يخطئ من يعتقد أن الصيام فقط هو من يوحّد العرب والأعراب هذه الأيام، فهنالك وحدة أخرى لا تحتاج إلى كبير جهد من أجل اكتشاف وجودها، وهي اشتداد قبضة الأنظمة على الحريات وخنقها بشكل يكاد يكون مميتا إلى الأبد، ففي مصر يُحاكم الصحفيون ورؤساء التحرير بسبب نشرهم مقالات عن صحة الزعيم الأوحد "الذي لا يموت !"، وفي تونس يواصل عدد من النقابيين والحقوقيين إضرابهم عن الطعام( فهم صائمون من قبل رمضان !) داخل السجون والاقامات الجبرية، أمّا في سوريا، فالجميع يعرف أن من دعت عليه أمّه وأصبح معارضا سيكون عليه قضاء نصف عمره خلف القضبان أو في أحسن الحالات في المنافي، ولا يختلف الوضع في لبنان أين يتصارع الزعماء كالديكة على منصب الرئاسة، ثم في ليبيا، والمغرب، وحتى بموريتانيا والجزائر، يكاد يكون المشهد واحدا، والوباء مشتركا... وهو الاحتباس الديمقراطي على وزن الاحتباس الحراري ! كثيرا ما كنّا نبلع جرعات زائدة من الاستبداد، والهموم المتراكمة كالجبال على ظهورنا، ونهمس لأنفسنا ساكتين عن الحق، متعاونين على الباطل " أن كثرة الأحزان تعمّر الأوطان !"، لكن تبيّن فيما بعد، مع استمرار سياسة (أنا وبعدي الطوفان) أن كثرة الأحزان تخرّب الأوطان والإنسان، وتجعلنا ندخل طائعين مستجيبين في ذمة النسيان. ما يحتاجه العالم العربي في هذا الظرف المشحون بالصراعات والنزاعات الدموية، ليس أمنا قمعيا ولا نظاما بوليسيا، ولا إلى قاعدة أمريكية لمطاردة فلول القاعدة البن لادنية، بل يحتاج إلى جرعة أكسجين من الديمقراطية والحريات، تسمح لهذا المواطن المحاصر من كل الجهات بالقول لولي أمره "أخطأت وستحاسب"، طالما تأكدنا أن ما كتبه يوما شيخ الديمقراطيين العرب عبد الرحمن الكواكبي صائب جدا، خصوصا عندما قال أن وليّ الأمر يخاف من الرعية مثلما تخاف الرعية منه، ولكننّا بدلا من إنشاء علاقة بين الحاكم والمحكوم أساسها التداول والتشاور، أسسنا بصمتنا وبقمعهم ما سماه الرحابنة يوما في إحدى مسرحياتهم "حكم الرعيان" ! والأكيد أنه باستمرار بعض الفئات تغليب الخيار الأمني في العراق، ومصر وتونس...وفي الجزائر، ثم في لبنان التي بقيت لعقود منارة الديمقراطية عند العرب، لكنها اليوم تختار رئيسها تحت حماية العسكر، سيكون لزاما على الأجيال المقبلة أن تحجز مكانا لها من الآن في ظلال دول بوليسية شعارها الأوحد والدائم "الأمن أولا"، فنحقق بذلك تداولا على الخوف والترهيب بدلا من التداول المشروع على السلطة !