منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    السجن ضد هذه الإعلامية العربية بتهمة "التحريض على الفجور"    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد الباحثين    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    كاردوزو: سنبذل قصارى جهدنا من أجل بلوغ النهائي القاري ومواصلة إسعاد جماهيرنا    وفد "مولودية بوسالم" يعود إلى تونس .. ووزير الشباب والرياضة يكرم الفريق    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    جندوبة: 32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية لمسابقة تحدي القراءة العربي    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    روح الجنوب: إلى الذين لم يبق لهم من عروبتهم سوى عمائمهم والعباءات    لعبة الإبداع والإبتكار في رواية (العاهر)/ج2    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    المهدية : غرق مركب صيد على متنه بحّارة...و الحرس يصدر بلاغا    Titre    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة: هذا ما تقرر في حق الموقوفين..#خبر_عاجل    رئيس الجمهورية يجدّد في لقائه بوزيرة العدل، التاكيد على الدور التاريخي الموكول للقضاء لتطهير البلاد    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    الكيان الصهيوني و"تيك توك".. عداوة قد تصل إلى الحظر    اليوم: عودة الهدوء بعد تقلّبات جوّية    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    ماذا يحدث في حركة الطيران بفرنسا ؟    شهداء وجرحى في قصف صهيوني على مدينة رفح جنوب قطاع غزة..#خبر_عاجل    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب..ما القصة..؟    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    "تيك توك" تتعهد بالطعن على قانون أميركي يهدد بحظرها    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    سعيد في لقائه بالحشاني.. للصدق والإخلاص للوطن مقعد واحد    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    وزارة الصناعة تكشف عن كلفة انجاز مشروع الربط الكهربائي مع ايطاليا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تونس تكرّم الأديب محمود المسعدي باحتفال في ذكرى مائويته

"من 23 يناير 1911 وحتى 16 ديسمبر 2004" حياة مليئة بالإبداع، قصة ورواية ومسرح، ونضال نقابي وتربوي وثقافي. ذلك هو محمود المسعدي الأديب العربي، الذي تنقل بين جامعة السوربون وجامعة تونس ووزارتي التربية والثقافة والحزب الحر الدستوري التونسي والإتحاد العاكم التونسي للشغل.
أدباء ومفكرون عايشوا الأديب التونسي محمود المسعدي سيقدمون شهاداتهم عن المحتفى به، عن المسعدي الأديب المبدع والمسعدي الإنسان. الإحتفال لن يقتصر على مسقط رأس الأديب محمود المسعدي، بل أعدت وزارة الثقافة برنامج دسمًا ينفذ في كل الجهات، ندوات ولقاءات وشهادات ومجالس علمية ومعارض وأشرطة وثائقية للتعريف بأدب المسعدي وإبداعاته ومساهماته وتأثيره في الأدب العربي.
"لا تسلني يا ولدي كيف أكتب نصوصي الأدبية.. إنها عبارة عن ومضات معبرة عن شحنات التفكير في هذه الحياة"... ذاك هو المسعدي الذي أدخلت مؤلفاته الحيرة في العقول، وأثارت أكثر من كاتب وناقد وأديب. المسعدي الذي كان له عميق التأثير على تكوين العديد من الأجيال التونسية، أعمال خالدة تركها الأديب الكبير، جعلت منه أحد أبرز الأدباء العرب، ك"السدّ 1955"، و"حدث أبو هريرة قال 1973" و"مولد النسيان" و"تأصيلا لكيان" وأخيرا "من أيام عمران" دعمت شهرته، التي جعلت منه رائدًا في كتابة القصة والرواية في العالم العربي.
"من 23 يناير 1911 وحتى 16 ديسمبر 2004" حياة مليئة بالإبداع، قصة ورواية ومسرح، ونضال نقابي وتربوي وثقافي. ذلك هو محمود المسعدي الأديب العربي، الذي تنقل بين جامعة السوربون وجامعة تونس ووزارتي التربية والثقافة والحزب الحر الدستوري التونسي والإتحاد العام التونسي للشغل.
