كلمات حزينة تلتحف السواد تملأ سماء تونس وأرضها هذه الأيام... فاجعة صفاقس لن تمر دون أن تترك تساؤلات عديدة... مأساة عاصمة الجنوب ستظل مخيمة على الشأن التونسي لفترات... الزوايا عديدة لطرق الحادثة والاعتبار مما حصل، ولقد خيرنا المرور من حيث الأسلاك الشائكة والنظرة المستقبلية لهذا الحدث لأننا نرى بكل تواضع أن المأساة فتحت من الصناديق المغلقة وكشفت عن المستور أو المغيب ما يجب الوقوف حوله بكل تواضع وجدية...ولا يفوتني وأنا أحبّر هذه الورقة، خروجا عن منهجية النص الأدبي إلا الانكسار تواضعا للضحايا وأهاليهم وتعزية الآباء والأمهات سائلا لله لهم الرحمة والصبر والسلوان. تحدث البعض عن الأسباب وتسائل عن ارتباطات وتداخلات لعناصر وأفراد ومنهجيات عمل وربح، على حساب الأنفس البريئة وفلذات الأكباد، وتوالت أصابع الاتهام نحو بعض الوجوه المعروفة، وركز البعض عن علاقة الفاجعة ومألم بها، مع الاستبداد وصولاته وجولاته، ورأى البعض الآخر أن البحث عن فرد أو عقلية لا يكفي ولكنها منهجية انحلال خلقي وسقوط قيمي تسعى بعض الأطراف إلى تثبيت نسقها داخل البلاد لمواجهة موجة التدين الاجتماعي الذي غزا البلاد. كل هذه النوافذ لتحليل ما وقع من مأساة، على جديتها وخطورتها لا يلغي وجود زوايا أخرى يمكن الوقوف عندها، ولقد استوقفني عند قراءة ردود وتعليقات أهالي الضحايا، كلمات تبدو هامشية في سياق ما حدث ويمكن أن تختفي وتتوارى أمام لوعة وحسرة الآباء والأمهات، غير أنها تشكل حسب ظني تعبيرة هامة وأساسية على حالة ظاهرة معينة وماهيتها وهدفها ومدى نجاحها أو فشلها، خاصة إذا كانت هذه الظاهرة تشكل حسب ظني مفتاح المستقبل في تونس وفي كل الأقطار الإسلامية عموما لما لها من ارتباطات مباشرة باجتماعنا واقتصادنا وثقافتنا، وبالتالي بنجاحنا أو فشلنا، ففي انحرافها انحراف لمستقبلنا وسقوط لأحلامنا، وفي نجاحها [مع تحديد ماهية وشكل النجاح] نجاح لنا ولمن حولنا... إنها الصحوة أو عودة التدين الاجتماعي الذي أصبح ظاهرة مهيمنة على المشهد العام ولا يخلو منها بلد إسلامي أو مجتمع أو جهة أو أسرة داخل هذا الكيان. لن نعيد كلاما قد وقع اجتراره حول هذه العودة من أسباب وأحوال، وقد تعرضت في كتاباتي منذ سنوات إلى هذه الظاهرة وطرحت منهجية كاملة للتعامل معها[ ] [1]، غير أني أريد من خلال هذه الأسطر وباقتضاب التعرض إلى إشكالية خطيرة تطرحها الصحوة عموما وهي تخط مسارها الصعب والتي نحّت عنها الغطاء حادثة صفاقس أخيرا، والمتمثلة أساسا في سؤال منهجي يطرح نفسه بكل حرج ولكن بواقعية... هل تنحو الصحوة منحى انفصاميا بين الممارسة الشعائرية الفردية من ناحية والمعاملة المدنية والتطبيق الميداني من ناحية أخرى؟ لا نريد مجتمع الحزن والقسوة والسواد لنكن منذ البداية حاسمين حتى لا يدخل علينا الباب أحدهم وهو يرفع علينا سيف البياض والطلاقة والابتسامة والجمال والرفاهة، في مقابل السواد والحزن والقسوة والظلام، لنكن واضحين حتى لا نتهم بأننا عنوان المجتمع الحزين والوجه المكشر والعبوس ومشاعر التشاؤم والموت ومشروع المقابر...فنحن مع الجمال كقيمة عليا تتجاوز حدود المنفعة الحسية واللذة المباشرة، وقد حملنا مشروعا على إحدى يافطاته مرسوم "إن الله جميل ويحب الجمال"، فالجمال قيمة ثابتة في مشروعنا الحضاري تتجاوز الإنسان وقد خلقه الله في أحسن تقويم، وتتجاوز محطة حياته " وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة" (النمل 60). لتعبر ملكوت السماوات والأرض "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج" (ق 7،8). وفي فقدان الجمال فقدان لإحدى مقومات الحياة الطيبة التي كثيرا ما عناها المقدس الإسلامي. ونحن مع المجتمع المبتسم والسعيد..