رئيس الجمهوريّة يؤكّد تمسّك تونس بسيادتها، والعمل على رفع التحدّيات الاجتماعية والاقتصادية    ترامب يعلن شن ضربات عسكرية أمريكية قوية ومميتة على "داعش" في نيجيريا    نيجيريا تصدر بيانا بعد الغارة الأمريكية على "داعش"    سعيد يلتقي رئيسي الغرفتين البرلمانيتين    ترامب يعلن شن ضربة عسكرية على "داعش" في نيجيريا    أوكرانيا 2025 .. فضيحة الفساد التي غيّرت مجرى الصراع    انطلاق عمليّة إيداع ملفّات الترشّح لمناظرة الانتداب في رتبة أستاذ مساعد للتعليم العالي    بنزرت: العثور على جثة لاعب كرة قدم مفقود منذ 20 يوما    2025 ... سنة المواجهة مع تجّار المخدّرات والمهرّبين    العائدات السياحية تناهز 7.9 مليار دينار    نابل: حجز وإتلاف 11طنا و133 كغ من المنتجات الغذائية وغلق 8 محلات لعدم توفر الشروط الصحية منذ بداية شهر ديسمبر    مع الشروق : أولويات ترامب... طموحات نتنياهو: لمن الغلبة؟    في حلق الوادي والمعبرين الحدوديين ببوشبكة وراس الجدير .. إفشال صفقات تهريب مخدرات    تظاهرة «طفل فاعل طفل سليم»    رواية " مواسم الريح " للأمين السعيدي صراع الأيديولوجيات والبحث عن قيم الانسانية    شارع القناص .. فسحة العين والأذن يؤمّنها الهادي السنوسي انفصام فنّي على القياس ..حسين عامر للصوفيات وحسين العفريت للأعراس    "كان" المغرب 2025.. حكم مالي لمباراة تونس ونيجيريا    كاس امم افريقيا 2025: مصر وجنوب إفريقيا في مواجهة حاسمة..    عاجل: جنوح عربة قطار بين سيدي إسماعيل وبوسالم دون تسجيل أضرار    ابدأ رجب بالدعاء...اليك ما تقول    فيليب موريس إنترناشونال تطلق جهاز IQOS ILUMA i في تونس دعماً للانتقال نحو مستقبل خالٍ من الدخان    منع بيع مشروبات الطاقة لمن هم دون 18 عاما..ما القصة..؟    شركة الخطوط الجوية التونسية تكشف عن عرضها الترويجي 'سحر نهاية العام'    خبير يوّضح: العفو الجبائي على العقارات المبنية مهم للمواطن وللبلديات..هاو علاش    عاجل/ مقتل عنصرين من حزب الله في غارة صهيونية استهدفت سيارة شرق لبنان..    ماذا في اجتماع وزير التجارة برؤساء غرف التجارة والصناعة؟    زغوان: مجمع الصيانة والتصرف بالمنطقة الصناعية جبل الوسط بئر مشارقة يعلن عن إحداث حقل لانتاج الطاقة الفوطوضوئية    يتميّز بسرعة الانتشار والعدوى/ رياض دغفوس يحذر من المتحور "k" ويدعو..    وفاة ممرضة أثناء مباشرة عملها بمستشفى الرديف...والأهالي ينفذون مسيرة غضب    تعرّف على عدد ساعات صيام رمضان 2026    عاجل: تهنئة المسيحيين بالكريسماس حلال ام حرام؟...الافتاء المصرية تحسُم    زيت الزيتون ب10 دنانير:فلاحو تونس غاضبون    وليد الركراكي: التتويج باللقب القاري سيكون الأصعب في تاريخ المسابقة    البرلمان ينظم يوم 12 جانفي 2026 يوما دراسيا حول مقترح قانون يتعلق بتسوية الديون الفلاحية المتعثرة    فضاء لبيع التمور من المنتج إلى المستهلك من 22 إلى 28 ديسمبر بهذه الجهة..#خبر_عاجل    ما ترميش قشور الموز: حيلة بسيطة تفوح دارك وتنفع نباتاتك    التمديد في المعرض الفني المقام بالمعلم التاريخي "دار الباي" بسوسة الى غاية منتصف جانفي 2026    اسكندر القصري ينسحب من تدريب مستقبل قابس    افتتاح الدورة 57 للمهرجان الدولي للصحراء بدوز    أنشطة متنوعة خلال الدورة الأولى من تظاهرة "مهرجان الحكاية" بالمركب الثقافي بسيدي علي بن عون    موزّعو قوارير الغاز المنزلي بالجملة يعلّقون نشاطهم يومي 12 و13 جانفي 2026    عاجل: اليوم القرار النهائي بخصوص اثارة الافريقي ضدّ الترجي...