لقد جمع بين الكلّ، وهو ما جعل منه مبدعًا تجاوز حدود الوطن إلى ما هو أرحب حتى أضحى مبدعا عربيا. شهادات المبدعين العرب أجمعت على إبداع محمود المسعدي، فقال طه حسين عن "السد": "لم تخلص للفلسفة وحدها، ولم تخلص للشعر وحده، وانما التقى فيها تفكير العقل وتدبره وتوثّب الخيال وتساميه، فارتفعت بذلك الى مرتبة من العلو قلّ أن يظفر بها شعر شاعر او فلسفة فيلسوف".
وأضاف: "الأستاذ توفيق الحكيم قصصه أيسر وأقرب وأدنى الى السذاجة من قصص الأستاذ المسعدي في عمقه وارتفاعه وسموه". وقال الأديب محمود المسعدي: "الأدب مأساة أو لا يكون، مأساة الانسان يتردد بين الألوهية والحيوانية، تزف به في أودية الوجود عواصف آلام العجز والشعور بالعجز: العجز أمام القضاء، أمام الموت، أمام الحياة، أمام الغيب، أمام الآلهة، أمام نفسه .. ".
أما الأستاذ والأديب الهادي العثماني فيرى أنه "لئن دأبت الأوساط الثقافية على الاحتفال بمائوية بعض الرموز الأدبية والثقافية في بلادنا، كمحطة للتذكر والتذكير بمن ترك بين الناس ما ينفع الناس، فإن أديبنا المسعدي لم ننسه لنتذكره، ولم يغيبه الموت عنا، ونصوصه لا تزال نابضة وهاجة تمنح القراء متعة مضامينها ورونق لغة نحتها المسعدي من معدنها الأصيل، وتتيح للتلاميذ والطلبة فرصة التعامل مع كتابة متفردة، وتغري النقاد بمكابدة شاقة للنبش في مناجم بكر.
ولأن الأديب محمود المسعدي قد آمن بالإنسان كائنا فاعلا، وبالعمل قيمة أساسية وبالحرية قضية وجودية، فقد أخلص في ما كتب وخلص ما أبدعه إلى الرقي بالإنسان في منزلته البشرية إيمانا بقدرته كائنًا يروم الانعتاق متمردا في سعيه إلى تحقيق ما يريد، وأنه لذلك المخلوق الذي منحه الله نعمة العقل وسيلة للتدبر توقًا إلى السمو عن منزلته الدنيا إلى مراقي الفعل الخلاق، وتلك هي أسمى المنازل في هذا العالم الآئل إلى الفناء والاندثار، كل ما فيه إلى زوال، ويبقى ما سطر الإنسان من صحائف المجد والخلود.
يقول في رواية السد: "أنا الإنسان، ما دام الجد، مادام الجهد، مادام العمل....أنا الإنسان...". "لكن الأستاذ في اللغة والآداب العربية الهاشمي حسين يقدم الأديب محمود المسعدي بالقول: "نحتفل بمائويّة أديب عربيّ عايش آلام العصر الحديث في البلاد العربيّة، وعانق أحلامه بالتّحديث، ولامس آمال الغرب بإعادة بناء الحضارة من فكر إنسان ثاقب. فكان حاملاً همّين ثالثهما حبل خلاص: همّ وطن جريح سلبه الاستعمار الفرنسيّ قدراته، وهمّ بلاد عربيّة أفقدها الغرب الاستعماريّ مكانتها الحضاريّة، ولاحبل نجاة بدون معانقة الحلم الإنسانيّ بكونيّة لن تقف فيها الحدود فاصلة، بل تُبنى السّدود واصلة مؤصّلة، وينطلق خلالها أمثال مدين وأبي هريرة وغيلان-أبطال المسعدي- يجرّبون الوجود رحلة طلب للمعنى.
ذاك هو التّجريب الذّهنيّ لمقولة "الإيمان بالإنسان" يعاضده تجريب فنيّ لأشكال من الكتابة تقيم الكيان الإنسانيّ وتعترف به قيمة ثابتة، وقمّة شامخة، فتغترف من نبع الحداثة جماليات المكتوب والمنظور على الرّكح، ومن روافد التّراث جماليات المشافهة في السّرد القصصيّ والنّفس الشّعريّ".
