياتالمتحدة وبريطانيا، إلا أن ملف القضية جاء خاليا من هذه الحيثيات – حسبما ذكره بعض المحامين - كما فوجئ الجميع بتوجيه تُهمة محاولة قلب النظام، مما حوّل اتجاه القضية وأدرجها ضِمن سياق مختلِف عمّا ذكره وزير الداخلية، في لقائه مع كوادر الحزب الحاكم، مما جعل البعض يعتقد بأن هناك مُعطيات لا تزال مخفية. وفي انتظار الكشف عن الحلقات المفقودة في هذه القضية، التي ذكّرت التونسيين بحادثة مدينة قفصة، وإن كانت أجواء المحاكمة هذه المرة تدور في ظروف غير مسبوقة، فإن كل المؤشرات تدُل على أن مرحلة مواجهة السلفِيين، مرشحة لكي تمتَد في الزمان والمكان، وهناك من لا يُخفي خِشيته مما قد يُفرزه الأسلوب الأمني الحاد، الذي يتم اعتماده مع أعضاء هذا التيار، وبالأخص ما يُمكن أن ينجَرّ عن احتمال تنفيذ أحكام الإعدام في عددٍ من أفراد هذه المجموعة. وما يخشاه هؤلاء، هو أن تتجدّد محاولات العُنف الموجّه نحو الداخل، سواء بدعم خارجي أو بدافع "الثأر"، فتصاعد وتيرة العمليات المسلحة في الجزائر وبقية دول المغرب، من شأنه أن يعزز احتمالات سعي البعض لزعزعة استقرار بلد مثل تونس، التي تمكّنت إلى حدّ الآن، من أن تكون خارج دوّامة العُنف المنظم والمحترف. مرت سنة 2007، دون أن يتحقّق الانفراج السياسي، الذي طالما توقّعته بعض الأوساط وروّجت له جِهات من داخل السلطة أو قريبة منها، وكانت آخر محطة انتظار، هي الذكرى العشرون لاستلام الرئيس بن علي الحُكم، حيث لم يتضمّن خطابه أي إجراء سياسي من الحَجم الثقيل، ممّا خلّف لدى الكثيرين شعورا بخيمة أمل، وبذلك، استمرّت حالة الاحتقان في أوساط شقّ من المعارضة والمجتمع المدني، حيث شكّل الإضراب عن الطعام لمدة شهر، الذي قام به مسؤولان في الحزب الديمقراطي التقدمي، أهم مظهر له في هذه السنة. لقد رفض الرئيس بن علي الانفتاح على هذا الصِّنف من المعارضة، التي تقف على النَّقيض من سياساته وتُشكِّك في شرعية الحُكم القائم وتعترض على ترشيح بن علي للانتخابات الرئاسية القادمة، معتبِرة ذلك "رئاسة مدى الحياة"، وبتعبير أدق، وضع الرئيس بن علي شروطا ضِمنية لأي علاقة محتملة مع الأطراف الاحتجاجية، لعَل في مقدّمتها، التسليم بقواعد اللعبة التي وُضِعت منذ انتخابات 1994. لكن، ورغم أن نفس الخطاب لم يُغلق باب الإصلاح نهائيا، حسب اعتقاد البعض من المعارضين، إلا أن جزءً من الأحزاب المتّهمة بكونها موالية للسلطة، عبّر بِدَوره عن رغبتِه في أن يتِم تعديل هذه القواعد بشكل يسمح لهذا الصنف من المعارضة من التخلّص، ولو نسبيا، من هيمنة الحزب الحاكم على مختلف جوانب الشأن العام. وقد عبّر عن ذلك بوضوح إسماعيل بولحية، رئيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، عندما انتقد صراحة (حزب التجمع الدستوري الديمقراطي) الحزب الحاكم، في برنامج تلفزيوني حواري تمّ بثه قبل أيام. والمعلوم أن بولحية يُعتبر من بين أكثر الشخصيات السياسية من خارج الحُكم، مقرّبا للرئيس بن علي، مع ذلك، هناك من يفترض بأن سنة 2008 قد تشهد خُطوات ملموسة في اتِّجاه ترضِية بعض تطلُّعات الشارع السياسي والنُّخب المتعلمة. "الخيار الثالث" من جهة أخرى، شهد "الحزب الديمقراطي التقدمي"، الذي يُعتبر من بين أنشط الأحزاب المكوّنة لهيئة 18 أكتوبر، تبايُنا عميقا في وجهات النظر حول منهج التغيير والعلاقة بالنظام، فقد أصدرت بعض عناصره القيادية عدداً من النّصوص طيلة السنة الجارية تحت عنوان "نصوص في التنمية السياسية"، صدر آخرها في مطلع شهر ديسمبر 2007. وقد اعتبر الموقِّعون عليه، أن إمكانيات الإصلاح السياسي لا تزال قائمة في تونس، وخلافا لمن