إلى شهداء لبنان أطفالا ونساءا ورجالا وقفة إجلال. إلى من دفعوا حياتهم فداء لوطنهم وغادروه على حين غرة من دون موعد، في يوم لم تشرق الشمس عليهم، تحية إكبار، علّ لبنان الغد يخلد ذكراهم ويستحق موتهم. مشاهد الدمار والمجازر التي ترتكبها اسرائيل في لبنان، منذ أن بدأت بتاريخ 12تموز/يوليو2006 شن هجومها العدواني على أراضيه، تعدت ما يمكن أن يتصوره العقل أو تقوى طاقات البشر على احتمال فظاعاته. صراخ الأمهات والأطفال يملأ الآذان وصور اشلاء الضحايا، التي تنقلها لنا بالخصوص وسائل الإعلام المرئية والفضائيات العربية التي ما زالت تصل لعين المكان، لم تترك أحدا محايدا. الكثيرون من خارج لبنان لا يقوون على مفارقة التلفاز لمتابعة ما يجري. آلاف مؤلفة تخرج للشارع للتظاهر والتنديد بجرائم الحرب الإسرائيلية واسماع الصوت، علّّ العالم اللاهي في عطلة صيف لم يسمع بعد دوي الانفجارات فيه. هناك من عنى بجمع المساعدات والأدوية لأهل هذا البلد وآخرون توجهوا إليه رغم صعوبات العبور للتضامن مع شعبه على الأرض ومعاينة الواقع عن كثب. للتعرف على وجهه الجديد بعد العدوان البربري الذي تعرض له، وهناك من عزم النية على القيام بمتابعات قضائية لنقل شكواه للمجتمع الدولي، ومطالبة الهيئات المختصة بتعويضه على خسائره ورفع دعاوى ضد المسؤولين الاسرائيليين عن الجرائم التي طالته. لقد مضى ما يقرب من شهر منذ بدء العمليات العدوانية وما زال جيش الكيان الصهيوني يوسع هجماته البرية والبحرية استكمالا لمخطط القتل والتدمير والتهجير ضد لبنان وشعبه. ذلك بقرار ودفع أمريكي وتواطؤ دولي وتخاذل رسمي عربي، حيث لم يفضي تضامن الأخوة بعد مرور 27 يوما من بدء العدوان لأكثر من انعقاد اجتماع على مستوى وزراء خارجية دون كبير جدوى. هذا التقاعس أو التواطؤ يتم تغطيته بارسال مساعدات طبية وغذائية ارضاء لأزمة ضمير أو لاسترداد ماء وجه أمام شعوب لم تعد تجد في غير قائد المقاومة رمزا لها. في طلعات شبه يومية، ما برحت الآلة الحربية الإسرائيلية تغير على الجسور والطرق التي تربط المناطق والمدن والقرى، مقطعة أوصال لبنان وإمكانية التنقل بين ربوعه. استهدفت البنى التحتية ودمرت بيوتاً ومباني ومناطق سكنية بكاملها. كما ضربت قطاعات مدنية وعسكرية للجيش اللبناني وهوائيات بث ووسائل إعلام بطاقمها وبنيانها وسيارات إسعاف ودفاع مدني. اعتقلت وخطفت وشنت حربا نفسية على المدنيين بإلقاء المناشير التحريضية وتخريب السلم الأهلي والتحريض الطائفي والمذهبي. باختصار، ارتكبت اسرائيل بسادية لا مثيل لها جرائم حرب جسيمة حسب أحكام اتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة والبروتوكولين الملحقين بها. كما لم تعر أهمية لمبدأ تناسب القوة أو التمييز بين المدنيين والمسلحين أو احترام قوافل الاغاثة والطواقم الطبية أو توفير الامدادات الغذائية والدوائية او ضمان المستلزمات الأساسية. هذا التدمير والقتل الوحشي لم يقابله تحرك مواز من المجتمع الدولي لايقاف جرائم العدوان الاسرائيلي- الأمريكي. أفكار ومشاريع وتحركات دبلوماسية واختلافات اوروبية-امريكية حول أولوية وقف اطلاق النار قبل البحث بحل أو العكس، لكن دون التوصل لحل. فالمعتدي يريد الوصول الى مجرى الليطاني، أو على الأقل تكوين منطقة عازلة بعمق عدة كيلو مترات من الناقورة غرباً وحتى كفركلا شرقاً يتم تسليمها فيما بعد للقوات الدولية المقترح تشكيلها. اسرائيل تنتقم ممن تفترض أنهم يدعموا المقاومة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. ومن وراء استهدافها لمناطق لا وجود فيها لمقاومي حزب الله تهدف لضرب