الأديب الهادي العثماني تحدث عن إبداعات محمود المسعدي وإفاداته ومساهماته في سبيل بناء تونس مؤكدا على أنه "رجل المسؤولية والعمل الميداني من خلال المناصب الإدارية والسياسية التي تقلدها، ولعل أبرزها تحمله مهام وزارة التربية القومية غداة الاستقلال. يحسب له أنه أول من وضع برنامج للتعليم في تونس إبان خروجها منهوكة من معركة التحرير، فكان أن هيأ لتلك الأجيال أسباب الأخذ بأدوات التعلم والثقافة، ما به نشأت عقول وتخرجت أجيال، لا تزال تفيد الوطن إلى اليوم، وقد اتضحت في ما بعد قيمة ذلك البرنامج مقارنة بما تلته من محاولات هشة للتجديد والعصرنة، أضرّت بواقع التعليم في تونس، وهمشت الأجيال، وخاصة في السنوات الأخيرة.
ولا احد ينكر ما آل إليه ميدان التعليم أخيرًا من انهيار مستوى المتعلمين وتفريغهم من كل محتوى حقيقي للثقافة الصحيحة والتعلم المتين، وكان للرجل امتياز جمعه بين الثقافة الشرقية الأصيلة وانفتاحه على ثقافة غربية ذات آفاق أوسع، مما أتاح له أن يكون رائدًا من رواد الحركة التحررية التنويرية في تونس.
كما تقلد مناصب ومسؤوليات عدة منذ سنة 1948 والى فترة قصيرة قبل وفاته. وأضاف العثماني أنه "رجل القلم، حيث انخرط في حركة الإبداع مفكرا وأديبا من خلال مؤلفاته العديدة. لقد تميز الأديب محمود المسعدي في كتاباته بالتعبير في لغة رائعة تربو باللفظ إلى نبل الكلمة العربية في أصفى منابعها، يقدها من قاموس أصيل، يعود بها إلى أصالة كيانها وفترات عزتها وإلى جوهر صفائها ونقائها مع رموز أوائل كالجاحظ والمعري والتوحيدي، وتستثمر من القران تراكيبه وبناه في هيكلة الجملة وتشييدها عبر منافذ القول، ما به تفرّد بخصوصية، وسمت نصوصه بنكهة تمنحك نشوة خاصة، فأنت إزاءها حيال ضرب آخر من الكتابة بين الشعر والنثر، قد فتح له سبيلاً لا يقدر عليه غير من تشبع باللغة وامسك بأسرارها ومفاتيحها.
أما على مستوى المحتويات والموضوعات التي عالجها المسعدي في كتاباته، فإنها أطروحات فكرية ومواقف جادة من قضية الكائن البشري في الكون، وهو يجاهد لأن يكون بين ما يروم وما يستطيع، بين ما يطمح إليه وما هو كذلك، نضالاً خالصًا بين الممكن والمستحيل، فكانت موضوعات اهتمامه كلها سؤالاً حارقًا يمضي ضد الركون إلى الاطمئنان الغبي، يغريه التحدي، "يريد أن يكون إنسانا"، وهو الذي قال: إن كل كيان لجهد وكسب منحوت"، "وإنما هي آلام الإنسان يترامى صداها من قرن إلى قرن، ومن جيل إلى جيل، كما يتردد صدى الرعد بين الجبال، فلا يكون للرعد حياة أو ترنّ الصخور...".
"بين تحديث القديم وتأصيل الحديث: الأستاذ الهاشمي حسين أشار إلى اختلاف الأجناس في كتابات المسعدي لتلتقي تجربتان "تجربة في الكتابة تحدّث القديم، وتجربة في الفكر تؤصّل الحديث. فما الّذي يميّز التّجربتين في كتابات المسعدي؟، وكيف تكاملتا في وسم خصوصيّة الكتابة بالإبداع والخلق؟، وهل يفيد مشروع قائم على المزاوجة الفنيّة والفكريّة في دعم تيّار التّحديث ضمن الكتابة العربيّة للقرن الواحد والعشرين؟".