السبب البوغانمي    البطولة الوطنية المحترفة لكرة السلة: برنامج مباريات الجولة العاشرة    مع Moulin d'Or : قصّ ولصّق وشارك...1000 كادو يستناك!    رياضة : فخر الدين قلبي مدربا جديدا لجندوبة الرياضية    عاجل: هذا ما تقرر في قضية المجمع الكيميائي التونسي..    كأس أمم إفريقيا: برنامج مقابلات يوم غد    عاجل: تقلبات جوية مرتقبة بداية من هذا التاريخ    ينشط بين رواد والسيجومي: محاصرة بارون ترويج المخدرات    عاجل/ تركيا ترسل الصندوق الأسود لطائرة الحداد إلى دولة محايدة..    صحفي قناة الحوار التونسي يوضح للمغاربة حقيقة تصريحاته السابقة    نانسي عجرم ووائل كفوري ونجوى كرم يحضروا سهرية رأس السنة    بداية من من غدوة في اللّيل.. تقلبات جوية وبرد شديد في تونس    النوبة القلبية في الصباح: علامات تحذيرية لازم ما تتجاهلهاش    رئيس الجمهوريّة يؤكد على ضرورة المرور إلى السرعة القصوى في كافّة المجالات    كوريا الشمالية تندد بدخول غواصة نووية أمريكية إلى كوريا الجنوبية    مع الشروق : تونس والجزائر، تاريخ يسمو على الفتن    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار الحضارات.. رؤية مقاصدية
نشر في الوسط التونسية يوم 16 - 07 - 2007


*:
أشير بداية إلى أن حوار الحضارات لم يأخذ حقه في الفكر الإسلامي المعاصر إلا بعد محطتين اثنتين: تتمثل الأولى في صدور كتاب صدام الحضارات لصمويل هنتنغتون، والثانية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، إذ كثرت وتنوعت الكتابات حول حوار الحضارات، تبين أن الإسلام دين تعايش وسلام مع الآخر، ينبذ العنف ويدعو إلى العدل وحسن الجوار. هذه الكتابات، رغم حسن نوايا أصحابها وغيرتهم، جاءت متأخرة جدا، ولتنفي أمرا واقعا بالمسلمين، وهو العنف؛ ذلك بعد ما أضاع الفكر الإسلامي المعاصر جهودا ووقتا في دحض نظريات الآخر وأفكاره. وكان الأولى أن يتجه إلى بيان المزايا والمقومات الذاتية للمسلمين كما هي محددة في كتاب الله عز وجل وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء الراشدين.
اليوم، بعد الإجابة عن سؤال الشرط الذاتي، يبقى الجواب عن مرامي الحوار مع الآخر مطلبا أساسيا للفكر الإسلامي المعاصر. وأظن أنني لست بحاجة إلى بيان ضرورة الحوار، سواء مع الذات أو مع الآخر، فالآيات القرآنية جاءت تحض على قيم إنسانية كبرى، والسيرة النبوية تجسيد لعلاقة الإسلام بالآخر. ولعل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين المعاملة" أبلغ وأجمل وصف لعلاقة المسلم بأخيه المسلم وبغيره من الناس، أيا كانت ملتهم...
إن غاية المسلمين من الحوار مع الحضارات الأخرى تنفيذ أوامر الإسلام الكبرى التي لا يمكن لأية ديانة أو مذهب رفضها، وذلك لاتفاقها الفطرة الإنسانية. وقد تختلف أغراض الحوار من جماعة إلى أخرى، لكن تبقى الغاية الكبرى تعايش الإنسانية كلها في دولة كونية تقوم على الشعور بالمسؤولية في إحقاق الحق وضمان حرية الإنسان وكرامته. ويمكن إجمال هذه المقاصد في:
أولا: التعارف والتعاون والتكامل
نجد أصلا لهذا في قول الله عز وجل:(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفوُا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (الحجرات: 13).
