متابعة الإعلام العربي بعد تصاعد أعمال القتل والتهجير الجماعي لسنة العراق تشير إلى انقلاب جذري في مواقف النخب الإسلامية تجاه إيران تحديدا والشيعة بشكل عام. فمن مواقف التعاطف الصريح أو الضمني مع الثورة الإسلامية كمشروع تحرري ضد الاستكبار العالمي وكقوة إقليمية صاعدة تشكل نواة القطب الحضاري الإسلامي في مواجهة القطبية الأميركية الصهيونية، تحولت تلك النخب إلى مواقف الإدانة والاستياء أمام انكشاف الحقيقة المُرة. الحقيقة المُرة يعبر عنها واقع العراق منذ سقوط بغداد في أيدي التتار الجدد صبيحة التاسع من أبريل/ نيسان 2003. عنف طائفي كريه، حقد ودم، قتل على الهوية وتهجير وتشريد حصيلته أكبر موجة نزوح شهدتها المنطقة في تاريخها الحديث. استطاع الغزاة الجدد بسرعة فائقة وبدهاء منقطع النظير اختراق البنية الاجتماعية للعراق وتفكيك ما تبقى من تضامنات وطنية، مستفيدين من وضع سيكولوجي عام يحكمه مركب قابلية الانقسام والتقوقع الطائفي. " توحيد العراق كان دائما عموديا وقسريا أي أنه تم بواسطة جهاز الدولة متمحضا في مبدأ الإكراه عن طريق احتكار الضغط المسلح، وهو بالتالي توحيد فاقد للشرعية الأخلاقية اللازمة لتحقيق الأمن العام والاستقرار الاجتماعي والسياسي " استنادا إلى عبد الكريم الأزري في كتابه "مشكلة الحكم في العراق" وناجي شوكت في كتابه "سيرة وذكريات 80 عاما" فإن الملك فيصل الأول كتب عام 1931 مذكرة جاء فيها: إن البلاد العراقية هي جملة من البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ذلك هو الوحدة الفكرية والقومية والدينية, فهي والحالة هذه مبعثرة القوى منقسمة على بعضها وبالاختصار أقول وقلبي يملؤه الأسى إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد بل توجد كتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية، هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي. العراق الحديث إذن دولة عربية ذات وضع استثنائي حيث لم تستطع السياسة صهره وتوحيده أفقيا لا عبر الدين (الخلافة العثمانية) ولا بواسطة الأيديولوجيا (القومية العربية). توحيد العراق كان دائما عموديا وقسريا أي أنه تم بواسطة جهاز الدولة متمحضا في مبدأ الإكراه عن طريق احتكار الضغط المسلح، وهو بالتالي توحيد فاقد للشرعية الأخلاقية اللازمة لتحقيق الأمن العام والاستقرار الاجتماعي والسياسي. لقد كانت الدولة العراقية الحديثة، من الولاية العثمانية إلى الملكية فالجمهورية، دائما دولة قهرية لم تستطع المجاوزة بين مبدأي الأمن والحرية اللازمين لتواصل العمران والتمدن. في إطار سلوك الدولة القهري وتجويفها من المضامين الأخلاقية وخيانتها لقيم النشأة الحديثة فيما يعرف بالمواطنة في الاجتماع المعاصر، تقوقع المجتمع على طوائفه والطوائف على عصبياتها المذهبية والعرقية والعصبيات على ملاحمها وأساطيرها المؤسسة لعقلية التمايز عن الآخر ضدا عنه. لقد كانت الأنظمة السياسية المتتالية على حكم العراق كلها شمولية مما فعّل القانون الاجتماعي القائل بالعلاقة السببية والحتمية بين انسداد النظام السياسي وانفجار المجتمع الأهلي. هذا الانفجار يكون عادة إما داخليا أو خارجيا، من حيث علاقته بالدولة، بمعنى أنه قد يتجلى في مظاهر تفكك وتآكل داخلي تعبر عنه، في الحد الأدنى، ظواهر احتجاج سلبي على الواقع (تصوف، دروشة) وفي الحد الأقصى ظواهر عنف وتصفية ضد فريق آخر من فرقاء المجتمع المدني. أما خارجيا فإن الانفجار يأخذ منحى عنفيا في مواجهة الدولة بعد انسداد كل قنوات التعبير السياسي واليأس من تحقيق كل المطالب أو جزء منها عبر آلية التوافق والتسوية الرضائية. الحالة