فيبرز التّجريب الفنّي في شفاهيّة المكتوب وكتابيّة المشافهة، وقد يكون الاقتصار على أثرين متلازمين في زمن الكتابة لدى المسعديّ، مفيدا في بيان هذا النّزوع التّجريبيّ، إذ كتب "السدّ" نصّا مسرحيّا، و"حدّث أبو هريرة قال..." نصّا روائيّا عام 1939 في باريس وهو الطّالب. وليس هناك من رابط فنيّ في الاختيار الجماليّ غير الرّغبة في الإفادة من رافدين متباعدين، مسرح الغرب فنّا منظورا يُكتب ليمثّل، وخبر الشّرق فنّا مسموعا يلقى ليدوّن.
وإذا ما انتبه المسعدي إلى ما في الخبر الشّفويّ من عناصر ركحيّة قادرة على تحقيق فرجة التّمثيل في لحظة التّمثّل لدى القارئ، فصوّر مشاهد أبي هريرة متحرّكا، وأكثر من الحوار نفسًا دراميّا داخليّا، فإنّه خلاف ذلك، قد اكسب نصّ السّدّ روحا سرديّة عطّلت نموّ الحوار وحشر شخصيّة الرّاوي على الرّكح حشرا، حتّى عدّ النّقّاد نصّه جنسا هجينا بين المسرح والرّواية. وتلك هي التّجربة المقصودة من قبل المسعدي أن يقرّب الفرجة الرّكحيّة عبر مداخل سرديّة شفاهيّة من القارئ العربيّ في سرديّة المحكيّ. وأن يكسب سرديّة الخبر ركحيّة ترفع الخبر العربيّ فنًّا قديما عن جمود محسّنات البديع في لغة شكليّة، إلى حيويّة العبارة المجارية في صوفيتها وبلاغتها وشعريتها لإيقاع حديث في الحياة مصدره آلام الإنسان وأحلامه، هواجسه وأوهامه، وإذا نطقت بذلك اللّغة الفصيحة، فقد حيت وأحيت قارئها، وخرجت من جمود الكتب إلى نبض الحياة الحيّة.
هكذا أدرك المسعدي في تجربة إبداعيّة مشتركة أنّ تحديث الأدب العربي ينطلق من تطوير ذوق المتقبّل، القارئ العربيّ، ليصبح متفرّجا يتقن الفرجة عبر آليات سماع قديمة، قبل أن تتبلور لديه آليات الفرجة الحديثة. إنّ أفضل ما يتطوّر به الذّوق أن تستغلّ وسائط التّقبّل الشّفاهيّة في تأسيس ذوق فنيّ مشهديّ، يجعل العين تقرأ قبل الأذن أحيانا، وينقل حضارة العرب من حضارة كلمة إلى حضارة فعل.
حداثة الأصيل وأصالة الحداثة يؤكد الأستاذ الهاشمي حسين على التجريب الذهني مبينًا أنّ "الفعل في الواقع ليس مجرّد خيار ثقافيّ، يوجّه الذّوق الفنيّ عند العرب، كما يأمل المسعدي ذلك، بل هو فلسفة تامّة في الحياة أنطق بها بطل السدّ غيلان الغليان والغلوّ، يردّ على ميمونة داعية الاستسلام والخنوع بقوله "لا يا ميمونة. بل الكفر بالنّواميس والعراقيل وإنكار العجز والإسلام ونفي العدم.. هو الإيمان بالفعل"(السدّ، ص49).
وهذا الإيمان منطلق من الإقرار بقدرة هذا الإنسان على بناء الكون وتنظيمه وإكساب الحياة معناها من الفعل الخلاّق، يقول مختزلا هذا المشروع في السدّ معاتبًا ميمونة: "مالك والسدّ والفعل والخلق" "(السدّ، ص108)... وهذا الإنسان إمكانات لا تفنى، وقدرات لا تنتهي، وفعل يتولّد منه نور المعرفة ونار العزم، وتقوم بإرادته قيامة الكون. لذلك مجّده في لغة غنائيّة على لسان ميارى "وجاءنا الاحتقار والإهمال والزّهد وانتفى الحرص وحلّ بنا الكبر والطّهارة المحض... وطِلقنا وانكسرت عنّا الرّوابط وقامت لنا بدائع الدّنيا". (السدّ، ص131)... وثبّت ذلك في صياغة فخريّة يقول غيلان "في إقامة السدّ وخدمة ما أراد الإنسان من خلق". (السدّ، ص135).