وحدة الشعب اللبناني واثارة النعرات الطائفية وجعل المجتمع اللبناني ينفض عن المقاومة ويحملها المسؤولية فيما يجري. لكن هذا لم يحصل، بل تآزر اللبنانيون فيما بينهم واستقبلت المنطقة المسيحية مهجرين من الجنوب، كما وانعقدت قمة روحية إسلامية-مسيحية لكافة الطوائف اللبنانية في مقر البطريركية المارونية. في هذه القمة عبر المجتمعون عن وحدة الموقف اللبناني واعتبروا حزب الله شريحة أساسية من المجتمع اللبناني وأحد مقومات مقاومة الإحتلال. كل ذلك على خلفية معارك ضارية على الأرض من قبل المقاومين الذين استطاعوا أن يكسروا مرة أخرى أسطورة الجيش الذي لا يقهر. لقد هزموا عنجهيته بقصفهم لمدنه ومواقعه العسكرية وتكبيده الخسائر التي يتكتم في الكشف عنها بابعاد الصحفيين عن أماكن عملياته واستهدافهم وتهديدهم. في بنت جبيل ومارون الراس ويارون وعيناتا والخيام والعديسة والطيبة وكفركلا وبعلبك وغيرها، سمحت المقاومة لأبناء الوطن والأمة برفع الرأس شامخا. جموع غفيرة من الوطن العربي تقتدي بمثلهم بعدما شربت الذل والمهانة حتى الثمالة على أيدي حكام جاثمين على صدورها لا يمثلون سوى طاقمهم. لقد تجاوز عدد القتلى الألف شهيد، يضاف لأكثر من 3000 جريح، علاوة على ما يقرب من المليون نسمة نزحوا من مناطق سكناهم هربا من القصف. من هؤلاء 400 ألف نازح إلى بيروت توزعوا على 350 مركز وبقي 750 في العراء، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في أماكن عامة، مع نسبة كبيرة من أطفال لم يفتقدوا الحماية فحسب، بل الغذاء والدواء وبراءة الطفولة.. أما الذين هجروا أو هاجروا خارج الأراضي اللبنانية فنسبتهم كبيرة. هناك منهم من سيعود بعد وقف الأعمال الحربية أو استرداد السكن، ومنهم من سيبقى في الموطن الذي قصده عن قصد أو مكرها. بكل الأحوال، وان اختلفت الحالات وتعددت التصنيفات يبقى القاسم المشترك هو ما اختزنته الذاكرة من عنف وما ذخرت به النفوس من شعور بالغبن وانتهاك للحقوق. وحيث أنه من الضروري دراسة تأثير هذا الانسلاخ المفاجيء عن الوطن وبظروف قاهرة من هذا النوع على مخزونات الفكر والنفس وعلى عملية انتقال ذلك للأجيال القادمة، لا بد من التوقف عند هذه الإشكالية ولو قليلا. خاصة وأن البعض لا ينظر إليها بأبعد من التخلي عن الواجب الوطني. هذا الإنسلاخ عن الوطن، أكان لفترة زمنية محددة أو أكثر، يضع الإنسان بمواجهة الخسارة كمفهوم، مهما كان نوع هذه الخسارة. بمواجهة ذلك سيكون مطلوبا من اللبناني المهاجر التصدى لما فقده بالقيام "بعملية الحداد". ربما يمر البعض بمرحلة يشوبها نوع من الغبطة لفترة زمنية قصيرة، بعدما تخلص من الجحيم الذي عاشه ومن الشعور بالانتصار على الظروف القاهرة التي لم ينجى منها الآخرون. كما ويمكن للبعض أن يتصور البلد المستقبل بشكل ايجابي وأحيانا مثالي. لكن مع استمرار الأعمال الحربية والقتل والتشريد ومع مرور الوقت والتعرف على هذا الجديد، من المؤكد أن الصورة الإيجابية للبلد المضيف ستبدأ بالتراجع لتحل مكانها حالة بعلاقة أكبر مع الواقع المعاش. صحيح أنه لا يمكن تعميم المثل حيث كل حالة تبقى حالة خاصة، لكن هناك عوامل ستؤثر على تعاطي هذا المهاجر مع البلد المستقبل، من مثل سياسة البلد المضيف تجاه المهاجرين عامة أو اللبنانيين خاصة وفي هذه الظروف بالذات. حيث أن عملية احتضانهم والترحيب بهم بما يوفر لهم الشعور بالأمان ستخفف بالتأكيد من وطأة أيامهم ومن شعورهم بالذنب تجاه ذويهم والذين تركوهم لمصيرهم. قد يكون هناك مؤسسات رسمية تعنى بهم لتسهيل عملية التعارف على المجتمع الجديد وثقافته والتفاعل معه دون صعوبات