تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرحابنة فيروز..تفاصيل مساحة الجسد والروح
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

الرحابنة فيروز.. enter تفاصيل مساحة الجسد والروح enter الروح الطليقة enter احمد صلاح الملا (لبنان) enter enter الكتابة عن فنانة كبيرة مثل فيروز، وعن تجربة كبيرة ذات أبعاد انسانية وفنية مهمة مثل التجربة الرحابنية التي كانت فيروز المتحدث الرسمي باسمها تعدّ أمرا حميما، وبالغ الصعوبة أيضا، فحين كان الأمر بهذا القرب، تصبح رؤيته بقصد الفهم والتحليل والاستيعاب أمرا متعذرا أو على الأقل عسيرا، ويصبح كل ما يمكن فعله حياله، هو الاستمتاع به، وكفى. enter وقد بدأت التعرف على صوت فيروز وتجربتها الفنية منذ أحد عشر عاما تقريبا، حين أذاع التليفزيون المصري في أحد أيام جوان 1995 واحدة من أشهر مسرحياتها وهي »لولو« وإذاعة عمل لفيروز في أي محطة تلفيزيونية هي أمر لا يحدث كثيرا ولعل هذا هو أحد أسباب كون هذا الأمر حين حدوثه يبدو مبهجا جدا، لكن اذاعة عمل لفيروز في التلفيزيون المصري بالذات هو أمر نادر بحق. enter ويبدو من الصعب الآن تحديد الأسباب التي ربطتني منذ تلك اللحظة بصوت فيروز ومجمل تجربتها، بدا لي الصوت ناعما وسمحا الى أبعد حد، كما بدا بالغ التفرد والخصوصية أيضا ربما أدركت هذا فيما بعد لكن بالأساس بدا لي أن لهذا الصوت سره الخاص الذي يجعل كل من يحبه يستطيع أن يحب الحياة والناس ويتطلع الى النجوم ويجلس على السحاب ويمسك القمر بكلتا يديه. enter لعل أهم ما سيبقى من تجربة فيروز والرحابنة هو مسرحهم الغنائي بالدرجة الأولى، ذلك أن هذا المسرح لم يقدم لتراث الفن العربي انجازا مهما على صعيد الموسيقى تعبيرا وتقنية فحسب، بل قدم أيضا وهذامهم للغاية صياغة وطنية لبنانية بالغة الرقي لقضايا كبرى ذات طابع انساني عريض، سواء على صعيد تقديم »صورة ما« من الحياة في الضيعة اللبنانية، ليست بالضرورة واقعية بشكل مباشر لكنها بالتأكيد انسانية ولا ينقصها الصدق، كما ظهر على سبيل المثال في مسرحيات »بياع الخواتم«، »ميس الريم«، وغيرهما، أو على صعيد مناقشة علاقة الانسان بالسلطة كآلة قمع ونهب وأيضا مناقشة قضايا أساسية مثل »الحرية« و»العدالة« كما ظهر في مسرحيات مثل »يعيش يعيش« و»الشخص« و»ناطرة المفاتيح« وبشكل أكثر تركيبا في »هالة والملك« وكذلك »صح النوم بدرجة ما«. enter كما قدم المسرح الرحباني كذلك صياغة مهمة لقضية الوطن في مسرحيات كثيرة من نوع »أيام فخر الدين« و»بترا« وربما تتضح أهمية التناول الرحباني لهذه القضية إذا أدركنا ما ينطوي عليه ادراك »الوطن« في لبنان من التباسات وعوائق اشكالية معقدة، الى حد يصعب معه القول بوجود »وطن متفق عليه« في لبنان، ومن هنا فان الرحابنة التقطوا تفاصيل الروح الفلسطينية وطرحوا رؤية الوطن لم يكن مؤهلا لاستيعابها. enter كانت مهمة الرحبانة ومعهم فيروز في هذا السياق غير