يعتقد بأن الوضع السياسي قد وصل إلى حدِّ القطيعة، فإن هؤلاء يؤمِنون بوجود "تقاطعات هامة بين السلطة والمعارضة، من أجل إنهاء التنافي والبناء المشترك". كما أن أصحاب الوثيقة جدّدوا رفضَهم للمعارضة الراديكالية واتهموها ب "ضيق الأفُق"، وذهبوا إلى حدّ القول بأن "إرساء نظام سياسي جديد على أنقاض النظام القائم، بقطع النّظر عن عدم واقعيته، يظَل بدوره محكوما بجاذِبية التسلط"، وأكّدوا على أن "النجاعة السياسية تتطلب البراغماتية"، هذا الخطاب، الذي يعتبِره البعض "استسلاميا"، يشكِّل مؤشرا عن المأزق الذي تواجهه المعارضة في تونس، هذه المعارضة التي لم تتمكّن مرة أخرى طيلة سنة 2007 من تغيير المعدّلات لصالحها أو جذب اهتمام الرأي العام للمعركة التي تخوضها منذ سنوات طويلة، ضد نظام الحكم. وقد يبدو هذا الجدل الدّائر حول منهَج التغيير، هل يكون راديكاليا أو إصلاحيا، مجرّد نقاش داخل فصيل واحد من المعارضة الاحتجاجية، لكن الاقتراب أكثر من المشهد السياسي قد يكشِف بأن نِطاق هذا الجدل تتجاوز دائرة حزب واحد وأن سنة 2008 قد تشهد مُبادرات متعدّدة الأطراف، للبحث عما وصفته إحدى الصحف المحلية ب "الخيار الثالث"، بين طريق الموالاة وطريق القطيعة. لكن العقبة الرئيسية أمام الباحثين عن مِثل هذا الخيار، تتمثل في مدى استعداد السلطة لتقبُّل هذا النّمط الجديد من المعارضة، وهل ستوفِّر له شروط البروز والتَّبلوُر، أم أنها ستكتفي بتوظيفه لإضعاف الجميع؟ ملف رابطة حقوق الإنسان.. يظل معلّقا إن شيئا ما يحدُث داخل الساحة النقابية، هذا ما يلمَسه المراقب وهو يستعرض أهمّ التطورات التي سُجِّلت خلال هذه السنة الجارية، فالإضرابات العُمالية والقطاعية، عرفت وتيرة متصاعِدة خلال العام المنقضي، وهو ما جعل البعض يعتقد بأن سنة 2008 ستكون محكومة إلى حدٍّ كبير بتوتُّر اجتماعي بارز. فالغلاء في تونس، قد أصبح ظاهرة حادة تقض مضجَع الأغلبية الواسعة من السكان، بما في ذلك الطبقة الوسطى، التي اعتبرتها صحيفة "الشروق" بأنها أصبحت مرهُونة لدى البنوك، كما أن الخصخصة لا تزال تخلِّف وراءها ضحايا يعزِّزون سنة بعد سنة جبهة العاطلين عن العمل، إلى جانب ما تقذف به المدارس والجامعات من كُتل بشرية ضخمة كل عام نحو سوق الشغل. أخيرا، استمر مِلف الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان معلَّقا للسنة السابعة على التوالي، ورغم أن سنة 2007 تميّزت عن غيرها بفتح حوار متقطّع بين الهيئة المديرة لهذه المنظمة وبين السلطة من خلال رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان، إلا أن المحادثات التي تمّت، لم تفض إلى حلول عملية لتمكين الرابطة من عقد مؤتمرها السادس، وبالتالي، إلغاء الأحكام القضائية التي تمنعها من ذلك، وإذ تجدّدت من حين لآخر الحملة الإعلامية ضد رئيس الرابطة والهيئة المديرة، إلا أن الأيام الأخيرة الماضية شهِدت عودة الاتصال والمحادثات بين السيدين مختار الطريفي (عن الرابطة) ومنصر الرويسي (عن السلطة)، وبذلك، تجدّد الأمل في احتمال تسوية قريبة لهذا الملف، الذي لا زالت تعتبره الأوساط الدبلوماسية بمثابة المِحرار الفعلي لقياس درجة الانفتاح السياسي للنظام. هكذا بدا المشهد السياسي في تونس طيلة العام الذي ودعنا، فهل يُمكن القول بأن السلطة قرّرت بوَعي ترحيل قرارات الانفراج السياسي للعام الجديد؟ الأكيد أن سنة 2008 ستمحو سياسيا حول تكثيف الاستعدادات السياسية للانتخابات الرئاسية والتشريعية، التي ستنظم خلال سنة 2009، وهي انتخابات ستكتسب، من الناحية الرمزية، أهمية خاصة للرئيس بن علي الذي يتهيّأ لدورة رئاسية خامسة.