خاصة إن كان عامل اللغة عائقا في تحقيق ذلك. لكن ذلك قليل قياسا بما يفترض. وقد نجد أحيانا أطرافا من جمعيات المجتمع المدني يمكن أن تلعب دور الوسيط أو المسهل لعملية التأقلم وفهم الواقع الجديد وتعترف بالصدمة التي يعيشها المهاجر. لكن هذه الجمعيات تبقى عملة نادرة إجمالا. علينا الاتكال على عامل الوقت لتتم عملية انتقال البلد-الحلم من البلد المستقبل للبلد الطارد. فالأرض الموعودة ستترك مكانها في الذهن والوجدان للأرض الضائعة. بما يؤكد على الدخول في مرحلة الحنين والأسى على موضوع الخسارة. هذه المرحلة المؤلمة والمكلفة نفسياً يمكن أن نشهد فيها سلوكات من نوع الهرب للأمام وترجمة المعاناة عند الأطفال أحيانا بأعمال عنفية، وبكل الحالات ما يمكن أن يسمح بالهرب أو التخفيف من الانتظارية اللامحتملة. فآلام الزمن والمكان كبيرة وهي تراوح بين طرفي الحاضر في المكان الحالي والماضي في المكان الضائع. خاصة عندما يكون هذا الماضي محملا بذكريات مؤلمة ومعاناة قاسية. بما سبب هذا التشرد والانسلاخ عن الوطن الأم. خاصة لو تضاعف بخسارة قريب أو حرمان من عزيز أو طرد من منزل أو اجبار على هجر الوطن. هذا اللبناني المنسلخ حديثا عن الأرض التي أنجبته وبظروف قاهرة من هذا القبيل ستترافق معاناته مع الحنين للزمن الغابر حين كان طفلا يقبل على الحياة ويحلم بمستقبل واعد ببراءة وثقة بالغد. هذا الجانب النفسي الذي هو بعلاقة مع المكان الجغرافي يترافق ببعد آخر ذو أهمية كبيرة، ألا وهو لغة التخاطب مع الآخرين في البلد المستقبل والتي قد تختلف عنها أو لا تكون سهلة الاستعمال أو حتى غريبة. إنها من المسائل التي ستترك تأثيرات على الذاكرة وعلى صورة الذات التي تشكلت بجزء منها مع لغة الأم. كذلك مع اللغة الأم التي هي بالتأكيد الشكل الأشد التصاقا بصورة الذات وبالتعبير عن الذات وتقديمها للغير. لا ننسى أيضا أن هذا المهاجر لن يعاني من خسارة المحبوب أو الأهل أو الوطن أو كلاهما فقط، وإنما سيواجه معضلة من نوع آخر. عليه أن يقبل أنه بات خسارة لذويه، بما قد يضاهي رمزيا فعل اللاعودة أو الوفاة. فإلى أي حد سيتحمل من هاجرمواجهة هذه المعادلة؟ مع انقضاء الوقت والتأقلم شيئا فشيئا مع المحيط المستقبل سيصبح هذا اللبناني الذي كان في البداية غريبا عن البلد الذي استضافه، غريبا من جديد في بلده لو عاد لقضاء عطلة أو للعيش فيه. حيث أنه تغير بنظر الغير كما تغير الآخرون بالنسبة له، والمسافة بين الطرفين قد تكون كبيرة. بما يجعله يطرح تساؤلات عن هويته وانتمائه لبلده الأم وجدوى العيش فيه. فهو قد جاوز الآخرين الذين تركهم ربما بشق طريق أفضل مما كان متوقعا له لو بقي معهم. إضافة إلى ما كسبه من خبرات وثقافة سمحت له باغناء شخصيته وبانفتاحه على العالم الواسع انطلاقا من هذه الهجرة. مما غير مثله وقيمه وصورته عن نفسه وطريقته في التعامل مع الحياة. لكن العكس قد يكون صحيحا أيضا، أي أن يشعر هذا اللبناني المغترب بأنه بات أكثر وطنية أو التصاقا ببلده الأم وبكل ما يعني ذلك من التزام بقضاياه. فتسقط الأقنعة عن الأوهام التي كان يحملها عن الآخر وبلد المهجر والعالم. ربما هو بحاجة للتأكيد على أنه لم يخن أهله ووطنه ولم يقترف خطيئة عندما تركهم لمصيرهم وهاجر بعيدا عنهم. إنه غيض من فيض مما ستعيشه هذه الفئة من اللبنانيين التي تشردت في أوطان الاغتراب. وهذا لا يعني أن المغترب سينسى واجبه في معركة التعريف بما يحدث في بلده. لقد لوحظ أن الشعور بأهمية الوطن يزداد قوة بعد الاغتراب عنه. والأمل كبير بأن يصبح من هاجر من اللبنانيين سفراء لبلدهم ملتزمين بإعادة بنائه.