وطبيعيّ أن ينطلق أبو هريرة في تحقيق تلك الإرادة من مسلك آخر غير مسلك الفعل، إنّه مسلك التّجريب الحرّ، معبرًا به يدرك ذاته الإنسانيّة ويكتشف أنّ القوّة والضّعف فينا كامنين. ولكنّ الفضل في البعث والانبعاث. كان أبو هريرة في كلّ تجريبه مشروع إنسان ينحت كيانه، يقيمه ويهدمه، يرفعه وينزله، يؤمن به ويكفر حتّى ينتهي إلى الحيرة والتّردّد والجنون. لكنّه في كلّ مرحلة يجد جزءا من كيانه المفقود لأنّ كلّ ثمار تجريبه "إنّما هي آلام الإنسان يترامى صداها من قرن إلى قرن ومن جيل إلى جيل" (حدّث أبو هريرة قال... ص13).
وأبو هريرة مبعوث من ماضي العروبة والإسلام بروحه الشّرقيّ في واقع التّغريب والحداثة بفكرها العلمانيّ. فليس غريبا أن يعيش أزمة وجود خانقة يتردّد فيها بين روح الشّرق وعقل الغرب. فينتهي مجنونا يؤمن بالجسد فيستنزفه، ويؤمن بالرّوح فيدمّرها. ثمّ يطلق حكمته في وجه ظلمة"الآن علمتُ وعلمتِ أنّ اللّذة لاتُغلب" (حدّث أبو هريرة قال... ص181) ويستخلص من ذلك نتيجة تجريبه الوجوديّ "إنّه لا يتناسى الجسدَ إنسان إلاّ أكلته الخيالات" (حدّث أبو هريرة قال... ص182).
هذا الإنسان الّذي لم يعد مجهولا حسب اعتقاد ألكسيس كاريل، ولا هو أشكل على الإنسان بعبارة التّوحيدي، ولا هو من حارت البريّة فيه بحيرة المعرّي. إنّه مشروع كيان، كما أثمرت ذلك كتابة التّجريب في رواية المسعدي ومسرحيته المتلازمتين. مصبّ التّحديث إنسان يريد أن يكون...محمود المسعدي كان حداثيا تنويريا، وهو ما تفطن إليه الأستاذ الهاشمي حسين، فأبرز ذلك قائلا: "ينطلق بطلا المسعدي في هذين النّصين من نفس الفضاء الثّقافيّ، فكلاهما قد خرج من عالم السّكون ومقبرة الأموات، وكلاهما قد ركب المغامرة، وقرّر الرّحيل بعثا للحياة من رحم الممات "وتوليدا للعشرة من معدن الوحشة" (حدّث أبو هريرة قال... ص11).
ذاك التّوليد الّذي يقتضي أن يستمرّ الفعل مشروعا منفتحا على المستقبل، فلا السّدّ انتهى ولا أبو هريرة توّج مسيرته.. نهايات مفتوحة هي بدايات تنفتح بها آفاق جديدة لوجود أرحب يشهد أنّ "كلّ كيان لجهد وكسب منحوت"(حدّث أبو هريرة قال... ص12). لذلك سيؤمن بطلا المسعدي بالمستقبل ويتعلّقون بالمنشود تعلّقا يجعل الحياة قائمة على الحلم والاستمرار. يقول أبو هريرة لريحانة "آية جمالك ما لم تكوني ولن تكوني". (حدّث أبو هريرة قال... ص13)، وذاك ما جعل توفيق بكّار يفتتح دراسته القيّمة حول شخصيّة أبي هريرة ببعض قوله "أبو هريرة... دائم الحيرة لا يتعب من التّطواح كأنّما يقلقه في كلّ لحظة أن يخطئ الوجود فيفوته. يعيش في دوّامة السّؤال لايدع أمرًا إلاّ استفهم عنه، ولاتجربة إلاّ زجّ نفسه فيها، يشكّ ويفحص ويختبر متطرّف في كلّ شيء"(حدّث أبو هريرة قال... ص12).
