دعونا نترحم ابتداء على أرواح الشهيدين الذين سقطا في صفوف جيشنا الوطني ببلدة الروحية الواقعة بالشمال الغربي التونسي من جهة سليانة , اذ لاشك في أنهما أديا خدمة عظيمة للوطن حين تصديا لبعض الخارجين عن القانون من حملة السلاح ... لايمكن في هذا الموضع الا الترحم على شهيدي وبطلي الخدمة العسكرية , وتخليد روحهما الباسلة وهي تواجه رصاصا غادرا لم يوجه الى وجهته الحقيقية , اذ أن تونس ليست ساحة حرب ضد عدو خارجي وانما بلد آمن يعيش ظرفا انتقاليا نحو تحقيق مدارات الكرامة والحرية ... الجيش الوطني والحرس الوطني وحرس الحدود وشرفاء الأمن الداخلي يؤدون هذه الأيام واجبا مقدسا عظيما وهم يذودون عن حدودنا الجنوبية في وجه قذائف وصواريخ كتائب القذافي المنهمرة بين الفينة والأخرى على بلدة الذهيبة , دون أن نغفل طبعا عن دور وطني آخر يقوم به هؤلاء على حدودنا الشرقية مع الجزائر من أجل التصدي الى المهربين والعابثين بأمن بلدان المنطقة من حملة السلاح ... وحين نتحدث عن هذا الدور الأمني والعسكري الوطني والشريف , لاينبغي تحريف الخبر وتضخيمه باتجاه نسبة كل مايقع فوق التراب التونسي من انحرافات أمنية أو ضبط مسلح الى تنظيم القاعدة المرفوض جماهيريا , اذ ينبغي ادراك تداعيات الوضع الليبي على الساحة الداخلية , فاستمرار معركة التحرر الوطني بين الثوار من جهة وكتائب القذافي من جهة أخرى , قد يحول الساحة التونسية الى ساحة امداد بشري ومادي بين الطرفين , وهو مايعني تطور شبكات الامداد الى بعض المتحمسين على هاته الجهة أو تلك ... صحيح أن الثوار الليبيين ينظرون الى تونس بكثير من الاعجاب والاكبار والوفاء , فقد استلهموا ثورتهم من معين ثورة الحرية والكرامة بالوطن العزيز , وهو مايعني أنهم في تطلع الى استثمار كل امكانات الدعم المجتمعي والشعبي بالشقيقة تونس ... لم يقصر التونسيون بلاشك في مؤازرة أشقائهم في ليبيا فمخيمات اللاجئين بالجنوب التونسي وبيوت التونسيين وموانئهم ومستشفياتهم شاهدة على ذلك , ويكفي أن ننظر الى مدن تطاوين وقبلي وبن قردان والذهيبة وقابس وصفاقس حتى نوقن بما تقدمه تونس اليوم الى هؤلاء الأشقاء في محنتهم العظيمة وثورتهم الباسلة... حين يعبئ أنصار القذافي وامتدادات كتائبه البنزين والوقود من تونس نسكت عن الكلام المباح , وحين يتردد كبار قادة النظام الرسمي الليبي على جربة وجرجيس وحتى العاصمة نضطر الى السكوت من باب الحرص على عدم توريط تونس في صراع هي في غنى عنه , وقد ينظر الى ذلك من زاوية شعبية على أنه خيانة لدماء الأبرياء من أبناء الشعب الليبي ..., فقذائف الكتائب وأسلحة التدمير الروسي المستوردة من قنابل وصواريخ تحرق وتمزق أجساد شعب شقيق ... بالمقابل تحاول بعض الجهات التونسية اعلامية كانت أوسياسية أو ربما حتى من بقايا التجمع أو البوليس السياسي تضخيم بعض الأحداث أو عمليات الضبط الأمني بالحديث عن أجهزة أمن متطورة مسكت بيد متعاطفين مع الثوار , أو بنسبة كل الممسوكات أو المضبوطات الى عناصر تنشط في شبكة القاعدة ببلاد المغرب العربي , وكأن تونس تحولت فجأة الى ساحة خلفية لشبكات الارهاب الدولي , في ايحاء مقصود الى أهمية القبضة الأمنية وأسلوبها في تسيير البلاد وهو مايعني تمريرا للوضع الاستثنائي واطالة لآماده , مما قد يعبد الطريق