يسيرة على الاطلاق، حيث كان عليهم أن يتجاوزوا كل هذه الالتباسات والتناقضات ويرتفعوا عليها كي يبلوروا رؤية متماسكة لوطن »واحد« تحرسه قيم معينة، ولعل هذا المأزق بالذات هو ما اضطر الرحابنة للجوء للتاريخ في مناقشتهم لقضية الوطن، وربما كان هذا اللجوء للتاريخ مهما من زاوية أخرى، وهي تكريس المصداقية التاريخية للوطن الصغير، الذي كانت دعواه بالاستمرارية تبدو عادة هشة وغير أصيلة، حتى في نظر الكثيرين من أهله. enter وعلى الصعيد الفلسفي الأوسع، كانت قضية الالتصاق بالأرض والادراك بالغ الخصوصية للعالم من خلال هذه الأرض حاضرة دوما في العالم الرحباني المسرحي، وإن كان يمكننا أن نعتبر أن هذه القضية قد وجدت تجليها الأكثر تجريدا أو شمولية و»ملحمية« مع بعض التجاوز في استخدام اللفظ في مسرحيتهم الشهيرة »جبال الصوان«. enter وفي سياق المسرح الرحباني، تحتل مسرحية »المحطة« مكانة خاصة للغاية، إذ تقف متفردة على صعيد »الموضوع« في عالم الرحابنة وتناقش قضية بالغة التعقيد ومتعددة الأبعاد، وهي قضية حلم الانسان بالسعادة وطموح البشر الى الارتقاء والصعود النفعي، وتطور الانفعالات الدفينة لدى الانسان في مراحل سعيه لادراك سعادته وتحقيق حلمه بشكل يجعل من هذا الطموح نفسه، كاشفا قويا للذات البشرية على حقيقتها، من خلال حالة صراعية مكثفة تمت صياغتها بشكل متقن. enter وقد حكمت المسرح الرحباني مجموعة من القيم العامة، أولها وأبرزها بلا شك الرغبة في التأكيد على الخصوصية اللبنانية، ومن أهمها أيضا قيمة »الحرية الانسانية« في مواجهة السلطة بالمعنى المطلق.. هو مسرح منحاز للفقراء والكادحين، وان ليس بالمعنى الايديولوجي بل بالمعنى الأخلاقي والمثالي العام. enter وقد قاد الطابع الاخلاقي والمثالي العام للمسرح الرحباني البعض الى اتهامه بأنه مسرح قائم على التناقض الطرفي بين اضداد نهاية »خير شر، أبيض أسود، حاكم رعية وإنه بالتالي مسرح لا توجد فيه دراما حقيقية، على أساس ان الدراما الحقيقية القائمة على الصراع داخليا كان أم خارجيا إنما تظهر بين بشر يقفون فيما يمكن تسميته »المنطقة الرمادية« للوعي البشري، والتي تختلط فيها الاضداد ليتحقق المزيج الانساني، بشكل هو حسب رأي هؤلاء النقاد أكثر تركيبا وغنى مما طرحه الرحابنة. enter ورغم أن هذا النقد يحتاج الى مناقشة تفصيلية فإنه مع الاعتراف بأن بعض أعمال الرحابنة تميّزت بطابع طرفي يعطي للصراع بعدا أحاديا ومطلقا، ينبغي التأكيد أيضا على أن معظم الأعمال التي حدث فيها ذلك كانت تاريخية وملحمية تناقش فكرة الأرض والوطن، وهنا فرضت طبيعة الموضوع ذلك الطابع، كما أنه بالنسبة للرحبانية بالذات كان التأكيد على رؤية موحدة للوطن والارض، وبالتالي التأكيد على رؤية موحدة ونهائية لاعداء هذا الوطن وهذه الأرض سواء اعداء خارجيون وسلطة قاهرة أمرا بالغ الأهمية، وهنا تلزم الاشارة الى أن الرحبانة قد نجحوا في أعمال أخرى وخاصة المحطة وهالة