العراقية هي إذن التعبير الصارخ عن وضع الانفجار الشامل، داخليا وخارجيا، حيث يعيش المجتمع وضع حرب الكل ضد الكل بما يفسح المجال واسعا أمام تنامي الأحقاد واستثمار الذاكرة الجماعية في صناعة الاصطفافات الأهلية وتجييش المشاعر الدينية والقومية في أفق المشروع الطائفي المدمر للوطن وللطائفة معا. " الاقتتال المذهبي نتيجة حتمية للتوظيف السياسي السلبي للقيم الاجتماعية، وليس هذا الأخير إلا تعبيرا عن انحطاط مفهوم السياسة التي أصبحت مرتبطة بمفاهيم التملك والغنيمة والثأر بدل أن تكون إدارة عادلة للشأن العام وعقلنة للإكراه وأنسنة للانقسام الاجتماعي " في أتون الحرب الطاحنة هناك حيث تدور رحاها في بلاد الرافدين أو يتردد صداها في العواصم العربية والفضائيات الإعلامية، يتجه السلوك الطبيعي للسياسي والمثقف معا إلى تحميل المسؤولية إلى هذا الطرف أو ذاك عن إيقاد الفتنة وتأجيج نيرانها الحارقة. فمن القاعدة وأسامة بن لادن إلى الحرس الثوري وآيات الله المتربعين في طهران وقم مرورا بقوات بدر ومليشيا الصدر وبالبرزاني والطالباني والجلبي و "فلول البعث البائد" وصولا إلى الوهابية وآل سعود والنظام العلوي في دمشق، تجد الأقلام الحائرة والباكية مادة دسمة في كشف الحقائق وفضح "المنافقين" من أعداء الأمة والملة. ضمن هذا الخضم المتأجج والتشابك السياسي والإعلامي الحاد، يتجه قطاع عريض من النخبة الإسلامية إلى تحميل الشيعة الروافض ومن ورائها إيران مسؤولية التطاحن والحرب الأهلية في العراق. بل إن الأمر يصل إلى حد التأصيل الديني والإشهاد التاريخي عن سبئية التشيع ومجوسية إيران من أجل إثبات فرضية "المجرم بالطبيعة" التي قال بها فقيه القانون الجنائي الإيطالي لامبروزو. لقد غاب عن جميع هؤلاء كما عن المسؤولين الحقيقيين عن ارتكاب جريمة "شنق العراق" أن تحميل المسؤولية في أوضاع الحرب الأهلية لا يفك التشابك بقدر ما يزيد في الاحتقان، وإذكاء فتيل الصراع والاقتتال. ربما يجد تحميل المسؤولية لإيران وتجريم الشيعة مسوغا له في نظرية "الدفاع الشرعي" حيث يتلظى السنة العراقيون بلهيب المليشيات الشيعية الحاقدة، ولكن سرعان ما تتهاوى شرعية هذه النظرية حين نعلم أن ألسنة اللهب طالت أيضا شيعة الأهواز وكثيرا من آيات الله (آية الله منتظري وآية الله حسين فضل الله) ومفكرين شيعة عانوا ولا يزالون من تطرف ديني وسياسي تنتجه وتروج له لوبيات سياسية ومراجع دينية وحوزات علمية. إن حقبات التعايش الطائفي السلمي في العراق، كما في غيرها من بلاد الإسلام، بين السنة والشيعة تعد بالقرون في حين تحسب حالات الاقتتال ربما بالسنوات أو بالأشهر والأيام. بل ربما أكاد أجزم أن اضطهاد السنة، علماء وعامة، من قبل أبناء مذهبهم قد فاق كثيرا اضطهادهم من طرف الشيعة، ولهؤلاء مثل ذلك. ليس الاقتتال المذهبي إذن إلا نتيجة حتمية للتوظيف السياسي السلبي للقيم الاجتماعية، وليس هذا الأخير إلا تعبيرا عن انحطاط مفهوم السياسة لدى النخبة والجماهير معا حيث أصبحت مرتبطة بمفاهيم التملك والغنيمة والثأر بدل أن تكون، كما هي وظيفتها الحضارية أصلا، إدارة عادلة للشأن العام وعقلنة للإكراه وأنسنة للانقسام الاجتماعي الطبيعي بين حاكمين ومحكومين. إيران.. عدو متربص أم حليف ممكن؟ " إيران نموذج للدولة القومية التي استطاعت المزج بين أيديولوجيا دينية ونخبة تكنوقراطية فأنتجت تعادلية مخضرمة وفريدة بين الاستبداد والديمقراطية وبين الدين والقومية إلى درجة استعصت معها على الفهم والتوقع " ينطلق الحكم على إيران بمعاداتها للسنة وتهديدها للأمن القومي العربي من نظرة أحادية وهلامية فاقدة للقدرة على التحليل والتركيب السياسي. ويزيد من خطيئة هذه النظرة الأحادية تقوقعها في البعد الديني الذي ينظر إلى السلطة في إيران كسلطة دينية شيعية يتربع على عرشها ملالي تعشش في عقولهم عقلية الثأر لعلي من معاوية ولأهل البيت من النواصب. إيران هي أولا وقبل كل شيء دولة قومية تتحرك إقليميا ودوليا بمنطق المصالح المادية والقومية المباشرة التي يصطف فيها المشروع الديني خلف البراغماتية السياسية. ولعل العلاقة الوثيقة للنظام الإيراني مع نظيره التونسي، على حساب الحركة الإسلامية التونسية كحليف مفترض، تدلل على الهوية القومية للدولة الإيرانية حيث بلغ التعاون مؤخرا درجة حرمان راشد الغنوشي من تأشيرة الدخول إلى أراضيها ضمن وفد إسلامي فيما اعتبره كثير من المراقبين استجابة لرغبة تونسية رسمية. ولقائل أن يرد بأن إيران ترعى بذلك مصلحتها الدينية حيث تقايض علاقتها الودية مع نظام علماني يقمع حركة إسلامية مقابل حرية نشر مذهبها الشيعي في أرض سنية مالكية، غير أن هذا الرد سرعان ما يتهاوى أمام حقيقة وقوف إيران إلى جانب الأرمن ضد أذربيجان الشيعية. إيران هي إذن نموذج للدولة القومية التي استطاعت المزج بين أيديولوجيا دينية ونخبة تكنوقراطية فأنتجت تعادلية مخضرمة وفريدة بين الاستبداد والديمقراطية وبين الدين والقومية، إلى درجة استعصت معها على الفهم والتوقع. هل النووي الإيراني موجه ضد إسرائيل وأميركا أم ضد دول الطوق العربي السني أم هو مجرد تأمين للأمن القومي بعد نفاد مخزون النفط والغاز؟ وهل الدعم الإيراني لشيعة العراق دعم مبني على أساس مذهبي أم على رؤية إستراتيجية لحيثيات الصراع ومآلاته الإقليمية والدولية؟ هل الدعم الإيراني للمقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان تكتيك ومناورة وإدارة للحرب في أرض بعيدة أم هو دعم مبدئي نصرة للحق والمستضعفين ؟ أعتقد أن الإجابة الجاهزة عن مثل هذه الأسئلة الخطيرة إستراتيجيا لن تكون علمية وموضوعية خصوصا إذا انطلقت من خلفية أيديولوجية دينية كانت أم قومية. الأنجع منه قطعا هو العمل السياسي والفكري والإعلامي على ترجيح الأفضل دينيا وقوميا لنا نحن العرب والمسلمين، وترتيب أولوياتنا دون أن يفقدنا غبار المعركة معالم الطريق الآمن. " إدانة إيران وتجريم الشيعة فيما يحدث بالعراق لن يحل مشكلة كما أن الاصطفاف خلف كوندوليزا رايس لمواجهة الهلال الشيعي والخطر النووي الإيراني لن يزيد المنطقة إلا احتراقا وخرابا " إدانة إيران وتجريم الشيعة فيما يحدث بالعراق لن يحل مشكلة، كما أن الاصطفاف خلف كوندوليزا رايس لمواجهة الهلال الشيعي والخطر النووي الإيراني لن يزيد المنطقة إلا احتراقا وخرابا. ربما نختلف في التقييمات والمواقف تجاه كل القضايا الحارقة، لكننا نتفق قطعا حول الإجماع الذي صنعته تجربتنا السياسية المعاصرة. إجماع يتمحور حول مسائل رئيسية أهمها: 1- الصهيونية والاستبداد هما العدو الرئيسي للأمة ومصدر الشرور في العالم. 2- الحرية والعدل هما أساس العمران وشرط النهضة. 3- الوحدة والتضامن العربي الإسلامي هدف ومصلحة مشتركة. إن العودة إلى هذا الإجماع هي عودة إلى العقلانية، فيما هي حضور للتاريخ في العقل، بعيدا عن دوي المدافع وأزيز الطائرات القادمة إلى المنطقة من وراء البحار. أما إنكاره أو تجاوزه فلن يزيدنا إلا غرقا في مستنقع الحروب لتصبح البسوس وداحس والغبراء مستقبلنا، كما كانت قبل مجيء الإسلام تاريخا أبكى أجدادنا ويضحكنا. عندما يخيم الضباب وتدلهمّ السحب الدكناء في سماء الرافدين، كما في مشرق الوطن العربي ومغربه، تصبح العودة إلى الثوابت ضرورة قومية وشرعية دونها التيه والفناء. كاتب تونسي