ولأنّه على مثل هذه الأحوال الذّهنيّة فلن يستقرّ له قرار. ولن يقف في طريقه حاجز حتّى يدرك معنى لحياته. وإذا غاب المعنى افتقد الوجود قيمته فسعى بإنسنته العالية إلى إقامة صرح. لكنّ"الآلهة لا تقام إذا هوت" (حدّث أبو هريرة قال... ص12) بعبارة أبي هريرة نفسه. وذاك ما جعل راويا كأبي عبيدة يعلّق على أزمة الوجود عند أبي هريرة بقوله "فكأنّه مات في باطنه بعض ما يكون به الإنسان إنسانا أو عميت بصيرته" (حدّث أبو هريرة قال... ص163).
أفلا يكون امتلاء الكيان مستحيلا وكلّ التّجريب إمكان لايخرج عن أفق الذّات المبدعة للنّصّ؟". أدب طليعيّ أم سيرة ذاتيّة؟، أستاذ اللغة والآداب العربية الهاشمي حسين تحدث عن سيرة ذاتية، بل قل عن علاقة ذاتية للمسعدي بكتبه، فقال: "لقد صرّح المسعدي منذ أولّ جملة في مقدّمة كتاب "حدّث أبو هريرة قال.." بما يكشف علاقته الذّاتيّة بكتابه في قوله "هذا كتاب كتبته منذ أحقاب، حين كنت أروم أن أفتح لي مسلكا إلى كياني الإنسانيّ.. صدى منّي إليّ.." (حدث أبو هريرة قال .. ص11-12).
وذكر في مقدّمة كتاب السدّ أنّه "كتاب الإيمان بالإنسان، لأنّه كتاب الفناء في الخلق في اللّه". وإذا جمعنا الموقفين وقفنا عند شخصيّة المسعدي مفكّرا ومبدعا يستقي من تكوينه المتأصّل في عروبته، والمنفتح على حضارة الغرب المحقّقة لمعاصرته ما يسبّب أزمة فكريّة لجيل ثان من أجيال التّلاقح مع الغرب، تجاوز صدمة الحداثة إلى مساءلتها، وتجريب نسب التّمازج بين ثمار الاصالة العربيّة وإزهار الحداثة الغربيّة. وهو تجريب ذهنيّ يحرص على تجاوز صدام الحضارات ليبني تواصلها وتحاورها في مجال أوسع.
إنّه الإنسان كما آمن به الفكر الوجوديّ مشروع وجود يعلو على عسف مدنيّة "القاز والفولاذ والضّجر" بعبارة بدر شاكر السيّاب، ويقيم سدّ التّواصل بين الشّعوب. وتلك رسالة ثقافيّة حملها المسعدي في مجمل كتاباته على أنّها مشروع بديل، ينزع فتيل الحروب، ويقيم التّواصل على تفجير طاقات إنسان حرّ مسؤول، ومريد فاعل مبادر. تجريبه كتاب. وكتابته تجربة، أن تكون الحداثة فعلاً واعيا وأن تستمرّ الأصالة فكرا رائدا، يؤسّس لكونيّة أسمى من غول الرّأسماليّة المتوحّشة في العولمة الاقتصاديّة الجائرة".
وأكد الأديب الهادي العثماني إبداع المسعدي، فأبرز متانة اللغة التي تميز بها فقال: "بتلك اللغة المتينة وهذه المضامين القلقة الحائرة اخترقت بها كتابات المسعدي مجالات مستكينة لقارئ مطمئن، فرّجت قناعاته، وزلزلت بعض اعتقاداته، ودعته إلى إعادة النظر في وضعه كانسان، ودفعته إلى معاودة فهمه لوجوده والتثبت في صحة علاقته بنفسه وبالمجتمع وبالله وبالكون، وهذا هو المطلوب من الأدب أن يصل النص بين القارئ وذاته حتى يؤصّل علاقة منفصمة، ما أحوجه إلى إعادة إيثاقها، خارج سلطة الأخلاق والدين والسياسة والقيود الاجتماعية تستعبد الإنسان، تثبط عزائمه وتقيّد انعتاقه وتملي عليه، وإنما الإنسان كائن نبيل مدعو إلى التحرر والحرية والانعتاق.