والملك في تقديم صراع درامي كثيف ومتعدد المستويات ولا يرتكز على القيم المطلقة. enter وعلى صعيد التقنية والتعبير الموسيقي، وفّر المسرح الغنائي للرحبانية ولفيروز امكانات واسعة لاثراء الغناء ولخلق »معنى مؤسس على حالة فكرية في هذا الغناء، فمن ناحية كرس هذا المسرح قيمة تعدد الأصوات وأدخل تعبيرات وحالات موسيقية مركبة لم تكن موجودة قبلا أو كانت موجودة ولكن بشكل محدود في الغناء العربي، كما تخلى هذا المسرح عن تقديس الصوت البشري من حيث هو أداء حرفية مجردة، وهو ما يسميه الأستاذ نزار مروة »الهرقلية الصوتية« كما تخلى أيضا عن نوع من الغناء الفردي كان يعتبر الأفق الوحيد للغناء، مستبدلا به منظورا آخر أكثر حداثة يتركز على الأشكال الموسيقية الموزعة ذات الطبيعة التعددية القائمة على التعارض والجدل الموسيقي، في اطار بناء متشابك الغرض منه توصيل معنى نهائي معين. enter ورغم ان هذا المسرح قد اهتم اهتماما خاصا بصوت فيروز كمطربة فريدة، الا أنه تم توظيف صوتها بشكل يختلف كثيرا كذلك كما كان سائدا، فالرحابنة حين دربوا صوت فيروز في بداية تعاملهم معها، لم يدربوها فقط على تقنيات الغناء، بل دربوها أيضا على كيفية أن تؤدي بصوتها معنى معينا وتعبيرا انسانيا ما، وقد أدى ذلك الى أن أصبح صوت فيروز أكثر اهتماما بتكريس حالة شعورية معينة لدى سامعيها يرتكز الاستماع فيها على الوجدان والعقل معا، منه بإثارة »آهات« المستمع وضعه في حالة طرب حسي مباشر عن طريق الانتقالات الحرفية البحتة. enter رمز وطني enter مساحة لبنان ليست هي الجغرافيا بل هي مساحة صوت فيروز enter وربما لكل ما سبق، كان طبيعيا ان تتحول فيروز الى رمز وطني لبناني، الى الحد الذي جعل البعض يقول إن مساحة لبنان ليست هي الجغرافيا، بل هي مساحة صوت فيروز، وكان طبيعيا ان يحدث هذا، لأن فيروز جسدت لبنان كوطن من زاويتين: فهي من ناحية غنت لبنان أرضا وناسا وبيئة وتراثا بكلمات راقية وألحان عذبة، كما أنها من ناحية أخرى وهذا هو الأهم قد جسدت عبر كلمات وموسيقى الرحابنة أو عبر صوتها هي شخصيا، مشروعا فنيا لبنانياوطنيا بالغ الاصالة والعمق، بالغ الحداثة والانفتاح على ممكنات الموسيقى في العالم في الوقت ذاته. enter وأهمية فيروز لا تنحصر فقط في المشروع الفني الذي قدمته، بل أيضا في هذا المستوى من الرمزية الذي استطاعت بصوتها الوصول اليه والذي تحوّلت معه من »فنانة مهمة« الى »قيمة وطنية«، إذ استطاعت ان تكون أحد الرموز القليلة للاجماع في بلد مليء بالتناقضات، وان تجعل من نفسها حالة سامية للمتفق عليه الوطني في بلد شاء قدره التعس ان يختلف أهله عليه الى حد الاقتتال العبثي في مرحلة من المراحل. وباختصار شديد، استطاعت فيروز ان تؤمن لنفسها مكانا ضمن باقة استثنائية من البشر الذين شكلوا بأشخاصهم تلخيصا غير مخلّ لأوطانهم. واختلف مع الرأي الذي يعتبر الرحابنة وفيروز مسؤولين بشكل ما في سياق الحرب اللبنانية، على