يعلق ابن عاشور على هذه الآية قائلا: "والمقصود أنكم حرفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بسبب تناكر وتطاحن وعدوان"(1) .
والتعارف مع المخالفين لدين الإسلام والتعاون معهم هو ما لم يمنعه القرآن الكريم حيث يقول الله تعالى: (( لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّنْ دِيَارِكُمُ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين )) (الممتحنة: 8).
كما أن هذا التعارف والتعاون يمهد له قول الله تعالى:(( وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ. كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) (الأنعام: 108).
ونموذج التعاون والتكامل هو الكلمة السواء التي ينبغي أن يجتمع حولها المسلمون مع أهل الكتاب كما يقول الله تعالى: (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهُ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ. فَإِنْ تَوَلَّواْ فَقُولُوا اشْهَدوُا بِأَنَّا مُسْلِمُون)) (آل عمران: 64).
وسواء اسم مصدر من الاستواء، وهو العدل أو القصد. قال ابن عطية: "ما يستوي فيه جميع الناس"(2) .
ومن مقتضيات هذا التعارف والتعاون والتكامل حسن الخطاب كما تحدثنا عنه الآية الكريمة: (( اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيِلِهِ. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين )) (النحل:125)
"هذه الآية، كما يقول محمد الطاهر بن عاشور، جمعت أصول الاستدلال العقلي الحق. وهي البرهان والخطابة والجدل المعبر عنها في علم المنطق بالصناعات"(3) .
ونجد نموذجا في خطاب الله عز وجل إلى موسى وهارون عليهما السلام: (( اِذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )) (طه:44). والقول اللين لا يعني الضعف والذلة أو قول ما ليس بحق.
ويقول الدكتور جمال الدين عطية: "ولأنها سنة إلهية تدركها العقول، والفطرة السليمة، فقد اكتفى القرآن بإيراد المقصد تاركا لتفاصيل التنفيذ المرونة اللازمة لتغطية الواقع الدولي المترامي الأطراف الممتد عبر الزمان، ولكنه أكد على ضابط مهم في جانب المؤمنين ليكونوا نماذج للتجرد الإنساني الرفيع (( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اْعدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ))(المائدة: 8) كأنه يشير إلى وجود التعاملات بين المعتدين ولذلك يأمر بالعدل بينهم"(4) . لكن التعاون المطلوب هو الذي لا يعارض أصلا من أصول الدين، وإلا كان محرما.
ثانيا: تحقيق سلام عالمي قوامه العدل
بدءا من الأسرة، الخلية الأولى للمجتمع، إلى العشيرة، إلى القبيلة، إلى الدولة، إلى العالم، وابن آدم لا هم له سوى إقامة العدل في محيطه وإشاعة السلام. وهذا ما تترجمه تلك العقود والمعاهدات في قرون ما قبل الإسلام وبعده. هذه المعاهدات مكنت من تعايش كوني وتبادل اجتماعي وثقافي، وحوار على جميع المستويات.
وكثيرة هي الآيات التي تأمر المسلم بالعدل مع أخيه المسلم أو أخيه الإنسان، منها قول الله تعالى: (( إنَّ اللهَ يَامُرُكُمُ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهْلِها. وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْن النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بالْعَدْل. إنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظِكُمْ به. إنَّ اللهَ كَاَن سَميعًا بَصيرًا )) (النساء: 58).
(( يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامين بالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّه وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمُ أَوِ الْوَالِدَيْن وَالأَقْرَبينَ )) (النساء:134).
(( لا يَجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَوْم عَلَى أَلاَّ تَعْدلوا. اعْدِلُوا هو أَقْرَبُ للتقْوى )) (المائدة: 9).
والعدل من أهم وظائف النبوة التي يمثلها قول الله عز وجل: (( وَقُلَ آمَنْتُ بِما أنْزَلَ الله من كتاب. وأُمرْتُ لأَعْدلَ بَيْنَكُم. اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُم )) (الشورى:15)، فهذه الآية تمثل أساس بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهو إقامة العدل بين الناس في شتى المجالات، لما كانوا يعيشونه من ظلم وفساد. وجميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعية إنما جاءت لأجل تحقيق العدل.