، والبشاشة قيمة إنسانية عندنا لها مكانها في المشروع الاجتماعي وينبت عليها مجتمع التفاؤل والحب والوئام، وقد جمع البخاري بابا كاملا في أحاديثه عن النبي الكريم (ص) سماه باب التبسم والضحك "كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق (الترمذي)" "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق " (مسلم)... توسعي بعض الشيء في هذا الشأن وهو ليس جوهر موضوعنا حتى لا يُزايَد علينا في هذا الباب، وينحرف به إلى غير ما نريده في هذه الأسطر. فنحن نطمح بكل بساطة لمجتمع الرفاه والحياة الطيبة التي تنبني على هذه المفاهيم والتصورات من جمال و وسرور وانبساط وتفاؤل وبشاشة ولكن داخل منظومة من الأخلاق والقيم التي تحتويها وتجعلها ترتبط بالأصالة والهوية دون معاداة الآخر أو السقوط في براثينه، وحتى لا تنحرف نحو مواطن العبث، احتراما لفطرة الإنسان وما جُبلت عليه من حب الحياة. الصحوة في مخالب الممارسة تقول إحدى هذه الشهادات الحية لأهالي المفقودين في فاجعة صفاقس : " وفي يوم الواقعة وقبل أن تغادر [ندى] البيت صحبة شقيقها ماهر أدّت صلاة المغرب وودّعتني قائلة لي حرفيّا: «باي.. باي.. يا بابا... فقلت لها مازحا... ملّى ستار أكاديمي متاعكم... فكانت آخر كلمة ردّدتها: «ياللّى يا بابا.. خلّي الواحد يتفرهد ويعمل ضحكة...[2] [ ] أما عن الفتاة الفقيدة أمل، فتقول أمها فكانت بمثابة ملاك الرحمة... مثابرة على صلاتها وواجباتها الدراسية والمنزلية... لقد فقدتها إلى الأبد..وتواصل السيدة فائزة الأرملة الطيبة والمؤمنة بالقضاء والقدر.. لقد أوصلتها للمسرح الصيفي بنفسي وعدت إلى المنزل فأديت صلاة المغرب الذي تأخّرت عنها قليلا... [3] [ ] هذه المقتطفات المقطوعة بالدموع والآهات والألم، تعطي جانبا من هذه التوليفة العجيبة بين صحوة ملأت الديار وهي ترتع في الآفاق وتمثلها عودة للشعيرة والطقوس داخل الحياة الاجتماعية من جهة، وبين تواصل لثقافة وعقلية وسلوك اجتماعي أقل ما يقال عنهم أنهم لا يلتقون مع توجهات هذه الصحوة ومطالبها وممارساتها. ليست هذه الكلمات، على حزنها وقتامتها، فلتة في المجتمع التونسي الحالي وما يعبره من تيارات وثقافات، وليس هذا الاستنتاج جديدا ومفاجئا، وليست التساؤلات المبطونة، عرضية ولا تنبني على توجس من بداية انحراف أو وجود خلل داخل الصحوة الإسلامية إجمالا والتونسية منها خاصة. كل المؤشرات التي تأتينا من تونس، عبر الكثير من الأصحاب والأصدقاء والملاحظين للشأن التونسي والمتابعين لتطوراته، تؤكد على هذا الانفصام الذي بدأ يخط طريقه بين التطبيق الشعائري والممارسة الطقوسية للدين من ناحية، وبين الممارسة المدنية من ناحية أخرى، حيث يلاحظ هذا الانكفاء الديني وحصره في بعده الفردي والشعائري وعدم بلورته إلى معاملة ميدانية واجتماعية مباشرة. كثيرة هي القصص التي تروى عن هذا الانفصام، وتعبر عن هذا الخلل المزعج والخطير، فهذا يعطي الرشوة لأحدهم، حتى إذا سمع صوت الأذان طلب من المرتشي أن يسرع حتى لا تفوته الصلاة! وهذا لا يستنكف عن الإقراض بفائدة في غير ضرورة أو حاجة وهو الذي يقضي كل عام العشر الأواخر من رمضان في رحاب الحرم!!، وقصة الباعث العقاري الذي أفسد على عشرات الأسر حياتهم بعد أن غشهم في بناء بيوتهم، معروفة وتعرضت لها قناة الحوار منذ مدة، وشكوه لسنين وهو يتهرب من المساءلة والحضور، ولما ذهبوا لطلبه ذات مرة وجدوه قد سافر للحج طلبا للمغفرة ودخول الجنة وقد جعل أيامهم كلها سعيرا!! والآخر يواظب على صيام الاثنين والخميس ولا يعرف في أمواله بابا للزكاة والرأفة بالفقير!!... هذه القصص وغيرها والتي لا نراها حقيقة مقصورة على الإطار التونسي وإن كانت أكثر غلوا ووجودا، إلا أنها تنبئ على هذا الخندق الذي يفصل بين الممارسة الفردية للدين وعدم تجاوزه إلى المنطقة الاجتماعية، حيث انحبس المدرار الديني عند بابه الفردي واقتصر على إطاره الشعائري ولم يتمثل في سلوكيات اجتماعية. فهل هو خلل في الإطار وخلط للمحطات والفضاءات وعدم تحديد الأرض التي نقف عليها؟، أم هي البيئة الحاضنة والظروف السائدة حيث سعى الاستبداد إلى مواجهة الصحوة ومحاولة صدها بمواجهتها بثقافة بديلة يغلب عليها طابع الحسية والمادة واللذة وحتى الشهوانية، فعجزت الصحوة عن وجود البديل، وفشلت في كنه الباب الذي يعبره الريح؟ أم هو خلل في الحمل ومن يحمله فغاب فقيه الديار أو العالم الميداني المباشر وبقيت الشاشة سيدة الموقف فتلفظت بفتاوى ونصائح يمكن أن تكون غير واقعية في بعض تنزيلاتها ومسقطة على واقع غير واقعها ؟ أم خلل في الخطاب والتنظير و خلل في المنهجية؟ أم هو كل ذلك والأمر أكثر تعقيدا وأكثر خطورة ؟؟؟ هوامش : 1 / انظر خالد الطراولي كتاب "إشراقات تونسية" مركز الحضارة العربية، القاهرة 2006 ص 173 وما يليها و "هل يكون التدين المنهجية الجديدة للتغيير" القدس العربي 24 ماي 2003. 2 / صحيفة الصباح التونسية 3 ماي 2007 3 / نفس المصدر