اعتبار أنهم صنعوا للبنانيين »وهما عن لبنان سماوي أخضر، الناس فيه تحب في براءة وتغني في فرح، وهو ما خدر اللبنانيين حسب القائلين بهذا الرأي وجعلهم يعجزون عن ادراك تناقضات واقعهم.. لقد كان وطن الرحابنة محملا بقيم انسانية رفيعة كما كان أيضا محملا بحق الفنان الطبيعي في ان يحلم ويعلن حلمه، ويعني ذلك ببساطة أنهم لم يخدعوا أحدا، بل طرحوا رؤية لوطن لم يكن الواقع مؤهلا لاستيعابها، وهكذا يمكن اعتبار المشروع الرحباني خاصة مشروع الأخوين عاصي ومنصور خاصة أساسية من ضحايا الحرب اللبنانية وليس شريكا في انتاجها بأي معنى من المعاني. enter وكما أصبح الرحابنة وفيروز »قيمة وطنية« على الصعيد اللبناني، تحولوا أيضا الى »قيمة وطنية و»إنسانية« على صعيد فلسطين كذلك، ذلك انهم ارتبطوا منذ بداياتهم المبكرة بالقضية الفلسطينية ارتباطا جوهريا وعميقا، وقد تجلى هذا في أعمال موسيقية كبيرة مثل »مع الغرباء« و»راجعون« وغيرهما. enter ولارتباط الرحابنة بالقضية الفلسطينية أبعاد رئيسية مهمة، فمن ناحية، تعاملت المنظومة الفنية الرحابنة مع هذه القضية بمنطق الشريك والمنتمي وليس بمنطق المتابع أو شاهد الحق، وهكذا تمكنوا عبر صوت فيروز من التقاط الحالة الشعورية الفلسطينية في حنينها الى الأرض وتوقها الى العودة التقاطا بالغ الصدق والثراء والقدرة على التعامل المباشر مع روح القضية في كل حالات تطورها، ولعل اعمالا من طراز »القدس العتيقة« و»بيتنا في بيسان« و»احترف الحزن والانتظار« على سبيل المثال، تنهض شاهدا على مدى قدرتهم على التقاط، تفاصيل الروح الفلسطينية. enter ويحسب للرحبانية أيضا، انهم ابتعدوا بعلاقتهم مع القضية الفلسطينية عن أن توظف في سياق الخطاب السياسي العروبي في الخمسينات والستينات، ورغم ما نعتقده من مصداقية هذا الخطاب القومي تجاه فلسطين خاصة في الطرح الناصري إلا أن اصرار الرحابنة على الابتعاد عنه أو عن أي خطاب سياسي آخر قد اعطاهم حرية حركة واسعة في التعامل مع القضية باعتبارها قضية شعب وارض ووطن وناس ومجموع، وليست مجرد قضية انظمة أو طروحات سياسية أوايديولوجية بعينها. enter ولعل هذاالطابع الشعبي لادراك الرحابنة لفلسطين، قد سهل عليهم التعامل بلا عوائق مع تطورات القضية الفلسطينية، ويظهر ذلك مثلا في تفاعلهم مع ظاهرة الكفاح الفلسطيني المسلح قبيل وبعد حرب 1967 كما تبين في أعمال من نوع »جسر العودة« و»أجراس العودة« و»زهرة المدائن« وغيرها، وقد جعل هذا من فيروز والرحابنة أحد أبرز الأصوات المعبرة عن هذا الكفاح، بشكل يمكن معه القول انهم شكلوا في مرحلة من المراحل، »معادلا فنيا للبندقية الفلسطينية«. enter الرحابنة والغناء المصري enter علاقة تجربة الرحابنة مع المشروع الغنائي المصري ومع مصر بشكل عام تبدو ملتبسة أحيانا، وغير ودية أو على الأقل باردة أحيانا أخرى، فقد شكلت التجربة الرحابنة واحدة من التجارب الأولى لطرح مشروع فني مختلف عن المشروع