والإسلام شريعة العدل كما يبين ابن القيم رحمه الله: "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه..."(5)
ويدعو الإسلام لسلم تنخرط فيه الإنسانية كلها من غير تمييز أو تفريق كما في قوله عز وجل: (( وَإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْم فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلى الله )) (الأنفال: 61).
ويرى الدكتور جمال الدين عطية أن من وسائل حفظ السلام "إيجاد تنظيم دولي يحقق الأمن الجماعي وتنظيم التعاون في المجالات المختلفة، وترتيب المعاهدات بين الدول والإشراف على تنفيذها"(6) .
ثالثا: حماية حقوق الإنسان
تحرير الإنسان من عبودية العباد ورفع الظلم عنهم غاية أسمى جاءت من أجلها رسالة الإسلام. وهذا ما ينبغي التبشير به للعالمين.
يقول الله سبحانه وتعالى: (( وَلَقَدْ كَرمْنا بَني آدَمَ وَحَمَلْنَاهُم في الْبَر والبَحْر وَرَزَقْنَاهُم ِّمنَ الطيبات وَفَضَلْنَاهُم على كَثير مِمَّن خَلَقْنا تَفْضيلاً )) (الإسراء: 70).
هذه الآية جمعت مننا، هي: التكريم، وتسخير المراكب في البر، وتسخير المراكب في البحر، والرزق من الطيبات، والتفضيل على كثير من المخلوقات.
ويروي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قام لجنازة، فقيل له إنها جنازة يهودي. فقال: أليست نفسا؟
و"يعتبر الإسلام كل واحد من أفراد البشر مكلفا. أي مطلوبا منه أن يقوم بواجباته الكاملة نحو ربه، ونحو نفسه، ونحو المجتمع الذي هو منه، والإنسانية التي ينتسب إليها. والتكليف في العرف الإسلامي يقوم مقام المواطنة في العرف الديمقراطي الحديث"(7) .
ويمكن أن نعدد بعضا من هذه الحقوق كالتالي:
ا - حق الحياة: وهذا أول حق ينبغي أن يضمن للإنسان حتى يستطيع القيام بما كلف به.
وقصد الإسلام من الحياة الخاصة هو قصده للسلام العام الذي يحفظ وجود المجتمعات والأفراد. وهذا يقتضي:
-منع أي كان من الاعتداء على حياة الآخر.
-منع الانتقام والأخذ بالثأر كما كان على عهد الجاهلية، واتباع العدل في مثل هذه الحالات.
-منع الانتحار بتجنب الإنسان أسبابه.
-إشاعة السلم العام.
-محاربة الأمراض الفتاكة.
ب- حق الكرامة: وهذه حق لكل إنسان، برا كان أم فاجرا، كما مر معنا في آية التكريم والتسخير.
وقد مر معنا قول الله تعالى: (( وَلاَ تَسُبُّوا الَّذين يَدْعونَ مِنْ دُونِ اللهِ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلم. كذلك زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُم ثُم إلى رَبِّهِم مَرْجِعُهُم فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانوا يَعْمَلون )) (لأنعام: 108). وفيها منع للمسلم من الانتقاص من قدر ما يقدسه الآخر أو يعتز به. وإن كان، فإنه يعود بمس الكرامة الإنسانية من جهتين.
هذا، وحفظ الكرامة الإنسانية من الضرب والقتل والتمثيل أولى.
ج- حق الحرية: وهي خلق ذاتي وشخصي للإنسان تتجلى آثاره في أعمال الإنسان الصادرة عن شعوره بالتكليف.
وأول حرية هي حرية الإيمان، كما يحدثنا عنها القرآن الكريم: (( فَمَنْ شاءَ فَلْيُومِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر )) (الكهف: 29).
لكن هذه الحرية مضمونة ما لم تتجاوز الحدود، وإلا صارت اعتداء على حق الغير.
هذا، فضلا عن حرية العمل، وحرية البحث العلمي، والحرية الفردية، والحرية، الوطنية، والحرية السياسية...