وهاهو غيلان يسعى إلى العمل متألها أحيانا، عازمًا، صابرًا مكافحًا عنودا متقاطعًا مع سيزيف بطل الميثولوجيا الإغريقية الذي قهر بصبره وعناده الآلهة، فكان أقوى من قدره، وهاهو أبو هريرة يستفز الإنسان، ويدعوه إلى السمو لتحقيق السلام والإخاء والخلق والبناء ويحرضه على الثورة والانعتاق. متانة اللغة وطرافة البناء الأديب الهادي العثماني أبرز في ختام حديثه عن المسعدي في مائويته، فأشار إلى أنّ إبداعات المسعدي تتمثل في "هي نصوص أدبية من طراز عال، جمعت بين متانة اللغة وطرافة البناء في مضامين فكرية تلامس حدود الفلسفة، لتوفر للقارئ متعة معايشتها رغم ما تتصف به من مشقة التعامل مع منعطفاتها الغامضة ودهاليز المتاهات التي تربك الراحل في دروبها.
فليس من السهل على القارئ، أي قارئ، أن يتمكن من التعامل مع نصوص محمود المسعدي، ولكن المقبل عليها لابد له من أن يتسلح بكثير من الدراية باللغة وأصولها، وبالاطلاع الكافي على مختلف المشارب الأدبية، حتى يجد له مدخلا إلى قلاع نص حصينة، وليس مدركا ذلك إلا بشق الأنفس... نصوص تؤسس لقيام مدرسة أدبية فريدة وجديدة في تاريخ أدبنا المعاصر وتكرّس نظرية الإيمان بالإنسان منطلقا وغاية".
من جانبه أكّد الأستاذ الهاشمي حسين التقابل والتكامل في آثار المسعدي، وبيّن أنه "قد لايكتمل الحديث حول تجريب المسعدي من دون الإشارة إلى أنّ نصوصه قد قرأت غالبًا في مجالات أكاديميّة موجّهة ذات تخصّص ميكروسكوبيّ دقيق. وكان لما كتبه في "تأصيل لكيان" تأثير على فهم فكر المسعدي. لكنّ دراسات مقارنة تنطلق من وجوه التّقابل والتّكامل بين آثاره، ومن خطوط التّقاطع والتّفاعل في ما بينها، لم تظهر إلى الوجود بعد، بكثافة.
وذاك ما ندعو إلى تجريبه في نقد كتابات أديب كلّ آثاره محاولات في التّحديث والتّأصيل لأنّه مؤمن باستمراريّة الفكر والفنّ بين الأجيال والشّعوب وبين الحضارات والأمم". ويضيف الأستاذ والأديب وعضو اتحاد الكتاب التونسيين عمر الكوز مبرزًا آثار المسعدي: "لقد ولج باب التركيبة الذهنية في طرح المفاهيم والاطر من حرية وتحرر وصولاً الى مفاهيم الخيال والرمز وحتى التجريد.. مقدار من الجنون لابد منه من أجل مقدار من الحرية.. هكذا يقول أديب تونس في تصوره الذهني للحرية المفقودة زمن الجنون والتغيرات الاجتماعية الكبرى التى عاصرها.... لقد واكبت كتابات المسعدي حركة التحرر الوطني التونسي، حين يعلن بقوله الصريح: "أعطوني زراعة أضمن لكم حضارة".
لذلك كانت بوابة ذهنية للكاتب نحو ولوج فضاءات انسانية أرحب من دون الوقوع في تهمة الالحاد او المروق... لقد استطاع محمود المسعدي من خلال شخصيات رواية السد أن يغلق كل منافذ التعري او تبني مبدأ عبيثية المستقبل حين يقول متحديا:... الأرض طواعية للرجال الذين يملكون الأمل ويقدرون على تحدي المستقبل... لقد كان مدافعًا عن الحرية، حين تناول احدى شخصيات "صهباء" العمل المحاربة لما سمّي لاحقا بالرجعية على اختلاف مستوياتها الاجتماعية وعلاقتها بالواقع المعيش في زمن الحدث القصصي.
فشخصية ميمونة، وان كانت تمثل الشك والحيرة و السؤال الباحث أبدا عن اجابات مفقودة، فانها تلتقي مع منحى ذهني دقيق، سعى اليه المسعدي في جل كتاباته. انه الشك والوسوسة، وكل ما يمكن أن يقود الباحث عن الحقيقة الى الطريق السد، والطريق الموصود أمام السؤال الوجودي الذي طالما بحث المسعدي في سبيل طرحه".
المصدر : ايلاف - 7 أكتوبر 2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.