المصري في الموسيقى والغناء، كمحاولة لخلق شخصية فنية لبنانية مستقلة عن »النمط المصري« الذي كان سائدا في العالم العربي، وكان طبيعيا أن يتخذ الأمر عند الرحابنة صورة »التمرد والرفض« بمعنى ما، فمن يريد الاختلاف عن مشروع سائد خاصة إذا كان هذا الاختلاف رياديا كالحالة الرحابنة فإن عليه ان يعلن ذلك، وقد يكون هذا الاعلان في ظرف كهذا مصحوبا ببعض الضجيج، كأي »اعلان استقلال«. enter
ويمكن تفسير بعض الحدة التي يتميز بها الخطاب الرحباني أحيانا تجاه مصر، والتي تجعل الرحابنة يعتبرون ان من أسباب ظهورهم وركائز مشروعهم، الرغبة في »صد« و»كسر« الموجة الفنية المصرية، وهذا النوع من الخطاب لا يبدو ايجابيا، لأنه يحول الاختلاف الى خلاف، والجدل الى صراع، والفن الى ايديولوجيا، وامكانية التكامل الى ضرورة انعزال. enter الوطن غير المتفق عليه والمهمة الصعبة enter ولعل هذا الأمر بالذات، هو الذي أعاق بشكل كبير وإن لم يمنع نهائيا امكانات التعاون بين التجربة الرحابنة وبين تجارب مصرية، كانت هي الأخرى تحمل في الخمسينات والستينات الثائرة، امكانات اختلاف عن النمط الكلاسيكي السائد، ومن المؤسف ان هذه الاعاقة حدثت رغم استعداد المناخ الفني والثقافي العام في مصر في تلك الفترة لاستقبال الحالة الرحابنة وللجدل معها بشكل أكثر صحية مما حدث. enter وينبغي تسجيل مجموعة ملاحظات جوهرية انصافا للرحبانية، فمن المهم الاعتراف بأن هناك جوانب قصور فنية أساسية في المشروع المصري عززت لدى الرحابنة رغبتهم في الانفصال عنه، فعلى المستوى الشعري، بدا القاموس الغنائي المصري تقليديا ومكررا الى حد الفقر والضحالة أحيانا، كما ان هذا القاموس امتاز بطابع حرفي ومتواتر الى حد أفقده الخصوصية اللازمة للتعبير عن المشاعر تعبيرا صادقا، وهكذا كان ما فعله الرحابنة شعريا، هو انهم وسعوا من ناحية معنى الحب، وجعلوا حالة الحب حالة يمكن ان تشارك فيها الطبيعة والناس والتراث، كما اعطوا مفهوم الحب والحالات الشعورية المعبر عنها بالغناء، »الخصوصية التعبيرية« اللازمة لتحقيق المصداقية. enter وبالطبع لا يعني ما قلناه عن القاموس الغنائي المصري، تعميم ما قلناه عن القاموس الغنائي المصري، تعميم الأمر على كل التجارب المصرية، ذلك أن في مصر تجارب كثيرة مهمة تجاوزت هذا القاموس الذي حصر نفسه غالبا في اطار تصور فقير، الى آفاق اكثر صدقا ورحابة، لكن المشكلة ان معظم هذه التجارب لم تحز الانتشار اللازم ولم تتحول الى اشكاله السائدة. enter ويرتبط بهذا الأمر أيضا، قضية مهمة أخرى، وهي ان الغناء المصري لم يستفد كثيرا أو بالأحرى لم يستفد بالعمق الكافي من التطور الكبير الذي شهدته الحركة الشعرية المصرية نحو آفاق أكثر حداثة وواقعية سواء على صعيد شعر الفصحى أو شعر العامية، وهكذا ظل في مصر تمييز مفتعل بين »الشعر الغنائي« بمعنى المؤلف خصيصا بغرض التحويل الى أغنيات وبين حركة الشعر المصري التي كانت زاخرة