يتزايد عدد الأميركيين الذين، سئِموا من المناخ السياسي والاجتماعي في ظلّ رئاسة دونالد ترامب، باتوا يفكرون جديًا في مغادرة الولاياتالمتحدة، بل إن بعضهم بدأ فعليًا اتخاذ الخطوات اللازمة للاستقرار في الخارج. هذا ما كشف عنه تقرير حديث بثّته شبكة «سي إن إن»، سلط الضوء على ظاهرة متنامية من المنفى السياسي أو الأيديولوجي، خصوصًا منذ عودة الرئيس الخامس و الأربعين إلى السلطة. «سنغادر الفوضى» من أبرز الشهادات التي تضمنها التقرير، ما قالته جيسيكا سيلورا، وهي معلمة من ولاية كارولاينا الشمالية، حيث لخصت الشعور العام بالقلق : «نحن على وشك مغادرة الفوضى. أميركا التي عرفناها و نحن نكبر، تتلاشى بسرعة مذهلة». أمّا زوجها، فقد تحدّث عن حكومة منفصلة تمامًا عن الواقع، تُهيمن عليها – بحسب رأيه – الدعاية أكثر من الحوكمة العقلانية. هذا الشعور، الذي كان في البداية هامشيًا، بدأ يتسلل الآن إلى أوساط النخب المثقفة و الميسورة ماديًا، خاصة بين أفراد من مجتمع الميم "مزدوجي الميول الجنسية" و رجال أعمال و عائلات قلقة على مستقبل أبنائها. و وفقًا لما أفاد به ديفيد ليسبيرانس، الخبير الكندي في شؤون الضرائب و الهجرة، فقد شهدت طلبات المساعدة على الهجرة ارتفاعًا غير مسبوق. «في عام 2024، كنت أتلقى في المتوسط طلبين في الأسبوع، أما في 2025، فأنا أتعامل مع خمسة طلبات يوميًا»، على حدّ تعبيره. ارتفاع ملحوظ في طلبات الجوازات و الجنسيات و تُؤكّد الإحصاءات المتعلقة بالحصول على جوازات سفر أجنبية أو جنسية مزدوجة هذا الاتجاه المتصاعد. ففي الثلاثي الأوّل من سنة 2025 وحده، أودع المواطنون الأميركيون 1900 ملف للحصول على جواز سفر بريطاني و هو رقم قياسي لم يُسجّل منذ عام 2004. أما في إيرلندا، فقد سجّلت السلطات 4700 طلب، في أعلى مستوى لها منذ أكثر من عقد. و تشمل الوجهات المفضلة أيضًا كندا و عددًا من الدول الأوروبية الأخرى. ولا تُعزى الدوافع دائمًا إلى أسباب سياسية مباشرة، كما يوضح بعض المحامين المتخصصين في قضايا الهجرة. إذ تقول محللة مقيمة في لندن : «سياسات ترامب تكون غالبًا الشرارة الأولى، لكنها تتداخل مع عوامل شخصية أكثر تعقيدًا : الإحساس بانعدام الأمان، والخوف من التراجع في الحقوق، والانقسامات الاجتماعية والفكرية المتفاقمة». مجتمع أميركي يبحث عن تماسكه هذا المنحى التدريجي نحو المنفى يُعبر عن انقسام متزايد في المجتمع الأميركي بين مؤيدي ترامب و معارضيه و هو انقسام غالبًا ما يعجز الطرفان عن تجاوزه بالحوار. و يُجسّد الكاتب الأميركي إريك ليندساي، المقيم في إيطاليا منذ 2020، هذا الواقع بالقول : «أصبح من المستحيل تقريبًا أن تتحدث مع أميركي عن السياسة دون أن تتعرض للكراهية إذا أبديت رأيًا فيه بعض التوازن. هنا، يمكنني التحاور دون خوف». و رغم أن الهجرة بدافع سياسي تبقى محدودة على من يملكون الوسائل المالية و الإدارية، فإنها تعكس فقدانًا متناميًا للثقة في المؤسسات و قلقًا عميقًا بشأن مستقبل الديمقراطية الأميركية. إنها إنذار صامت… لكنه بالغ الدلالة و يتجاوز الحسابات الحزبية الضيقة.