الى التفاف من نوع آخر على الثورة ومكتسباتها حرية وكرامة ... نقدر جيدا الدور العظيم والنبيل للجيش الوطني , كما نقدر جيدا المهام الشريفة للأمن الوطني في تصديه لعمليات الحرق والنهب والتخريب للأملاك الخاصة والعامة , كما نتفهم ضرورات العمل على حدودنا الجنوبية والشرقية والبحرية , غير أن ذلك لايبرر الانحراف بنا من مطالب العدالة والحرية ودمقرطة مؤسسات الدولة وهي مطالب الثورة , الى أجواء مشحونة وبشكل غير بريء بالحديث عن القاعدة والارهاب والتطرف , في عودة بنا الى نفس الوقود السياسي والاعلامي الذي كان يتغذى منه نظام بن علي الفاسد والمخلوع ... لنكن حذرين ومتيقظين فقد يخطط البعض خارجيا أو داخليا , لتمرير المعزوفة المشروخة التي عزفها بن علي طيلة 23 سنة ليخنق أنفاسنا في قصة من العذاب صادرت حريتنا كما كرامتنا , دون أن ننسى نهبا غير مسبوق لثروة البلاد , فحديث التصدي للارهاب والقاعدة ينبغي أن يبقى في اطاره العقلاني والقانوني دون مقايضة أو تضخيم ... لقد قايضنا الديكتاتور الفاسد والمخلوع بن علي الأمن بالحرية , فتحولنا الى عبيد في نظام سياسي فاشي , وانتهى بنا الحال بعد 14 جانفي 2011 الى فراغ دستوري وسياسي غير مسبوق , في نهاية طبيعية للنموذج البوليسي المنحرف لمفهوم الدولة , أما اليوم فقد تعلمنا الدرس , فلامجال حينئذ لتجديد المقايضة , فالدولة بعد الثورة لابد أن تحفظ الحرية والكرامة وتتقيد بمتطلبات القانون , في موازاة لدورها على الصعيد الأمني في مواجهة الانحرافات المخلة بمصالحنا الاستراتيجية والوطنية ... وحينئذ فانه لامجال لسلب الحرية باسم الحفاظ على الأمن العام , اذ أن الارهاب لايولد الا في رحم غياب الحريات وخراب دولة القانون والمؤسسات , وتبخر أحلام الديمقراطية والاصلاح وغياب آفاق العدل والعدالة الاجتماعية ..., ولذلكم وجب التذكير بأن مكافحة بعض الانحرافات لاتكون الا بالمضي قدما في تأسيس الشرعية وضمان الحريات الخاصة والعامة وتقييد الجميع بنص الدستور المنبثق من رحم الارادة الشعبية ... ان تونسالجديدة ليست في حاجة الى فزاعات , تارة باسم الدولة الدينية , وتارة باسم الانقضاض على منظومة الأحوال الشخصية , وتارة ببعث الرعب في النفوس حرقا ونهبا وتسريحا لسجناء الحق العام أو العبث الهمجي في الملاعب , وحين تسقط كل هذه الفزاعات أمام فوانيس يضيئها شعبنا هنا وهناك , نخرج من الأقجار اسطوانة مشروخة استعملها بن علي طيلة فترة حكمة الفاسد والبائد ...! لنتصدى جميعا لكل هذه الفزاعات , ولنمضي قدما باتجاه ترسيخ قيم الحرية والكرامة , ولنعد الشرعية للمؤسسات وفق أسس انتخابية حرة ونزيهة , ثم لنعجل بصياغة دستور وطني ورائد , ولنذهب باتجاه العمران والتنمية والعدالة ودولة الرفاه , ولنكن نموذجا رائدا في اجهاض الفزاعات والمؤامرات التي تريد أن تعيد لنا البنعلية من النافذة بعد أن أخرجناها بتضحيات الشهداء وسجناء الرأي والمنفيين من أكبر الأبواب... انه مشوار الثورة العظيم , في مواجهة قوى الردة واللصوصية , فلنواجهه بذكاء واخلاص وصدق وولاء عظيم لهذا الوطن , ولنتحدى كل المؤامرات وسراق الثورة بالعلم والعمل واضاءة الشموع والفوانيس , بدل من أن نشغل النفس بلعنة الظلام , فلن تحقق لعنته يقينا تبديد العتمة أوازاحة شرور غاسق اذا غسق !...