بالتطورات، ورغم ان هناك شعراء كبارا ساهموا في كتابة الأغنية في مصر، الا أن الأمر لم يتحول الى حالة أساسية ضمن الكم الهائل من الأغنيات المنتجة، ونحن نعتقد انه لو زاد التفاعل بين الوسط الشعري والوسط الغنائي في مصر، لربما كان هذا قد أغنى »موضوع« الغناء المصري بشكل يجعله أكثر التصاقا بالناس والواقع وأكثر خصوصية أيضا. enter وعلى المستوى الموسيقي، عانى المشروع المصري رغم عدم امكانية التعميم كذلك من أكثرمن مشكلة، فهو من ناحية كرس الأغنية الفردية كقالب أساسي، وهو ما حرمه من الانفتاح على عالم الموسيقى الواسع والمركب، كما كرس من ناحية ثانية فكرة »الامكانية الصوتية« على حساب التعبير، وربما ترجع هاتان المشكلتان الى خلل قائم في الرؤية الموسيقية المصرية، اساسه اعتماد »الطرب« كمعيار وهدف للممارسة الغنائية والموسيقية، ورغم ان الطرب ليس مرفوضا في ذاته بالطبع، الا أن اعتماده كمعيار واساس وحيد للغناء الجيد في الحالة المصرية، قد أدى في كثيرمن الحالات الى افقار هذه الحالة واضعاف بنيتها الفكرية. enter كل الأسباب السابقة عززت ولم تخلق لدى الرحابنة، رغبتهم في الانفصال عن واقع المشروع الغنائي المصري ، الا أنه رغم هذا، يجب أن نسجل لهم، ادراكهم العميق لقيمة سيد درويش مثلا، كمشروع موسيقي وغنائي تعبيري يجسد واقع مصر تجسيدا أصيلا، ويسير في ذات السياق الفكري لهم، ومن هنا احترم الرحابنة الرجل وأكدوا ريادته الأصيلة للمسرح الغنائي العربي الحديث، ولكثير من أشكال التطور التي لحقت بالموسيقى العربية. enter من كل ما سبق، يظهر لنا أن الخلاف الفني بين تجربة الرحابنة وبين بعض أشكال الغناء المصري، إنما هو في الواقع خلاف حول »وظيفة« الفن، خلاف بين مدرسة تؤكد على المعنى والفكرة والقضية، ومدرسة أخرى ترى الحرفة مقياسا للفن وهو خلاف موضوعي بالأساس، ومما يؤكد موضوعيته وجود تجارب »مصرية« مهمة حاولت أيضا التمرد على هذا التصور الحرفي للفن. enter فيروز وصدمة زياد enter لا يمكن الحديث عن الرحابنة وفيروز، من دون الاشارة الى تجربة فيروز الغنائية مع ابنها الموسيقي الموهوب، والجامح زياد الرحباني. enter وهنا أتذكر ان الشاعر اللبناني جوزيف حرب، قال إن هناك مشكلة ما بين فيروز وزياد على الصعيد الفني، وأساسها ان كلا منهما »أتى من عالم مختلف عن الآخر«. enter ولا شك أن مقولة جوزيف حرب تبدو صحيحة الى حد كبير، ففيروز، صاحبة الصوت السماوي الذي جسد الأنوثة المطلقة والطهارة المطلقة أيضا، ممثلة المشروع الرحباني البريء الحالم بآفاقه المتفائلة وعالمه السعيد والمثالي وربما المغرق في المثالية أحيانا ربما كان صعبا عليها ان تتوحد بشكل كامل مع زياد الرحباني، ابن الحرب اللبنانية الذي أدرك بوضوح قسوتها اللامتناهية وعبثيتها الكاملة، وربى وعيه على اطلالها، فكان واحدا من أهم الذين عبروا عن واقعها بصدق بدا صادما وجارحا في كثير من الأحيان. enter إن فيروز بكل ضوابط الصورة