أعادت أجواء العفو الذي شمل مجموعة من سجناء الرأي وأبناء حركة النهضة وخصوصا منهم أولئك الذين مضى على اعتقالهم أكثر من ستة عشر عاما، آمالا بامكانية انفراج حقيقي يعيد البسمة والألفة إلى العائلة التونسية التي عانت طويلا جراء الفرقة والصدام بين الإخوة أبناء الوطن جمعهم الانتماء للخضراء وفرقتهم الانتماءات الحزبية والميولات الأيديولوجية... لا تكفي صيغ التهاني لهؤلاء الذين فرج الله كربهم ورأوا شمس النهار مشرقة من جديد قبل أن تغرب شمسهم، فلا يدرك معنى الحرية إلا من افتقدها، ولا معنى الأوطان إلا من اكتوى بنار الغربة وفراق الأحبة... هنيئا لهؤلاء جميعا، وهنيئا لتونس قيادة وحكومة وشعبا بعودة الروح إلى القيم الأصيلة، قيم العفو والتسامح بعيدا عن المزايدات الحزبية والحسابات الآنية الضيقة.. وهي مشاعر لا شك أنها تبعث الآمال بأن يتسع صدر السيد الرئيس زين العابدين بن علي ليشمل بعفوه من تبقى من سجناء الرأي أمثال المهندس عبد الكريم الهاروني والدكتور صادق شورو وغيرهما... أجواء العفو وزغاريد الأمهات وهن يحتضن فلذات أكبادهن بعد طول غياب، هذا هو الوجه الإنساني الذي يبدو للعيان، هو أمر مهم ولا شك، لاسيما وأنه اقترن بمناسبة يجلها كل تونسي ألا وهي العيد الذهبي لقيام الجمهورية التونسية، وهي مناسبة نهنئ أنفسنا بها، أقول هذا وفي ذهني أيضا جملة من الملفات ذات الصلة بأجواء التوافق والتراحم، التي تفتح آفاقا جديدة للتعايش بين اتجاهات لم يعد لهم من بد من التعايش والتناصح، على نحو يصوغ سمفونية التعددية بمعناها التنافسي الفعال. لا أريد أن أحمل خطوة العفو الذي يبدو حتى اللحظة أنه إنساني أكثر مما يحتمل، ولكنني أسمح لنفسي بأن أدخل من خلاله إلى ملف أرق النخبة السياسية في الحكم والمعارضة لسنوات طويلة، آملا أن يجد هو الآخر عناية تليق به، وأعني بذلك ملف الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. لن أضيف جديدا إذا قلت بأن هذا الصرح الحقوقي الشامخ يعتبر أحد أبرز المفاخر التي يحق لتونس أن تزهو بها إقليميا وعربيا وإسلاميا ودوليا حتى، ولكنه زهو منقوص، إذ كيف تتحول منظمة بحجم الرابطة التونسية لحقوق الإنسان إلى مجرد جدران يتصارع على سكنها نشطاء حقوقيون يملكون من الزاد الديمقراطي وثقافة التداول السلمي على المسؤولية ما يحول دونهم وإبقاء هذه المنظمة في حالة شلل مزمن؟ لن أدخل في تفاصيل الخلاف حول أحقية أي جهة بقيادة المنظمة، ولكنني أعرف كغيري من التونسيين أن بلادنا تزخر بآلاف من المنظمات الأهلية ذات الصلة بالمجتمع المدني، وهي منظمات تحظى برعاية دعم من السلطة، وأعلم أيضا أن القوانين السارية المفعول لا تمنع أي جهة حقوقية توفرت لديها الشروط القانونية لتأسيس منظمة مدنية للدفاع عن حقوق الإنسان أن تفعل ذلك، وربما يكون الأعضاء الرابطيون المحسوبون على السلطة هم الأقدر على تأسيس هيئة حقوقية جديدة، ليس لأنهم محل ثقة سياسية وقانونية من مؤسسات الدولة فقط، ولكن لأنهم هم الذين اعترضوا على هيئات المنظمة، ووصل الأمر بينهم وبين الهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي ظلت مستقلة إلى طريق مسدود... وهذه قسمة تنهي الخلاف القائم وتسهم في بلورة مناخ حقوقي يرقى بتونس إلى مصاف الدول التي تحترم حقوق الإنسان، وعند ذلك لا تبقى ضرورة لجمعيات حقوق الإنسان فنؤسس لجمعيات أخرى تعنى يالرفق بالحيوانات على غرار ما هو موجود في الغرب، إذا فليتنافس الفريقان كل في جمعيته من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان التونسي، وهو في حاجة إلى تنافس من هذا القبيل. أملي أن يدرك الطرفان أن الاستمرار في النزاع على الشرعية في رابطة لا شك أن كثيرا من التونسيين في حاجة إلى خدمتها، هو مضيعة للوقت وهدر للطاقات، وأن يعلم الطرفان أن تأسيس جمعية حقوقية في عالم اليوم لا يأخذ أكثر من رسالة إعلام للجهات الرسمية يتم إرسالها عبر البريد، فلو أراد تونسي مثلا تأسيس جمعية حقوقية تونسية في أروبا فإن ذلك لا يكلفه سوى تذكرة سفر إلى أي من دول أروبا ويعلن منها تأسيس جمعيته، فلماذا لا يختصر الطرفان الطريق ويعلنا للملأ الإمساك بينهما بمعروف أو أن يتفارقا بإحسان؟. والله من وراء القصد.