ويعتبر "الدفاع المخلص عن حقوق الإنسان شغلة خلقية رفيعة يبذل فيها الفاضلون من غير ديننا الجهود المحمودة. هذا أمر واقع لا ينال منه تنكر الساسة المحترفين ولا ينبغي أن نتردد في التعاون المخلص مع نداء الضمير الإنساني الرائع الذي يدفع الجمعيات غير الحكومية عند نظرائنا في الخلق للتضحيات المشكورة، ما لم يتعارض ذلك النشاط الإنساني مع أصل من أصول ديننا"(8) .
هذه هي المقاصد المرجوة للمسلمين من الحوار مع الحضارات الأخرى، بل هي نفسها المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية؛ ذلك أن المقصد العام للشريعة الإسلامية، كما يعرفنا علال الفاسي رحمه الله، هو "عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع"(9) .
فعمارة الأرض ليست مسؤولية المسلمين وحدهم، بل لا بد لهم من إشراك الجميع، من أصحاب الثقافات والديانات الأخرى، في حدود من الاحترام والثقة المتبادلة.
وكذلك حفظ نظام التعايش في هذه الأرض، بل على المسلمين أن يكونوا سباقين إلى حفظ هذا النظام، والمساهمة في وضع معالمه وأسسه، باعتبارهم حملة رسالة هي خاتمة الرسالات، وبناة حضارة كانت رائدة للحضارات الأخرى.
واستمرار صلاح الأرض، كما يوضح علال الفاسي، لا يكون إلا بصلاح المستخلفين، مسلمين أو غيرهم. وهنا لا أدع الفرصة تمر للتأكيد على ضرورة إلغاء ذاك التقسيم السائد لدى غالبية المسلمين، بما فيهم العلماء والفقهاء، لغير المسلمين الذي يعتبر دارهم دار حرب !
لكن مادام المسلمون هم المؤمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبشريعة ربه عز وجل، فإنهم معنيون بالصلاح أكثر من غيرهم. وتقع عليهم مسؤولية تبليغ ما عندهم من خير الإسلام والاستقامة. هذه الاستقامة والصلاح إنما تجلياتها في العقل والحكمة في المعاملات، وفي العمل المنتج المثمر الذي يجمع ولا يفرق، لا العنف الذي يهدم كل شيء، ولا الباطل الذي لا يتم فوقه بناء.
وأما الإصلاح في الأرض واستنباط خيراتها فإنه مقصد للمحافظة على الإنتاج الأرضي، وإبقاء ميزة التكريم، التي كرم بها الله بني آدم على حد سواء. ومن هذا أيضا توزيع ثرواتها بعدل وإنصاف، وإسعاف المحتاجين. وهنا تبدو مسؤولية الدول الغنية تجاه الدول الفقيرة التي لا تنتج ما يكفي حاجياتها.
أما تدبير منافع الجميع فإنه يعني الوقوف مع المحتاجين والمتضررين، وكذا كل من تصبهم آفة من الآفات، من أي نوع كان... وتبقى النقطة الجامعة هي الوقوف على تحقيق مصالح الكون والمتعايشين فيه، وتجنيبهم كل ما من شأنه أن يضر بمصالحهم جميعا.
وأشير أن هذه النقط لن تؤتي أكلها وتكون لها الثمار الطيبة إلا إذا تحققت في الدول الإسلامية شروط أربعة:
_إشاعة الديمقراطية، بما يصاحب ذلك من محو الاستبداد وإقامة العدل.
_النهوض بحقوق الإنسان.
_إصلاح التعليم.
_استثمار طاقات وإمكانات الأمة بدل أن يستثمرها الآخر، فكم من طاقات لا يستفيد منها إلا الآخر، وكم من إمكانات ومقدرات الأمة لا يستغلها إلا الآخر، والنفط في مقدمة ذلك.
الإحالات:
(1) ابن عاشور، التحرير والتنوير 12/ 260، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.
(2) نفسه 3/ 269
(3) نفسه 7 / 331.
(4)جمال الدين عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة ص 166. ط1، دار الفكر، دمشق 2001.
(5) إعلام الموقعين 3/3، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973.
(6)جمال الدين عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة ص 169.
(7)علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ص 225، ط 5، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1999
(8) عبد السلام ياسين، العدل.. الإسلاميون والحكم ص 322 ط 1، 2000، مطبوعات الصفاء.
(9) مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ص 42.
*كاتب وباحث-المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.