التي كونتها لنفسها عند الناس، تبدو مختلفة كثيرا عن زياد وعالمه الجامح، ذلك الجموح الذي وصل الى حد ان اعتبر الرجل ان »لبنان الأخضر كله، هو مجرد أكذوبة لا أكثر. enter هنا، يصبح الخلاف بين زياد وبين أصول المشروع الرحباني، التي وضعها أبوه وعمه بالأساس، وقد عبر هو نفسه عن طبيعة هذا الخلاف حين أكد انه يتعاطف مع المحتوى الموسيقي لتجربة الرحابنة بآفاقها المتطلعة الى العالم، لكنه يختلف عنهم ومعهم في تصوره وموقفه الاجتماعي والسياسي. enter هذه هي بالضبط مشكلة فيروز مع زياد، إن فيروز هي منشدة لبنان الأخضر الذي لا يعتقد زياد بوجوده أصلا، فالرجل يؤمن بأن هناك »لبنان التناقضات« و»لبنان الطائفية« و»لبنان القتل على الهوية« أما »لبنان الأخضر« فيبدو بالنسبة له أمرا غير كائن أصلا. enter ولعل هذا التناقض هو ما دعا البعض في لبنان لاستقبال مشروع زياد مع فيروز الذي بدأ مع »وحدن« وتبلور مع »معرفتي فيك« واكتمل مع »كيفك أنت« بكثير من الدهشة والاحساس بالغربة وربما الغضب أيضا، بل إن البعض ادعى أن زياد يعمل على تهشيم صورة فيروز كرمز في لبنان. enter والأمر لا صلة له بالتهشيم أو التدمير، بل يبدو لنا أن زياد يريد تحويل فيروز من ناطق رسمي باسم لبنان الأخضر، الى صوت مهم في سياق مشروع موسيقي بالأساس، أي أنه يريد تحويل فيروز الى »ناطق موسيقى« باسمه هو. enter وهنا ينبغي الإشارة الى أن زياد لا يريد ولا يستطيع تحويل فيروز الى »ناطق فكري« باسمه، كل ما في الأمر ان الرجل وجد في فيروز »امكانية« مناسبة ومهمة وكبيرة، للتعبير عن طموحه الموسيقى الذي هو مهم وكبير أيضا. enter إن تاريخ العلاقة الفنية بين زياد وفيروز، يجسد محاولة فيروز لتأمين الحد الأدنى من شروط عالمها الذي ألفته واعتادت عليه، ومحاولتها في نفس الوقت تحقيق انتقال صعب في علاقة فنية وعرة بالتواؤم مع عالم زياد، كما يجسد في ذات الوقت محاولة زياد مواءمة صوت أمه مع ما يطمح له معها، وهكذا تبدو علاقة زياد بفيروز محاولة للوصول الى الحل الوسط الذهبي بين »قمر فيروز الناعم« و»أرض زياد الخشنة«. enter ولعل مدى اقتراب أو ابتعاد زياد وفيروز عن تحقيق هذه المعادلة بين عمل وآخر، هو الذي يشعر بعض مستمعي اعمالها بتفاوت مستوى هذه الاعمال بين اعمال ممتازة وتأسيسية، وأخرى متوسطة أو حتى باهتة. enter لعل من أكثر ما أثار سعادتي، ما احسسته من أنهما خاصة في عملها الأخير في مهرجانات بيت الدين قد وجدا معادلتهما معا، التوظيف الناعم والهادئ لصوت فيروز في إطار صياغة شعرية مقبولة، وفي ذات الوقت تحقيق الكثافة الموسيقية التي يتطلبها مشروع زياد. enter ولا بد أن أبدي بعض الدهشة من امتناع زياد الدائم عن تلحين قصائد بالفصحى لصوت فيروز، وربما يرجع هذا الى عدم قناعة زياد بجدوى اللغة الفصحى اصلا، أو كمحاولة منه لاستكمال تمرده على معطيات مشروع الأخوين رحباني.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.