بينما تتواصل المعارك على الجبهة العسكرية، تدور معركة أخرى، أكثر هدوءًا وإنسانية بعمق، بين كييف وموسكو: معركة استعادة الجثامين. فقد أعلنت أوكرانيا، يوم الأحد، عن استعادتها 1200 جثمان جديد لجنود سقطوا على الجبهة، في إطار اتفاق وُقّع في إسطنبول بين البلدين. رقم يعكس في آنٍ واحد حجم الصراع وأهمية الدبلوماسية الإنسانية المتزايدة في حرب تدخل عامها الثالث. أرقام تتحدث عن نفسها وزير الدفاع الأوكراني، رستم أوميروف، أوضح أن هذه العملية تندرج ضمن مسار أوسع ومنسّق بين كييف وموسكو. فمنذ دخول الاتفاق المبرم في إسطنبول حيّز التنفيذ، نظّم الطرفان أربع عمليات من هذا النوع، مكّنت أوكرانيا من استعادة جثامين 4812 جنديًا. و بحسب بنود الاتفاق، التزم كل طرف بإعادة ما يصل إلى 6000 جثمان، وبمبادلة أسرى الحرب الأكثر هشاشة، ولا سيما المرضى، والمصابين بجروح خطيرة، والشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا. لكن روسيا، وفقًا لمصدر نقلته وكالة "تاس" الروسية، لم تستلم أي جثمان من الجانب الأوكراني يوم الأحد، ما يثير تساؤلات حول تزامن هذه العمليات وتكافؤها الحقيقي. مسار مؤلم لكنه أساسي قال الوزير أوميروف: "هذا العمل معقّد، دقيق، وثقيل بالمسؤوليات. إنه يتعلق بتوفير إجابات لكل عائلة". وراء هذه العمليات يكمن جهد هائل في الطب الشرعي، وتحديد الهوية عبر الحمض النووي، والتنسيق اللوجستي، فضلًا عن العبء العاطفي الكبير. فكل جثمان يُعاد يحمل حكاية، وحالة حداد معلّقة، ومستقبلًا انكسر. و في هذه الحرب ذات الأبعاد الهجينة، باتت إدارة ملف الموتى أداة ضغط، ومجالًا لصون الكرامة والسيادة. فرفض إعادة الجثامين، أو تأخيرها، أو التفاوض بشأنها، يمكن أن يندرج ضمن استراتيجيات الحرب النفسية والدبلوماسية. دبلوماسية إنسانية على هامش القتال الدور الذي تؤديه تركيا من خلال المفاوضات في إسطنبول، يبرز المكانة المتنامية لبعض الفاعلين الإقليميين الساعين إلى التأثير في الملفات الإنسانية، في وقت تبدو فيه القنوات السياسية مغلقة. وفي ظل جمود جزئي على الجبهة العسكرية، تُعدّ هذه الاتفاقات من المجالات القليلة الممكنة للتعاون بين كييف وموسكو. كما تتيح لبعض الدول — مثل تركيا، وسويسرا، والإمارات — فرض نفسها كوسطاء موثوقين في النزاع، دون الانحياز عسكريًا إلى أي طرف. قراءة استراتيجية: حرب تتجذّر على المدى الطويل حجم عمليات تبادل الجثامين المتزايد يُظهر إلى أي مدى أصبح النزاع هيكليًا، متجاوزًا مجرد الأحداث الآنية. فبالنسبة إلى كييف، تساهم هذه الإعادات في تغذية الصمود الوطني وتعزيز التماسك حول الذاكرة العسكرية. أما موسكو، فإن تحفظها بشأن خسائرها يعكس رغبتها في التحكم بصورة الحرب داخليًا. و على المدى الطويل، تُعدّ هذه العمليات بمثابة محطات تاريخية، وأدلة مستقبلية محتملة في أي لجان تقصّي حقائق أو محاكم دولية. كما يمكن أن تسهم في تشكيل الذاكرة الجماعية لأمتين باتت بصمات الحرب محفورة فيهما بعمق لا رجعة فيه. فمن خلال هذه الجثامين المستعادة، تُكسر الصمت، وتجد العائلات موتاها، وتواصل الأمم صراعها على جبهة أخرى: جبهة الكرامة. خلف كل نعش، جبهة أخرى تُفتح: جبهة الذاكرة والتاريخ.