في الوقت الذي يَعِد فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعادة إحياء الصناعة الوطنية من خلال السياسات الحمائية وتخفيف القيود التنظيمية، يصطدم طموحه بعقبة كبيرة في أحد القطاعات الأساسية: قطاع البناء. تقرير حديث صادر عن مجلة The Economist دق ناقوس الخطر بشأن الصعوبات الهيكلية العميقة التي تعيق تحديث قطاع البناء في الولاياتالمتحدة، وهو ما يشكّل تهديدًا مباشرًا لأهداف إدارة ترامب الاقتصادية. قطاع استراتيجي… متعثر الرهان كبير. فإعادة تصنيع أميركا، وبناء المصانع، ومراكز البيانات، وتحديث البنية التحتية، تتطلب قطاع بناء فعّالًا. لكن المؤشرات الحالية مقلقة. فقد شهدت شركة Turner Construction، أكبر شركة مقاولات تجارية في الولاياتالمتحدة، زيادة في الطلب على المشاريع بنسبة 20% خلال الربع الأول من عام 2025 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، ورغم ذلك، تتزايد التأخيرات وتتصاعد التكاليف، خاصة بسبب تراجع الإنتاجية المستمر. منذ عام 2000، تراجعت إنتاجية العامل الواحد في قطاع البناء بنسبة 8%، في حين ارتفعت في القطاع الخاص الأميركي عمومًا بنسبة 54%. ولم يسلم القطاع السكني من هذه الأزمة، إذ تبني الشركات في عام 2025 نفس عدد الوحدات السكنية لكل موظف كما كان الحال قبل 90 عامًا، مما يساهم في تعميق النقص في المعروض وارتفاع الأسعار. القطاع يعاني من تشتت كبير، حيث تنشط فيه نحو 750 ألف شركة، أي ثلاثة أضعاف عدد الشركات في قطاع الصناعة التحويلية، رغم أن البناء لا يمثل سوى نصف مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي. وتُظهر دراسة صادرة عن جامعة هارفارد أن شركات البناء الكبرى (500 موظف أو أكثر) تُعد أكثر إنتاجية بمرتين من الشركات المتوسطة (100 إلى 499 موظفًا)، وبأربع مرات مقارنة بالشركات الصغيرة (أقل من 20 موظفًا). هذا التفتت، إلى جانب ضعف التنسيق بين المقاولين العامين والمقاولين الفرعيين والموردين، يعوق إنجاز المشاريع في الآجال المحددة. تنظيمات معقدة ويد عاملة نادرة إلى جانب ذلك، تُثقِل التنظيمات المعقدة منذ سبعينيات القرن الماضي كاهل القطاع، حيث تختلف معايير البناء بشكل كبير من ولاية إلى أخرى، بل ومن مدينة إلى أخرى، مما يجبر الشركات الكبرى على التعامل مع شركاء محليين لتجاوز هذه المتاهة الإدارية. كما أن نقص اليد العاملة يُعد من أبرز التحديات. ورغم أن إدارة ترامب اقترحت في مطلع جويلية تخفيف بعض القواعد، مثل معايير الإضاءة في مواقع البناء، فإن تشديده لسياسات الهجرة ونيّته في ترحيل العمال غير النظاميين، قد يؤدي إلى تفاقم أزمة التوظيف في قطاع يعاني أصلاً في استقطاب العمال. مشكلة أخرى تتمثل في ضعف الاستثمار التكنولوجي. فحصة الاستثمار في المعدات والبرمجيات لا تتجاوز 3% من مداخيل شركات البناء، مقارنة ب13% في القطاعات الأخرى. والنتيجة: ضعف كبير في الأتمتة واستخدام الروبوتات. الفارق صارخ: لا يضم قطاع البناء سوى 6 روبوتات لكل 100 ألف عامل، مقابل نحو 3,000 روبوت في الصناعة التحويلية. ومع ذلك، يشير التقرير إلى أن مهامًا مثل تركيب الطوب، واللحام، ونقل المواد يمكن تنفيذها عبر الآلات. لكن تنوع المشاريع، وكثرة الطلبيات الخاصة المصممة حسب الطلب، يجعل من توحيد المهام أمرًا صعبًا، ويُعيق بالتالي تعميم الحلول الآلية على نطاق واسع. وعود ترامب تحت الضغط أمام هذه الصورة المعقدة، وعد دونالد ترامب بتبسيط القوانين الفيدرالية وإنعاش القطاع عبر سياسات تحريرية. إلا أن الرسوم الجمركية التي فرضها على مواد البناء مثل الفولاذ قد تؤدي إلى ارتفاع إضافي في تكلفة المشاريع. كما أن ترحيل العمال المهاجرين غير النظاميين قد يحرم الورشات من اليد العاملة الأساسية في المدى القريب. وفي حين تشمل الطموحات الرئاسية تحقيق الريادة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي وبناء بنى تحتية استراتيجية، يبدو أن الواقع الميداني في قطاع البناء قد يشكّل عائقًا جوهريًا أمام هذه الأجندة. وهكذا، يمرّ قطاع البناء الأميركي بأزمة هيكلية عميقة تتجلى في التأخيرات، ونقص العمالة، وضعف الاستثمار التكنولوجي، والتفكك المؤسسي. وبالنسبة إلى دونالد ترامب، الذي يضع الصناعة في قلب سياساته الاقتصادية، فإن هذه العوائق تمثّل أكثر من مجرد تحدٍّ تقني: إنها تهدد نجاعة رؤيته لأميركا قوية ومكتفية ذاتيًا. وقد تكون معركة إنقاذ قطاع البناء هي التي ستحدد مصير نجاح – أو فشل – استراتيجيته الاقتصادية في أفق عام 2026. تعليقات